عبدالرحمن العاجب في سياق الأزمة الوطنية السودانية الراهنة، تتبدّى أزمة المثقف السوداني بوصفها أحد أكثر مظاهر الانهيار دلالةً على عمق التشوهات البنيوية في الوعي الجمعي. فالمثقف، الذي يفترض أن يكون ضمير الأمة وعقلها النقدي، قد سقط في فخاخ الانتماءات الأولية – الجهوية والقبلية والإثنية – حتى غدا جزءًا من ماكينة الصراع لا من أدوات تجاوزه. وكشفت الحرب الحالية في السودان، بكل قسوتها وانقسامها، عن طبيعة "الوعي الزائف" الذي يحكم شرائح واسعة من النخب الثقافية والسياسية. هذا الوعي الذي يتخفّى خلف شعارات "الدفاع عن الدولة" أو "حماية الوطن" بينما هو في جوهره دفاع عن امتيازات تاريخية، وحرص على استمرار هرم الهيمنة الذي تشكّل منذ العهد الاستعماري وما بعده. والمقصود بالوعي الزائف هنا أن تكون أفكار الإنسان ووجهة نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع المادي للحياة من حوله، وغير فعالة في متابعة حركة وتطور هذا الواقع، ويوصف الوعي الزائف على :"انه وعي تبريري له مصالح مباشرة ، وهو الوعي الذي يفتقد الرؤية النقدية، وله تصور جزئي ومشوه ومغلوط للواقع المحيط، فهو بمثابة صورة ذهنية مشوهة، يحاول الفرد رسمها للواقع الموضوعي من خلال ادراكه وتصوره المستمد من عقله ووجدانه". وفي خضم الحرب التي تشهدها البلاد تبرز أزمة المثقف السوداني، وتتجلى بين الموقف الأخلاقي والمصلحة الجهوية، ومن بين الأمثلة البارزة على هذه الإشكالية يبرز موقف الدكتور عبد الله علي إبراهيم، أحد أبرز رموز اليسار السوداني في فتراته السابقة، والذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى واحد من أكثر المدافعين عن المؤسسة العسكرية وخياراتها في الحرب الجارية. لا يمكن قراءة هذا الموقف بوصفه انحيازًا فكريًا محضًا، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية متجذرة، ترى في الجيش رمزًا لاستمرار المركز التاريخي الموروث من عهد الاستعمار البريطاني – المصري. فانحياز الدكتور عبد الله علي إبراهيم، الذي يقدّمه في ثوبٍ أكاديمي أو قومي، لا يمكن فصله عن الإحساس الجهوي بالتهديد من صعود الهامش السوداني، ولا عن الرغبة اللاواعية في المحافظة على الامتيازات القديمة التي كرّست هيمنة المركز النيلي على بقية السودان. وبذلك، يصبح دفاعه عن "الدولة" في جوهره دفاعًا عن شكلٍ تاريخي للسلطة، لا عن قيم المواطنة أو العدالة. وفي المقابل نرصد وقوع المثقف النقدي الدكتور محمد جلال هاشم في فخ الاصطفاف، ومعلوم للجميع أن الدكتور محمد جلال هاشم، مثّل لسنوات صوتًا نقديًا مميزًا في تفكيك خطاب المركز والهامش، فقد وجد نفسه هو الآخر، في لحظة الانقسام، منخرطًا في خطابٍ يبرّر استمرار الحرب تحت ذريعة الحفاظ على الدولة من الانهيار. وهنا تتجلى المفارقة المأساوية: المثقف الذي نظّر طويلًا لعدالة الهامش صار، من حيث لا يدري، مدافعًا عن النظام الرمزي نفسه الذي نقده نظريًا. إن موقف محمد جلال هاشم لا يمكن فهمه إلا في إطار أزمة المثقف السوداني حين يواجه اختبار الواقع السياسي العاري: فبدل أن ينهض بمسؤولية تفكيك خطاب العنف، ينزلق إلى موقع "المدافع عن الدولة"، وهي دولة لم تُنتج سوى التفاوت والتمييز منذ تأسيسها. وهنا يلتقي الدكتور محمد جلال هاشم، من حيث المآل، مع الدكتور عبد الله علي إبراهيم في موقع واحد، رغم اختلاف المسارات الفكرية: كلاهما أسير الوعي الزائف الذي يخلط بين الوطن والسلطة، بين الدولة والتاريخ الموروث. وعلى الطرف الآخر من المشهد، يبرز عبد الرحمن عمسيب، الناشط الذي روّج لفكرة "دولة البحر والنهر" كتصوّر عنصري فجّ لإعادة إنتاج الامتياز النيلي في شكلٍ صريح بعد أن كان متخفّيًا في الخطاب الثقافي. وإذا كان الدكتور عبد الله علي إبراهيم والدكتور محمد جلال هاشم يمثلان الشكل الأكاديمي والمثقف للوعي الزائف، فإن عبدالرحمن عمسيب يمثل تجليّه الشعبوي المباشر: الوجه العاري للعنصرية التي تُغلّف نفسها أحيانًا بمفردات الوطنية. إن القاسم المشترك بين هؤلاء الثلاثة هو إعادة إنتاج البنية القديمة للهيمنة عبر أشكال مختلفة من الخطاب: الدكتور عبد الله علي إبراهيم يفعلها باسم الدولة والتاريخ الوطني، والدكتور محمد جلال هاشم يفعلها باسم الخوف من الفوضى وضياع الهوية، وعبدالرحمن عمسيب يفعلها باسم الجهة والعِرق والامتياز النيلي الصريح. بهذا المعنى، لا يعود "الوعي الزائف" مجرد خللٍ في إدراك المثقف للحقيقة، بل يصبح آلية اجتماعية لإعادة إنتاج التراتبية القديمة داخل الحاضر. فحين يختار المثقف الاصطفاف إلى جانب الجهة، فإنه يتنازل عن دوره كضميرٍ نقديٍّ للأمة، ويتحوّل إلى أداةٍ ضمن أدوات الهيمنة. وهنا تكمن مأساة المثقف السوداني اليوم: أنه بدل أن يكون صوتًا ضد الحرب، صار جزءًا من خطابها، وبدل أن يكون ضمير الوطن، صار مرآةً لوعيه الزائف. ومهما بدا التباين في الخطاب أو الخلفيات الفكرية بين المثقف الدكتور عبدالله علي إبراهيم، والمثقف الدكتور محمد جلال هاشم، والناشط عبدالرحمن عمسيب صاحب فكرة "دولة البحر والنهر"، فإن ما يجمع بينهم في الموقف من الحرب والدفاع عن الجيش السوداني هو هدف جوهري واحد يتمثل في المحافظة على بنية الدولة القديمة وامتيازاتها التاريخية. فخطابهم، وإن اختلفت مبرراته، يصب في اتجاه تعطيل مسار التغيير الجذري الذي تنشده القوى الساعية إلى بناء سودان جديد يعبر عن جميع السودانيين دون تمييز، ويعيد توزيع السلطة والثروة على أسس العدالة والمواطنة المتساوية.