" كل وعي هو استباق للمستقبل. أنظر إلى توجه فكرك في أية لحظة: تجد أنه يهتم بما هو قائم؛ إنما من أجل ما سوف يكون. إن الانتباه هو انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه للحياة. المستقبل، هناك، إنه يدعونا، بل إنه يجرّنا إليه: وهذا الجَّر الذي لا ينقطع، والذي يجعلنا نتقدم فوق طريق الزمن، هو أيضاً دافع يدفعنا إلى التحرُّك باستمرار، وكل عمل هو تطاول على المستقبل". (هنري برجسون) خطوط رئيسيَّة للمقال: * قضايا المنطق تدرُس الفكرة في ذاتها بالمعنى الهيجلي، وتتألَّف من موضوعات ومركبات موضوعات ضمن قضية في مقابل نقيضها تُنتج تأليفاً أخيراً غرضه تحقيق الايجاب من خلال نفي السلب. * يخضع رهان الموضوعات لحساب الخبرة التي يكتسبها البشر بعد أي تجارب معيش تُردُ إليهم عن طريق الحواس والمعرفة المُشتقَّة منها. * لا يمكن ل(س) أن تصير (س) ولا يمكن للشاب أن يصير شاباً. بل لا بد ل(س) أن تصير (ص)، ولا بد للشاب أن يصير رجلاً. * عالم اليوم هو عالم سقوط الحدود الدولية بامتياز، وهو أيضاً عالم إغلاق الحدود الدوليَّة نفسها في وجه المهاجرين من جحيم الثورة العدميَّة للغرابة! * مشكلة الإعلام المعاصر الرئيسيَّة هي أنَّه نجح في تحويل مقولة الحاجة أم الإختراع إلى مقولة الصورة أم الإختراع. * إنَّ التغيير يحدث بكيفيَّات مختلفة، دون أن يتوقف ولو للحظة واحدة داخل حركة المجتمع المُركَّبة ذُريرات لا كُتليَّة أصلاً لكنها خالقة لمعنى الكُتلة وفق شروط وجود محدَّد. (1): في معنى التغيير أولاً: هل الوجود خارج الصيرورة؟ هل يمكن أن يكون وُجوب الشيء أو عدم وجوبه محكوماً بشيء آخر غير قواعد المنطق الإنساني؟ نعم، "علم المنطق" الذي يبدأ بتنظيم الافتراضات أولاً قبل مساءلة أي موضوع أو محمول؟ يتحدَّد علم المنطق بأشكال كثيرة ضمن عصور كثيرة هي الأخرى، فهنالك "مقولات" وهنالك "قضايا" على سبيل المثال في منطق (هيجل) المختلف تماماً عن منطق (كارناب) المُشتق من السيميائيات الحديثة: قضايا المنطق تدرُس الفكرة في ذاتها بالمعنى الهيجلي، وتتألَّف من موضوعات ومركبات موضوعات ضمن قضية في مقابل نقيضها تُنتج تأليفاً أخيراً غرضه تحقيق الايجاب من خلال نفي السلب. تنفتح القضية إما على "سلبها" أو "إيجابها" لكنها ترى أن السلب نفسه يمكن أن يتضمن عملية خلق، لكن حتماً ليس بقدر الخلق الذي يحدُث عبر الإيجاب. أما مقولات المنطق فهي مجردة كما في علم الرياضيات الذي تقتضي فعاليته وجود قوانين غير مبرهنة لكنها تقوم مقام المسلَّمة الأوليَّة مع كل لحظة بدء جديدة. ف"مقولات المنطق هي تعريفات متعاقبة للمطلق. والمقولة الأولى هي أوَّل تعريف قُدِّم في التاريخ وهو: المطلق هو الوجود. ولقد كان (بارميندس) هو الذي وضع هذا التعريف واشتملت فلسفته أيضاً على مقولة العدم أو اللا وجود. ومع ذلك فقد أنكر أن يكون من الممكن تعريف الحقيقة بتلك المقولة. ولقد كان هيراقليطس هو المسؤول عن وجهة النظر القائلة بأن الحقيقة هي الصيرورة. وهذا هو التعريف الثاني للمطلق" (ستيس، بيروت، 2007، ص146) وثالثهما مرفوع! بواسطة المنطق نحسم قضايا كثيرة ثانوية تشغل حيِّزاً كبيراً، ويساعدنا ذلك في الانتقال لما بعد القضايا ومباشرة وجودنا في الحياة اليوميَّة بمعرفة أدق. يتصادف أن ينجح هذا الإختبار مع البشر كافة لكنه يستلزم أن يكون مستخدماً بفعاليته القصوى التي لعلم المنطق كلُّه لا لمذهب ما من مذاهبه المختلفة، وبديهي أنَّ لعلم المنطق تصورات مختلفة باختلاف المبادئ الأوليَّة لأي فلسفة أو علم، لكن رهان الموضوعات دوماً يخضع لحساب الخبرة التي يكتسبها البشر بعد أي تجارب تُردُ إلينا عن طريق الحواس والمعرفة المُشتقة منها ذاتياً. فضمن حيواتنا العديدة نحن نتغيَّر بدرجة ما ملحوظة بعد تعرُّضنا لتجربة المعرفة المستردَّة إلى حواسنا ضمن منطق الصيرورة. ذلك لأنَّ الصيرورة هي أساس الوجود وهي بذلك سابقةً منطقياً عليه ومنفتحة أكثر لا على قواعد العقل وحده إنَّما بالأحرى؛ مشكلاته. للصيرورة نفسها صورتين: هما إنتقالها من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود في حركة آبدة ومستمرة طالما أن العقل نفسه ما زال يرهن كماله لمبدأ "عدم التناقض" الذي لا يؤمن بالتعريف الثاني للمطلق الذي هو الصيرورة؛ وبالتالي لا يؤمن بالتغيير نفسه إلَّا بشكل غير مفهوم. تلك هي مشكلة العقل الكبرى التي عاشها في كل عصورهُ على مرِّ الزمان، بتأثير مُباشر من فرط ترجيحه لهذا المبدأ الذي لا بُدَّ من دحضه مع كل مرَّةٍ يرغب فيها العقل بإنتاج الجديد، وبعبارة أخرى؛ إحداث الثورة في مسار الحياة الإنسانيَّة أو في مسار العلم والمعرفة البشريَّة بالعموم. " عالم اليوم هو عالم سقوط الحدود الدولية بامتياز، لكنه أيضاً عالم إغلاق الحدود الدوليَّة نفسها في وجه المهاجرين من جحيم الثورة في نماذجها كاملة العدميَّة! " إذاً "لا يمكن للعقل أن يطمئن لما يسمى بالتناقض الذاتي، ومن ثمَّ يجد نفسه مدفوعاً إلى المركب. وهكذا لا يمكن لهذه العمليَّة أن تقف عند حد، بل لا بد أن تستمر حتى تصل إلى مقولة لا يظهر منها نقيضها، وستكون هذه هي المقولة الأخيرة في المنطق وسوف يكون من الممكن عندئذٍ أن ننتقل من العِلَّة الأولى إلى العالم نفسه" (ستيس، نفسه، ص 102) ونكون بذلك قد جمعنا التعريفين في تناقض جديد، نُقرُّ فيه هذه المرَّة معنى الصيرورة المدرِكة لمعنى التغيير على نحو جديد: "لا يمكن ل(س) أن تصير (س) ولا يمكن للشاب أن يصير شاباً. بل لا بد ل(س) أن تصير (ص)، ولا بد للشاب أن يصير رجلاً" (ستيس، نفسه، ص 148). إذا حاولنا التوغُّل في أحراش معنى التغيير الذي ينشب في عالم اليوم، سيساعدنا ذلك بلا أدنى شك على تجريب تعقيداته ضمن شروط وجود مُعيَّن مشروط براهنية أحداث عديدة تمضي في مسافة زمنية محسوبة ومتغيِّرة من حال إلى حال بسرعة وميض البرق ولمعان ضوءه وهو يأسر ملكة الانتباه العقلي بلا وازع سوى أن الأمر يرجع لخوف/ حُب قديم للطبيعة البشريَّة انقسمت معه على طريقين كبيرين لم يعودا كذلك كما سنرى ضمن أجزاء خمسة مقالات منفصلة تماماً لكنها تصب في نهر التساؤل نفسه وهو لا يُعبَرُ مرتين. لم تكن الأحوال بعد سبتمبر (2013) شبيهة بالأحوال التي سبقتها بأي نظرٍ منظور. ظهرت سيولة حركة المجتمع بأشكال عديدة متنوعة بحيث لم تعد الفروق مخفيَّة بذاك القدر إلا لمن لا يُبصر حركة سيولات المجتمع ولمعانات برقها الخالبة للألباب. فهم الجميع أن التغيير يحدث بكيفيَّات مختلفة، دون أن يتوقف ولو للحظة واحدة داخل هذا المجتمع المُركَّب من حركة ذريرات لا كُتليَّة خالقة لمعنى الكُتلة وفق شروط وجود عديدة ومتنوعة؛ خصوصاً بعد السنوات (2011) (2012) (2013) حين أصبح صوت المجتمع أقوى من أن يتم تجاهله وخصوصاً بعد برق سبتمبر الذي لمع وتكلَّم وأسمع وأنار. بدأ يظهر للجميع معنى معاصرة التغيير وهو يحدث بينهم بطرق مختلفة، بعد أن شهدوا تجاربه المسيطرة على عقولهم عبر شاشات التلفاز ووسائط الاتِّصال العربيَّة، واكتسبوا بذلك خبرةً قبليَّة للرفض والقبول بحسب توازن قواهم ومقابل طموح أكبر متجاوز للرفض العدمي ومنشغل بموجودات الوجود التي لا حصر لها ولا حاجة لذلك بالنسبة لأي إنسان مُفرد في عالم اليوم المكتظ بالتناقضات لكنه منفتح على الايجاب أكثر. فعالم اليوم هو عالم سقوط الحدود الدولية بامتياز، لكنه أيضاً عالم إغلاق الحدود الدوليَّة نفسها في وجه المهاجرين من جحيم الثورة في نماذجها كاملة العدميَّة! فهل لا بُد من أن تكون الثورة جحيماً؟ ومن الذي يؤكِّد ذلك؟ وبأي وجه حق، وخصوصاً إن كان هذا الشخص يحسبُ نفسه إنسان عاقل مثلاً، وللعقل نظريَّته التي تُفصِّل تُثبت الأحكام وتنفيها وهي أعدل الأشياء قسمة بين الناس؛ باعتبار أن عدم وجود العدالة هو الذي نستشعره أولاً ومن ثمَّ نتصرَّف إذاءه إلى أن تخيِّب ظنَّنا وقائع معاكسة فنتوحَّد حولها بكل اختلافاتنا لأنها في ذلك الوقت تكون هي القضايا الجديرة بمعرفتنا في ظل فوضى شبه كاملة للمعرفة وقواعدها الأوليَّة التي سنبحثها بشيء من الدقَّة والتفصيل المناسب. عندما نتحدث عن التغيير أيضاً فنحن نختبر فعل مباشرة الحياة وهي طازجة بكامل عنفها وعنفوانها فينفجر التساؤل المقصي ويصبح غير قابل بحالة تجاوزه اللا عادلة هذه تحت سيطرة وسائل إعلام ليست محايدة في نقل الحدث بل شريكة في صناعته. وهي تكون بذلك ليست عادلة جوهرياً وبالتالي فإنَّ مشكلة الإعلام المعاصر الرئيسيَّة هي أنَّه نجح في تحويل مقولة الحاجة أم الإختراع إلى مقولة الصورة أم الإختراع وهي إشكالية رئيسيَّة تواجه مشكلة الإعلام المعاصر وارتباط علاقته بالصورة واستخدام الحدث بأي شكل ووفق أي منظور: مع من أنت في مشكلة الهجرة مثلاً ولماذا؟ إن الحدث ينفجر أمامك وليس لك بدٌ من المشاركة في صيرورته هذه إن كنت تحسب نفسك من زمرة الذين يحملون وجودهم على هذه الأرض محمل الجد ويعرفون معنى التغيير بل أكثر من ذلك؛ يرغبونه. ولا تُثبت سيطرة وسائل الإعلام شيئاً أكثر من مقولة "الإغتراب" الذي هو شعور الإنسان بغربته عن هذا العالم المشوَّه الأبعاد كما يذهب لذلك (الغذامي) عندما يؤكِّد قاصداً إظهار مختلف أشكال السيطرة الإعلامية على واقع العالم اليوم بالقول: "إن كانت المقولة الشائعة هي أن الحاجة أم الإختراع فإن ما تثبته الثقافة التلفزيونيَّة هو عكس ذلك، وهذا واحد من التحولات الخطيرة في حياة البشر وثقافتهم، إذ لم تعد الحاجة هي التي تُقرِّر مطالب الحياة، إنَّما تتقرَّر أنماط الحياة بناء على ما تبنيه ثقافة الصورة بواسطة الموضة والإعلان ونماذج المشهورات والمشاهير في لبسهم ومسلكهم" (الغذامي، الدار البيضاء، 2005، ص121). لم يعد الحديث عن الإعلام ممكناً دون أن نسائل مهمَّتة الأساسيَّة قبلاً وحول المهام الأساسيَّة لكل علم؛ نتوسع في العنوان التالي من هذه الدراسة ذات الخمس حلقات. المصادر: 1 - ولتر ستيس - المنطق وفلسفة الطبيعة – المجلد الأوَّل من فلسفة هيجل – ترجمة إمام عبد الفتاح إمام – دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – الطبعة الثالثة – 2007. 2 - المصدر نفسه. 3 - المصدر نفسه. 4- عبد الله محمد الغذامي الثقافة التلفزيونيَّة: سقوط النخبة وبُروز الشعبي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – الطبعة الثانية – 2005