بقلم : محمد الطاهر العيسابي الساعة تشير إلى السابعةِ والنصف في أمسيةَ من أماسي العاصمة السودانية الخرطوم ، وشارع " عبيد ختم " صاخب ومزدحم يئن من اكتظاظ السيارات الفارهة والمتواضعة، ندلف على أحد صوالين الحلاقة أنا وابني " مهند "، فمدرسته تعد طول شعورهم بالسنتيمتر، وإلحاحه ما دفعني للمجيء، ومهنة " الحلاقة " في عاصمة السودان لم (تَتَسودن) بعد، حيث أصبح السواد الأعظم الذي يمارسها " أجانب "، هو يعتلي كرسي الحلاق، وأنا أتكئ على كرسي انتظار مريح وأزيز التكييف فوق رأسك يصيبك بالنعاس ويتسلل النوم إلى عينيك بلا استئذان، مع إيقاع طقطقة مقص الحلاق، وشاشة تلفاز في ركن قصيِّ مُهملة على قناة " أجنبية " تدعو للتثاؤب . وأنا في شبه غفوةٍ ، يعيد إلى جسمي نشاطه طرق باب المحل ليدلُف علينا شاب بسيط حسن الطلعة متواضع " الهندام " حيث يرتدي جينز أزرق وتي شيرت، يصطحب معه طفلتين كأنهما زهرتين متفتحتين في الصباح، يتدلى شعرهما على ظهريهما، ويشع من عيونهما بريق وعلى وجنتيهما بقايا دموع، كما ترافقهما والدتهما في عباءةٍ سوداء تكسوها مهابة وحشمة ووقاراً . تحدث الشاب مع العاملين بالمحل ويبدو أنه لم يجد من يصغي إليه أوأدنى اهتمام ، ثم دنا نحوي " طالباً مساعدة " بلكنة أهل الشام " الطريّة " النديّة ، رفعت رأسي إليه ومسحة حزن وانكسار تخفي ملامح وجهه الطفولي ، فسألته من أنت ومن أين جئت؟،أجابني وغصة تكاد أن تسد حلقه، من سوريا " الجريحة " من الشام موطني الذي تشردت منه متسولاً في الأصقاع، حيث دخلت إلى " لبنان " ولم أطيق العيش فيها، فحدثني من سبقوني عن بلادكم السودان، أن بها شعباً أصيلاً كريماً جواداً مضيافاً، انصرف الشاب وأسرته الوديعة، بعد أن قضى أمره، وعشت بعده في " حالة" من تلاطم الأفكار . شردت بخيالي في موطنهِ الذي كان قبلة للراحةِ والاستجمام ، سوريا المعطونة بالجمال ورغد العيش والأمان، أبناؤها اليوم هائمون على وجوههم في كل حدبٍ وصوب يبحثون عن مأوى أو دار ! ما أضيق العيش عندما تفقد "حضن " وطن، نشأت به وترعرعت وسط أهلك الأحباب، ألفا وجهاً قد رأيت ،، ألفا وطناً قد سكنت ،، لكنني مازلت أبحث عنك أنت يا وطن !! " "لاشيء يعدل الوطن "، لازلت أذكر ليالي الغربة الكالحة ومرارة الاغتراب، فمهما تظاهرت بالدعة ورغد العيش وراحة البال، ولكن نبقى نفقد حاجة (تلّح) في الأعماق، فأجمل الأشعار التي نظمت لشعراء في الاغتراب: يازينوبة أبوكي هو أصلو حالو بره لو قاري العلم هو ولاهو سيد خبره ومو زول غربه لكن الظروف جابره مالو إن كان صبر كل الخلوق صابره ،، والصابرات روابح لو يجن قماح ، هذا هو الراحل "عبدالله محمد خير" الذي نظم أجمل أشعاره في الغربة عندما كانت جروح قلبه غائرة وزفراته ساخنة وهو بعيد عن تراب وطنه والأحباب . " لاشيء يعدل الوطن " رغم الرهق و الألم والأوجاع، الذي يمحوها إحساس "الأمان" ودفء العشيرة وبساطة الناس ، فالفرحة هناك من جوا الجوف والضحكة هناك مافيها الخوف . (لاشيء يعدل الوطن إلا الوطن ) .. إلى لقاء ... هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته