برغم الدموع التي كانت تتداعى لتتسلل مع تسلسل فقرات احتفالية تدشن مهرجان وردي الوطن أمس الأول بالمسرح القومي بأمدرمان، إلا أن متعة كبيرة وفرحة عارمة اجتاحتنا والكل يتدافع ويتداعى ليكون حضوراً في ذلك الحدث الفني و(الوطني) الأضخم في السودان، كيف لا..وهو محمد وردي، تلك القامة التي لاتخطئها إلا العيون الرمادية، ولا تتجاوزها إلا الأقلام المعطوبة، ولاتغفلها إلا النفوس المثقوبة من (دُبر) السطحية، نعم..جاء الجميع ليكونوا في تلك الليلة في رحاب وردي، فنان بقامة وطن، وبهامة جبال توتيل والتاكا، وبوسامة النيلين وخضرة الجزيرة. ولعل أبرز المشاهد التي لفتت نظري في الليلة هي مشاركة الفنان الكبير صديق أحمد برغم ظروفه الصحية والتي استدعت أن يأتي للمسرح متكئاً على عكازين، ومتأبطاً للكثير من الوفاء الذي بلل باحة المسرح، وجعل الجميع يقفون تصفيقاً لمثل ذلك الوفاء النادر جداً في زمن المصالح والتقاطعات (السجم). نعم..وردي يستحق ذلك..بل وأكثر من ذلك، فيكفي أنه مدرسة ربما لن تتكرر في المستقبل، ونيل ثالث في هذا الوطن، ارتوى من إبداعه الكثيرون، ورسخوا لأنفسهم تجارب ذاتية بالارتكاز على تلك المدرسة، وأقول من هنا شكراً لكل من ساهم في إنجاح ذلك المهرجان، شكراً لكل من جاء وفاء لوردي، وشكراً لكل من سالت عيناه دمعاً خلال الليلة، ويكفيه أنه غسل تلك العيون من درن كثير أوساخ يحملها هواء الساحة الفنية هذه الأيام. الشباب كذلك شاركوا ولم يقصروا خلال الأمسية، وغنت الواعدة شذى عبد الله فأجادت برغم صعوبة التحليق مع عصافير خريف وردي، وغنى الشاب المهذب و(المظلوم) أبوبكر سيد أحمد واستحق كل ذلك التصفيق الذي جاء (بعد أيه)، وغنى كثيرون لكن لصوت عثمان مصطفى حيز خاص، ومساحة خاصة جداً لايدركها إلا هو، ومدى صوتي ربما يكون نادراً في السودان، وغنى حمد الريح وحكى حكاية مابينه وبين وردي والأيام، فكانت حكاية تستحق التأمل، وجاء (الوفي) عبد القادر سالم، وجاء آخرون، وكلهم كانوا في محراب وردي، وكان وردي في محراب يتلألأ إبداعاً، ويتوهج تاريخاً. جدعة: كالعادة..لم تفسد مهرجان وردي إلا مذيعة النيل الأزرق-التي لا أستحضر اسمها- والتي كانت تحاول بشتى السبل فرض نفسها على الليلة، من خلال بث القناة للحفل على الهواء مباشرة، مما جعل الكثيرون ممن تابعوا الحفل يبدون استياءهم من تلك (الشلاقة) الغريبة التي مارستها تلك المذيعة، والرسالة موجهة هنا لجنرال القناة حسن فضل المولى بأن يحرص في المستقبل على إصدار موجهات لاختيار كوادر تتناسب مع الحدث، (مع أن ليلة وردي لاتحتاج أصلاً لمذيع). شربكة أخيرة: تمنيت من كل قلبي في ليلة وردي، أن يتم جمع كل شعراء (القزازة) وملحني (الترللي) وفناني (الحقنة والكباية)، وأن يجلسوهم على مقاعد في الصفوف الأمامية من أجل أن يعرفوا كيف يُصنع التاريخ، وكيف يوثق العظماء لحياتهم مابعد الموت، تمنيت أن يستمعوا لكلمات وألحان تلك الأغنيات الخالدة، وأظن أن بعضهم كان سيعتزل فوراً هذا المجال-إذا وضعنا في اعتبارنا أنه فنان- أما من يبقى منهم فبالتأكيد لن يردد مثل تلك الأغنيات (الهايفة)، وسيعمل على تطوير نفسه في المستقبل، إن لم يكن من أجل التاريخ، فمن أجل (الحياء) على مايردد.