استباقاً لزيارة سلفاكير رئيس جمهورية جنوب السودان للعاصمة الخرطوم، أوضح مسح مسبق لهيئة الإذاعة البريطانية أن العديد من الجنوبيين الموجودين بالشمال ينظرون بتخوف وقلق لما يكتنف حالهم بعد انفصال الجنوب، ويعتريهم شيء من التشويش بصدد ما سيكون عليه مستقبلهم. فقد قالت لنا مقبولة عثمان: ترك الناس منازلهم بعد الوعود التي كانت بترحيلهم إلى الجنوب لكنهم ينتظرون الآن في بؤس. " جنوبية: ترك الناس منازلهم بعد الوعود التي كانت بترحيلهم إلى الجنوب لكنهم ينتظرون الآن في بؤس " بينما أوضح لنا مكواج أدول مالك أنّ لديه مشكلة قائلاً إنها مشكلة يشترك فيها مئات الآلاف من السودانيين الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال، فبعد أن أصبحت منطقتهم دولة مستقلة ظلوا يواجهون فقدان الجنسية السودانية، وربما يطالهم ما هو أكثر من ذلك بكثير نتيجةً للانفصال. ويستأنف السيد مالك قوله: "استقلال جنوب السودان قد خلق مشاكل بالنسبة لي" مضيفاً: "أشعر أنني في خطر عندما استخدم وسائل النقل العامة, حينما يسألني الناس: لقد رحل إخوانك فماذا تفعل أنت هنا؟ ولكنني أقول لهم لدي معاشي وحقوق أخرى هنا"، ولقد ولد السيد مالك في الخرطوم منذ حوالي نصف قرن، وعمل كمدرس وجندي. وقال إنه يتحدث العربية، وليس الإنكليزية، اللغة الرسمية الجديدةلجنوب السودان. لكن بالرغم من ذلك, قال إنه واحد من الآلاف من أبناء جنوب السودان الذين تجمعوا في محطة للسكة الحديد في ضواحي الخرطوم، منتظرين القطار الذي سيقلهم من الخرطوم إلى موطنهم الذي لم يألفوا الحياة فيه من قبل. في محطة السكة حديد تتكدس الأسرّة وأواني الطبخ في انتظار القطار الذي سينقل هؤلاء الناس إلى مكان لم يكن قد رأوه من قبل إذ عاشوا في الشمال كل سني حياتهم. وهنا يقول لنا مالك موضحاً :لم أقرر العودة إلى الجنوب، ولكن قيل لي "جنوب السودان من جانبكم قد قرر أن يصبح دولة مستقلة، مما لا يبقي لك شيئاً هاهنا". ويضيف قائلاً إنه سوف يأخذ عائلته إلى منزل أجداده، وهو المكان الذي يعرفه بالكاد، ثم يعود إلى الخرطوم في محاولة للحصول على معاشه. المغادرة.. ولا خيار سواها على بعد بضعة كيلومترات على طول الطرق المعبدة عبر الصحراء، رأينا 545 من السودانيين الجنوبيين يعيشون حياة قاسية تحت أشعة الشمس الحارقة في انتظار وعود دولة جنوب السودان. من بين أولئك تحدثنا إلى جيروم الذي قال لنا "سأفقد الجنسية السودانية، قد لا تكون تلك هي المشكلة ولكن المشكلة هي أنني ذاهب ولا مستقبل لي في الشمال". تركوا منازلهم في ديسمبر كانون الأول وما زالوا ينتظرون للحصول على المال الذي كانوا قد وعدوهم به للسفر بالحافلات إلى الجنوب. لقد شيدوا ما يأوون إليه من كل شيء تيسر لهم مثل استخدام قطع من الخشب أو كلما توفر لهم من قطع الملابس القديمة والمناشف. برزت لنا مقبولة عثمان التي بدت لنا كزعيمة للآخرين، إذ دُفع بها إلى الأمام من قبل سكان بلدة الخيام المرتجلة للحديث نيابة عنهم. وتحدثت إلينا قائلة وهي تشير إلى ما من معها: "إنهم أناس فقراء، منهكين بلا مال، لا يعرفون ما يجب عليهم القيام به". وصمتت ثم استأنفت: "أطفالهم خارج المدرسة منذ أن قيل لهم إنهم سيرحلون إلى الوطن الجديد". وأضافت: "إنهم أناس يعيشون في بؤس شامل، مع عدم توفر أي شيء يسدون به الرمق". مقبولة ومن برفقتها هنا يلقون باللوم على كل من الخرطوم والحكومة الجديدة في جوبا، قائلين إن مسؤولية توصيلهم أو ترحيلهم للجنوب تقع على الطرفين. لكنهم بالرغم من ذلك يشعرون بالوطأة التي توضح لهم بأنه ليس لديهم خيار بعد الانفصال سوى مغادرة الخرطوم التي ألفوا الحياة فيها. الخرطوم.. نقول شكراً لك بالطبع، ليس كل ممن هو من جنوب السودان ويعيش في مدن الشمال يعيش مثل هذه الحالة الصعبة، فالشاب بانجانق, وهو سياسي يعيش في راحة إلى حد ما, فهو يجلس على الأرائك في غرفة معيشته المريحة حيث يمكنه مشاهدة تلفزيون جنوب السودان عبر طبق الأقمار الصناعية. " جنوبي: الخرطوم تلقتنا أثناء الحرب لذلك نحن نقول شكراً للخرطوم " يقول: "هؤلاء الذين جاءوا إلى الخرطوم حصلوا على تعليمهم وانهمكوا في نمط الحياة في الخرطوم" ثم يضيف قائلاً: "لا يمكنك القول بأنهم لا ينتمون إلى الخرطوم، إنهم ينتمون إليها بكل المقاييس". ويضيف بشيء من العرفان: "تلقتنا الخرطوم أثناء الحرب لذلك نحن نقول شكراً للخرطوم!"، وقال إنه ورفاقه يعتزمون التوجه إلى جنوب السودان. كما إنهم يعتقدون بما أن الجنوب قد أكمل انفصاله، فإنه لا يمكنهم اعتبار أنفسهم شماليين. وسوف يصبح هذا الرأي عمّا قريب حقيقة دامغة. ازدواجية الجنسية غير ممكنة تجدر الإشارة إلى أن المجلس الوطني لشمال السودان قد أقر مشروع القانون الذي يسحب من أي شخص تعتبره السلطات من جنوب السودان الجنسية السودانية. وقد قال ربيع عبد العاطي وهو مسؤول كبير في وزارة الإعلام في تصريح له: "عندما اعترفت حكومتنا بالانفصال، فهذا يعني أن جميع الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال لن يكون لهم الحق في التمتع بالجنسية الشمالية"، وأوضح قائلاً: "هذا لا يعني أنهم جميعاً سيكونون محرومين من الجنسية، ولكن سيتم النظر في وضعهم على أساس كل حالة على حده". القانون لا يزال يتعين توقيعه من قبل الرئيس الذي سيحتفظ بحق استعادة الجنسية السودانية لأولئك الذين فقدوها. ولكن المسؤولين السودانيين كانوا قد أوضحوا الأمر جلياً قائلين إن الجنسية المزدوجة لن تكون خياراً. ويبدو أنه ومن المرجح أن السودانيين الجنوبيين سيكونوا قادرين على الحصول على نوع من حق الإقامة. بيد أن الأوضاع الراهنة تبدو غير واضحة تماماً. القوانين السارية لا تعطي الأجانب حق التملك في السودان، وهو ما يعني أن فقدان الجنسية السودانية سيكون مشكلة كبيرة للأثرياء من أهل جنوب السودان الذين يعيشون في الشمال. من جهة أخرى قال كبير مستشاري الرئيس السوداني نافع علي نافع: ستكون هناك فترة انتقالية لمدة تسعة أشهر للأفراد لترتيب أوضاعهم. ولكن ذلك سيكون أمراً في غاية الصعوبة في بلد تعوذ الكثير من الناس الوثائق الثبوتية والأوراق الصحيحة. ثم هناك قضية أولئك الذين يمكن أن يصنفوا كأشخاص يعانون مشاكل خاصة تجعلهم عالقين بين البلدين، فجدة محمد نور وهو من أبناء الدينكا تعيش في جنوب السودان بينما يعيش هو وبقية عائلته في الشمال، وكان قد تم التعاقد معه كأحد الجنوبيين لينخرط في الخدمة المدنية في الشمال تطبيقاً لبعض بنود اتفاقية السلام الشامل لكنه خسر وظيفته منذ أن أصبح الجنوب مستقلاً. وعند التحدث إليه قال لنا: "إنه لأمر سيئ للغاية، إنه يشبه تماماً تقسيم شخص واحد إلى اثنين" ولكن إذا أخذت السياسة وظيفته بعيداً، فماذا عن جواز سفره السوداني؟ بهذا الصدد قال لنا: "أنا لا أعتقد أنني سوف أفقد جنسيتي. عملياً من الصعب جداً أن تنتزع من الناس موطنهم!" ولا تزال أوضاع أولئك الذين ولدوا لوالد شمالي وأولئك الذين تربطهم روابط أسرية مع الشمال والجنوب في ذات الوقت غير واضحة حتى الآن. "شمالي لا.. جنوبي لا" يقدر أن هناك 800،000 إلى مليون نسمة من أهالي جنوب السودان يعيشون الآن في شمال السودان. وبحسب التقارير فإنه ومنذ الخريف الماضي أقدم ما يزيد عن ال30000 جنوبي على السفر إلى الجنوب وقد شق معظمهم طريقهم إلى جنوب السودان. ويرجح أن الكثيرين ربما يلحقون بهم. " التقديرات تقول أن هناك 800 ألف إلى مليون نسمة من أهالي جنوب السودان يعيشون الآن في شمال السودان " وفي تصريح لبيتر دي كليرق ممثل السودان لمفوضية شؤون اللاجئين بالأمم المتحدة قال: "كثير من الناس ولدوا بالشمال، وبدأوا حياتهم فيه, ولديهم أطفال في المدارس الشمالية، وهؤلاء لديهم العديد من الأسباب في الواقع للبقاء في الشمال". وأضاف قائلاً: "لكن بالنسبة لهم، مع احتمالات سحب الجنسية والشروط التي تكتنف أحوالهم للحفاظ على أوضاعهم فإنه قد يكون من الصعب الحفاظ على بقائهم في الشمال، و"لذا فإنهم قد لا يملكون الكثير من الخيارات على المدى البعيد". ونعود مجدداً إلى محطة السكة الحديد في انتظار قطار قد لا يجيء لنلتقي بمعضلة السيد مالك والتي هي واحدة من المعضلات التي تجابه الكثيرين. ويبدو أن أهالي الجنوب الذين يعيشون في الشمال يشعرون بشيء من الالتباس بعد الانفصال الأخير لجنوب السودان. السيد مالك قال لنا: "أشعر بأنني أنتمي إلى كلا البلدين". وصمت ثم أردف: "أنا ممتن إلى الشمال لأنني ولدت هنا، وأراه مثل قريتي". وأضاف أيضاً: "لكن ما زلت أحب الجنوب، وأرى أنني سوداني وليس شمالي أو جنوبي". ومما يأسف له السيد مالك هو أن ذلك لم يعد حقيقة.