جاء في محكم التنزيل (وقالوا مال لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيراً) صدق الله العظيم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من شرها وشر مافيها او يصيب فيها يميناً فاجرة أو صفقة خاسرة .. هذا هو السوق الذي يقصده المواطن لشراء احتياجاته الشخصية ومستلزماته الأسرية بالرغم من إرتفاع الأسعار الذي تشهده هذه الأيام. تنتشر الأسواق في أنحاء متفرقة من العاصمة ومواقع مهمة مثل مواقف المواصلات والتجمعات السكنية ومنحنيات الطرق أو الميادين العامة، بعضها سمي بأرقام حسابية. وأخرى بأيام الاسبوع بما فيه الجمعة والعطلات الرسمية .. وكذلك تسمى بأسماء شخصيات ورموز مثلاً سوق خليفة، سوق الوالي، سوق سعد قشرة وصابرين، وقد لحقت هذه الاسماء بالمدن والبلدان والاحياء، مثل سوق الشجرة سوق أمدرمان، سوق ليبيا، سوق أم دفسو وغيرها بيد أن كلمة سوق تطلق على بعض المنتديات والملتقيات الشعرية والادبية والثقافية مثل «سوق الموية» الذي كان ينظم في ميدان البوستة بأمدرمان في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.. ومن أشهر الاسواق الادبية سوق «عكاظ» وهو موضع بمكة المكرمة كانت تقوم به سوق للعرب يجتمعون فيه بكل قبائلهم لتناشد الأسعار مرة من كل عام في شهر ذو القعدة.. إذن الاسواق لا تشكل مراكز تجارية تنشط فيها حركة البيع والشراء والزبائن وأفتح الله استر الله .. بل هي كيانات إجتماعية وثقافية وترفيهية .. ولكن يبقى سوق أمدرمان هو «الاصل» وسيدها وأعرقها نلمح فيه أصالة وثقافة وتاريخ وتراث هذه الأمة الذي يلبي احتياجاتها ومتطلباتها حتى «لبن الطير» يمكن أن «يحلب» أو «يجفف» ويباع هنا في سوق أمدرمان.. يضم بداخله شوارع وأزقة يطلق عليها سوق مجازاً مثل سوق العناقريب والتي هي من موروثاتنا الشعبية التي انحسر دورها قليلاً في ظل الاثاثات الحديثة والمستوردة غير أن له وجود فاعل في حياتنا وتتجسد من خلاله أفراحنا «عنقريب الجرتق» واتراحنا «عنقريب الجنازة» .. وأيضاً سوق الجلود بعد دباغتها وتجفيفها تخضع لعملية التصنيع الى مصنوعات جلدية ذات مواصفات وجودة عالية تنافس في الاسواق العالمية وتحقق عائداً وقيمة إقتصادية كبيرة.. ومنها ما يغلب عليه الطابع الشعبي ومن بينها ما يستخدم في حفظ اللبن والماء وتبريده مثل «القِربة» ويستعملها المسافرون براً في رحلاتهم الطويلة والبعيدة.. وأيضاً «الزِق» وهو وعاء لحفظ الأطعمة والماء والشراب وغيره وردت في احدى الموشحات الاندلسية الشهيرة: أيها الساقي اليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع يا نديماً همت في غرته وبشرب الراح من راحته كلما افاق من سكرته جذب «الزِق» اليه واتكى وسقاني أربعاً في أربع ثم زقاق الخراطين وهؤلاء من الحرفيين المهرة الذين يعملون في نحت ونقش أخشاب التيك والابنوس وسن الفيل التى يصنعون منها الى «عاجات» وهي نوع من الحلي كانت تتزين به النساء في أزمان فائتات: العيون مثل الفناجين السنون براقن يشيل الضمير «عاج» التكارير وأيضاً تصنع الى مجسمات تسمى «الاناتيك» فيها من الابداع والبراعة والفن والجمال ما يجذب السياح والاجانب الذين يقومون باقتنائها وحفظها كأشياء ثمينة.. ونطوف بشارع الصياغ فهؤلاء الذين يقومون بصناعة الذهب وعرضه في فترينات «يزغلل» العيون ببريقه ولمعانه. ونعرج على «القصيرية» وهو مكان تجمع الترزية الذين يمهرون في تفصيل الملابس الرجالية من العراريق والسراويل والجلاليب خاصة «جناح أم جكو» وتزدهر هذه الصناعة في مواسم الاعياد بحيث يسهرون حتى الساعات الاولى من صباح اليوم التالي .. وفي سوق أمدرمان نلمح السروجية الذين يعملون في صناعة السروج و«اللبد» وهي عبارة عن مقاعد من القماش والخشب توضع على ظهور الدواب ليجلس عليها من يقودها ويسوقها ثم كانت صناعة «الرحاطة» وهي من الصناعات التي اندثرت تماماً وهو عبارة عن قطع رفيعة من الجلد يصنع في شكل سيور طويلة تربطها المرأة على وسطها وتتدلى هذه السيور الى ركبتيها.. وكانت تلبسها العروس في يوم «قطع الرحط» فيقوم العريس بقطع احدى هذه السيور وينثرها على الفتيات «فألاً حسناً» وسط زغاريد النساء وهي من عاداتنا وتقاليدنا البالية. ومن المعالم التي كانت تزين وجه سوق أمدرمان «زنك الطواقى» الذي أزيل بقرار جائر ومجحف قبل سنوات .. فقد كان يضم النسوة اللائي كن يمتهن بشرف وأمانة وعزة نفس في الصناعات اليدوية الصغيرة من السعف والفخار والحديد والالمونيوم.. وايضاً عمل «الطواقي» بانواعها المختلفة وكان أشهرها «ابرة لولي» وهذه لا يلبسها إلا العريس «يوم الصبحية» أو كبار التجار أو شيخ الحارة أو علية القوم مع الجلابية «السكروتة» ومركوب النمر والعصا «الكريزة» لزوم المنجهة والعظمة والسلطان.. ثم زنك اللحم وتوجد فيه أطيب أنواع اللحوم وله «جزارين» معروفين، تجاوره «الملجة» وهي المركز الرئيسي للخضروات التي يأتي بها الخضرجية من الريف الشمالي ثم توزع على البائعين وأحسب أن هذه الملجة تحولت الآن الى موقف للعربات .. ومن المهن الأخرى والكوادر المهمة في حركة السوق شريحة «العربجية» الذين يجوبون السوق جيئة وذهاباً يحملون البضائع على ظهورهم تارة وأخرى على متن عربات «الكارو» التي يجرها الخيول .. ويبدو أن «الدرداقات» قد سحبت البساط من تحت حوافر الخيول .. وأيضاً «التشاشة» الذين يعملون في تجارة البهارات ومثلهم التمارة تخصصوا في أنواع التمور، القنديلة والبركاوي، ومن أهم المحلات في سوق أمدرمان «عطارة التيمان» ذات البخور «العابق» وهي عبارة عن صيدليات شعبية تتوافر فيها كل العشبيات التي تنمو في السودان أو موطنها منهم الدول الآسيوية أو الافريقية وكذلك محلات «ابومرين» التي عرفت بالحناء وأدوات الزينة للعروس من الجدلة والرشمة والخرزة والضريرة والحريرة .. وهذه تذكرنا بمحلات «العدني» سابقاً الاكسسورات التي كان يأتي بها من منطقة عدن واليمن كواحد من التجار الاجانب ونظيرة «الطوخي» الذي اشتهر بلعب الاطفال .. وفي سوق أمدرمان برزت مهارات بعينها مثل الحداحيد، السمكرية، الصرماتية حتى «الفسيخ» هناك الذين يتعاملون معه كمهنة أساسية لها زبائن ورواد.. هذه ملامح من سوق أمدرمان أو السوق الكبير الماضي والحاضر الذي يشهد الآن ازدحاماً وفوضى باتت تشكل هاجساً وخطورة للزبائن حيث ينعدم الامن والطمأنينة والسلام وغزته فئة من البشر منهم المتسكعين والمتسولين والنشالين والمحتالين والبضائع نفسها اصبحت مغشوشة ومزيفة، وهناك تردٍ مريع في صحة البيئة بالإضافة الى الباعة المتجولين والذين يفرشون على الأرض مما يسبب عائقاً في حركة السير والمرور.. لذلك نناشد المسؤولين العمل بحزم وحسم كل المخالفين والمارقين وأيضاً إصحاحه وترتيبه وتنظيمه وتحديثه حتى يجد فيه الزبون متعة التسوق والجمال.