مؤتمر المائدة المستديرة الذي رعته جامعة الخرطوم في مارس 1965 عقب ثورة اكتوبر وأُسندت رئاسته الى مدير الجامعة يومها البروفيسور النذير دفع الله، بينما تولى سكرتاريته الراحل محمد عمر بشير، ظل يجسد مثالاً حياً للتقارب ثم التباعد بين من يملك الرأى الاستشارى الإيجابى وصُناع القرار السياسى. وقد أتاح هذا المؤتمر ولأول مرة التقاء القادة السياسيين فى الشمال والجنوب حول مائدة مستديرة لا يعلو فيها طرف على آخر، وبإشراف دقيق ونزيه من مؤسسة أكاديمية تُحظى بتقدير الجميع، فضمت الأطراف السياسية المشاركة فى المؤتمر وفقاً لبيانه الختامى كلاً من جبهة الميثاق الإسلامى، الحزب الوطنى الاتحادى، حزب الشعب الديمقراطى، جبهة المهنيين، حزب سانو، الحزب الشيوعى السودانى، جبهة الجنوب وحزب الأمة. وقد أفضى المؤتمر الى لجنة تضم إثنى عشر عضواً «لجنة الإثنى عشر»، أوكلت لها عدة مهام أبرزها دراسة مسألة التنظيم الدستورى والإدارى الذى يحمى المصالح الخاصة للجنوب، ولكن اللجنة مع الأسف انتهت الى لا شىء بفعل فتور جذوة الفعل الثورى وانشغال النخب السياسية بصراع الحكم، مما أهدر فرصة تاريخية للسلام، وترك مثالاً صارخاً لتباعد المسافات بين مؤسسات الرأى الاستشارى ومن يصنع القرار. ومجلة خطاب أو Discourse «وهذا اسمها باللغة الإنجليزية لكونها تصدر باللغتين العربية والإنجليزية» جاء العدد الأول منها الذى صدر فى هذه الأيام، ليعمل على تدارك هذا التباعد والإصرار على تقليص مسافاته ببذل الرأى الاستشاري المجرد من الميل والهوى والملتزم بالإسهام المثمر فى قضايا النزاعات والسلام والسياسة العامة والمعرفة الاجتماعية، فالسودان أصبح حالة مثالية للنزاعات الأهلية متطاولة الأمد، على حد قول الدكتور محمد محجوب هارون رئيس تحرير المجلة ومدير معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم، وهو يقدم لهذه الإصدارة. والمجلة جاءت حافلة بالمقالات والدراسات التى تناولت أزمات وقضايا الساعة: جدلية صناعة الدستور فى السودان.. الطيب زين العابدين، فى صناعة الرأى الاستشارى.. الطيب حاج عطية، تصوّر مآلات الوضع اللغوى فى جمهورية جنوب السودان.. كمال محمد جاه الله، الواقع الاجتماعى والثقافى لقبائل التماذج والتماس فى جنوب دارفور.. محمد اسماعيل على اسماعيل، منظور استراتيجى للحفاظ على وحدة السودان.. الخير عمر أحمد سليمان، تداعيات التغيير فى شكل الدولة بعد نيفاشا.. بركات موسى الحواتى، تداعيات قضية أبيي على ضوء انفصال جنوب السودان.. عبد الرحمن أرباب مرسال، بجانب نص محاضرة الرئيس تابو مبيكى بعنوان: السودان وأفريقيا.. رؤية للمستقبل، وعرض لبعض الكتب الحديثة المهمة مثل كتاب: الحشود.. الجمهرة والقوة Crowds and Power لإلياس كنتى واستعرضه أحمد محمد الحسن، وكتاب: موقع تركيا ودورها فى الساحة الدولية لوزير الخارجية التركى أحمد داود أوغلو وقام بعرضه خالد التيجانى النور، الى جانب مواضيع أخرى أبرزها مبادرة جامعة الخرطوم حول جنوب كردفان، وندوة العدد بعنوان: قصة سودانين أو A Tale of Two Sudans التى شارك فيها لفيف من الأكاديميين والسياسيين من بينهم لام أكول وبخارى الجعلى وعابدة المهدى والطيب حاج عطية. ومن الجيد أن المجلة تحررت بعض الشىء من صرامة الكتابة الأكاديمية دون التحلل من المنهج العلمى، مما يمكنها من إيصال خطابها الى شرائح أوسع فى المجتمع، فمسرح السياسة فى بلادنا لم يعد قاصراً على محترفى السياسة وبعض الأكاديميين، والمواطن العادى بات لديه توق للاستنارة المعرفية الرصينة، وثمة نخب جديدة تعدو فى المضمار قوامها الحراك السياسى المطلبى الذى ينتظم أقاليم البلاد بعيداً عن المركز، بجانب منظمات العمل الطوعى التى أوشكت تحت ظل العولمة أن تصبح الوريث الطبيعى للأحزاب السياسية. وفى مثل هذه الأيام الحرجة التى تُقرع فيها طبول الحرب بين دولتى الشمال والجنوب وتتصاعد نذر الحرب فى هجليج فإن مجلة «خطاب» مع غيرها من الإصدارات الأكاديمية التى ترفدنا بها المراكز البحثية السودانية، هى أصوات العقل التى يبادر بها أهل العلم، ونأمل أن يسمعها ويتدبرها صانعو القرار وأهل السياسة.