في طباعة أنيقة ضمت المجلة الدورية العلمية المحكمة لمعهد أبحاث السلام التابع لجامعة الخرطوم مقالات فى غاية الأهمية باللغتين العربية والإنجليزية أرسلها لي مشكوراً د. محمد محجوب هارون رئيس تحرير المجلة. وأهميتها تنبع من الموضوعات التي تناولتها وكتابها ذوي القدرة العلمية والأكاديمية العالية والخبرة السياسية المجردة من التخندق وضيق الأفق السياسي مما يؤكد فائدتها خاصة في الظروف الحالية التي دخلنا فيها في نفق مظلم يحتاج إلى العقول والحكمة بالدرجة الأولى وإلى خطوة في الطريق إلى ما يصلح كما ذكر د. محمد في تقديمه للمجلة. أثارت المجلة قضايا حول جدلية صناعة الدستور في السودان كما كتب الطيب زين العابدين وصناعة الرأي الاستشاري للطيب حاج عطية (مع حفظ الألقاب العلمية) وتصور مآلات الوضع اللغوي في دولة جنوب السودان الوليدة بعد الانفصال لكمال محمد جاه الله والواقع الاجتماعي والثقافي لقبائل التمازج لمحمد إسماعيل علي والمنظور الاستراتيجي للحفاظ على وحدة السودان للخير عمر أحمد ثم مقال بركات موسى الحواتي حول السودان بعد الفترة الانتقالية لاتفاقية نيفاشا وتداعيات التغيير في شكل الدولة وضرورات الإصلاح الدستوري والإداري وتداعيات قضية أبيي على ضوء الانفصال.. إلخ القضايا التي أثارتها المجلة التي تشكل في تقديري قضايا عاجلة تحتاج لمفكرين وسياسيين ذوي بصيرة نافذة أكثر من متصارعين لوضع دولتين السودان الشمالي والجنوبي في مسارها الصحيح. لقد خلص (الطيبان) إلى نتائج مهمة فالطيب زين العابدين يقول بفشل كل الأنظمة الديمقراطية الثلاث والعسكرية الثلاث أيضاً في صناعة دستور يحظى بقبول القوى السياسية بالبلاد وأنه يتعين على الدستور أن يعكس رأي الأغلبية ولكن بنفس القدر ينبغى أن يأخذ في الاعتبار مخاوف وهموم الأقليات وأن يوفر الدستور أرضية مشتركة يستطيع من خلالها أناس ذو أفكار متنوعة أو متعارضة ومعتقدات وثقافات مختلفة أن يتداخلوا دون اللجوء إلى سطوة السلاح.. ولعل هذا ماعنيته عندما استصحبت فى مقال سابق لي قول المرحوم الزعيم البوسني علي عزت بيجوفيتش مفهوم (الدستور العاقل) فلو اتبعت القوى السياسية منذ الاستقلال هذا المفهوم دون اللجوء للتطرف الفكري والتخندق السياسي الذي ارتكز على المكايدات السياسية والشعارات ومحاولة إقصاء الآخرين لما احتجنا إلى الانقلابات العسكرية والثورات السياسية ودخلنا في هذه الدائرة الجهنمية التي أضرت بفاعليها مثلما أضرت بالآخرين وبالوطن كله فكان حصاد الهشيم وصدق قول الشاعر (ومن يجعل الضرغام بازا لصيده... تصيده الضرغام فيما تصيدا). أما الطيب حاج عطية فيؤكد أن السودان مازال عالقاً في المرحلة التاريخية التي تغمر القارة الإفريقية بشكل شبه تام وتحديداً الانتقال العسير والمتطاول نحو بناء الأمة وطبقاً لذلك يتغير الموقف السوداني الراهن بالانتقال من الحرب الأهلية إلى السلام النسبي ومن الشمولية إلى الوعد الديمقراطي لذلك يتوجب علينا أن نأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية- الاقتصادية التي تؤثر في الانتقال إذ تقدم اتفاقية السلام الشامل فرصاً وتحديات في طريق الديمقراطية والسلام الدائم. وفي تقديري هذا صحيح فقد كان المفترض أن نفهم جيداً وبوضوح أن اتفاقية السلام مقصود في جوهرها حل مشكلتين أساسيتين هما كيفية إدارة التنوع ومواجهة مطالب الهامش ثم الاسراع بعملية التحول الديمقراطي وكيف يحكم السودان، ولكن للأسف فشلنا في ذلك فحدث ما حدث ولا أدري على وجه الدقة ماذا سيكون المصير لكلا الدولتين في ظل أوضاع اقتصادية مأزومة فهل سنظل نعتمد دائماً على الغير لحل مشاكلنا أم ماذا؟ المجلة ممتازة ومفيدة لكل السياسيين حاكمين ومحكومين وكافة المجتمع المدني والنظامي فنحن في حاجة ماسة لفكر متين لسودان متجدد. وإذا كان لي من ملاحظة فأرجو الاهتمام بتوسيع الحوار والكتابة في الفكر والسياسات الاقتصادية السودانية أيضاً فنحن نحتاج لذلك لنخرج مما نحن فيه مثلما أنقذ المفكر الاقتصادي كينز بريطانيا من تداعيات آثار الحرب العالمية الثانية حيث كان لكتاباته أثر إيجابي واضح فليس بالسياسة وحدها نحقق أهدافنا.