هل ثمّة مقاربة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تولى السلطة في مصر بعد 30 يونيو/ حزيران 2013 ورئيس المجلس السيادي في السودان، الجنرال عبد الفتاح البرهان؟ ثمّة تقاطعات جرت، وأحداث تشابهت، ومصادفاتٌ، وإن لم تكن ذات أهمية تُذكر، قد حملت دلالات وإيحاءات لافتة. وقع انقلاب في السودان، قامت به الجبهة الإسلامية في السودان في 30 يونيو/حزيران 1989، وأسقطت عبره حكومة شرعية جاءت بها انتخاباتٌ قوميةٌ في البلاد. لقد ظلّت النظرة السائدة لتقييم ما يدور في السودان تتم عبر العيون المصرية. ينظر أغلب المراقبين في السّاحات الدولية والإقليمية إلى ما يجري من أحداث وتطوّرات في السودان وكأنه هامش يقع أسفل صفحة في متن كتاب عنوانه مصر! لقد انتظر معظم متابعي أحداث ذلك الانقلاب الذي قاده العميد (آنذاك) عمر البشير، ماذا ستقول القاهرة عن ذلك التغيير الذي وقع في عاصمة السودان. إذ ما أن أعلنت القاهرة ترحيبها به حتى توالى التأييد السياسي له من عواصم كثيرة مهتمة على المستوى الإقليمي، القريب والدولي الأبعد. (2) زيارة رئيس وزراء السودان الصادق المهدي، أواسط سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، طهران لتعزيز علاقاته مع الملالي هناك، زاد إعجاب الأخيرين بزعيم سوداني يحمل إسمين من أسماء أئمة المذهب الشيعي المقرّبين لديهم. برغم عفوية الزيارة، لكنها أثارت شكوكا، أضيفت إلى شكوك كثيرة، حملت النظام المصري وقتذاك على قلب ظهر المجن لحكومة الخرطوم، فشهدت علاقة مصر مع حكومة الصادق الذي لحزبه حساسيات تاريخية مع الأحزاب المصرية برودا. ما أن وقع انقلاب عمر البشير، إلا وسارعت القاهرة، إثر تقييم متعجّل، إلى إعلان تأييدها له غير المشروط، فزعم الرئيس المصري في حينه حسني مبارك أن "دول أولادنا". ومن يقرأ هامش السودان في متن صفحة مصر، أو يقرأه معه المتابعون في الدوائر القريبة والبعيدة، سيصدّق الرؤية المصرية، كون انقلاب "30 يونيو" في الخرطوم صديق لا ضير من التعاون معه. ومن عجبٍ أن الإدارة الأميركية اعتمدتْ ذلك الهامش في متن كتاب مصر، فصدّقت مع من صدّقوا، ولم تناصب انقلاب 30 يونيو في السودان العداء أول الأمر، غير أنّ مبارك أدرك متأخراً، وبعد تأكّده، إثر محاولة نظام الخرطوم الفاشلة لاغتياله في عام 1995، أنّ نظام البشير في الخرطوم هو من صنائع الجبهة الإسلامية الماكرة، والتي ظلتْ تناصب مصر عداءً تاريخياً مستحكماً زماناً طويلاً، يعود إلى ما قبل مقتل المفكر الإسلاموي سيد قطب في منتصف ستينيات القرن الماضي. (3) ثمَّ تهبّ مواسم ربيع عربي، تدحرجت إثره رؤوس وزعامات عربية تتالتْ في مصر وتونس وليبيا وسواها. وإثر الهبّة الشعبية الكاسحة الي أسقطت مبارك، تهيأتْ مصر لتغيير سياسي ديمقراطي شامل، لكن الانتخابات التي اعتمدتها مصر جاءت بقيادت إسلاموية لتقود البلاد إلى أزمات طاحنة، سرعان ما أثارت، ولأسباب شتّى تضاف إلى ذلك، حفيظة الشارع المصري. وفي 30 يونيو/ حزيران 2013، انتفض الشارع وهبّتْ الجماهير المصرية ثانية في الساحات ضد الحكومة المنتخبة، فتأهّب الجيش المصري يقوده وزير الدفاع السيسي، لأخذ زمام الأمر وإنقاذ الموقف في البلاد. لو كان "30 يونيو" في السودان شهراً ثبّت حكم الإسلامويين 30 عاما في السودان، فإنَّ "30 يونيو" في مصر أسقط حكم الإسلامويين، وتولى وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي مهمة قيادة البلاد وإصلاح إدارتها، لكن القوى العظمى، وأهمها الولاياتالمتحدة، لا تزال تقرأ صفحات من كتاب الشرق الأوسط بعيون مصر، وتُطالع في هوامشه بعض أحوال السودان. (4) لعلّ الركون إلى تقييم التطوّر السياسي في السودان عبر منظار مصري لن يكون صائبا في معظم الأحوال، حتى وإن اقتنع الرائي أنّ البلدين يتقاسمان مصائر متقاربة، وتجمع شعبيهما وشائج لا تبلى، تعزّزها وحدة وادي النيل. هنالك تبايناتٌ غير خافية تتجلى في طبيعة المصائر السياسية في كلٍّ من مصر والسّودان. أفرز التنوّع الاجتماعي والإثني والطائقي واقعاً سياسياً بالغ التعقيد في السودان، يختلف كليةً عن الطبيعة السياسية المتماسكة التي تميّز الواقع السياسي المصري، والذي عزَّزته تطورات تاريخية رَسَخت عبر ممارساته الطويلة، لكن الحديث عن العلاقات التاريخية والجغرافية القوية الراسخة ليس محض كلام إنشائي يردّده السياسيون. (5) تكفي الإشارة إلى أنّ ما شهد السودان منذ استقلاله في 1956 من اضطرابات سياسية وحروب أهلية وانقلابات عسكرية وهبّات شعبية هي تحوّلات لم تشهد مصر مثيلاً لها في تاريخيها القريب والبعيد. لذا لنا أن نستنتج أنّ النظر إلى أحوال السودان السياسية عبر منظار مصري قد لا يعطي صورة حقيقية يركن إليها في التحليل، أو يتعذّر أن تعتمدها أطرافٌ تتعامل مع السودان، وكأنه الهامش في متن كتاب مصر، حتى وإنْ جرى الإقرار بأبوّة مصر لمعظم الحركات السياسية والفكرية التي نشأتْ في السّودان، خصوصا التيارات الإسلامية واليسارية والتي حمل بذرتها الأولى مؤسّسوها بحكم التواصل الثقافي والاجتماعي بين طرفي وادي النيل، فإنّ لمكوّنات الشخصية السودانية ما يميّزها عن مكوّنات الشخصية المصرية. (6) وحتى لا يأخذنا مثل هذا التحليل بعيدا، فإنَّ الملاحظ أن اللاعبين الكبار في الساحة الدولية ما زالوا يعتمدون، شئنا أم أبينا، المنظار المصري في النظر لتطوّرات أوضاع السودان السياسية، بحكم اعتمادهم عمق التأثير والتأثر بين شعبي البلدين. ولكن لنا أن نلاحظ أن تاريخا مشتركا بينهما أفرز قدراً كبيراً من التعقيد في السودان بين تيارين رئيسين، يميل أحدهما إلى اعتماد ما يوحّد بينهما، ويميل الثاني إلى ما يعتمد تمايزاً بينهما. ذلك ما شكّل السِّمات الهيكلية لمسيرة السياسة الداخلية وإدارتها المرتبكة للسودان، ما دفع السياسي السوداني الرّاحل منصور خالد إلى أن يصف تواتر تحوّلات أنظمة الحكم في السودان بين طغيان أنظمة عسكرية، وعجز نظم حزبية، وإجهاض انتفاضات شعبيىة، "إدمانا للفشل"، إذ ما استقام عود السودان منذ فجر استقلاله، وبقي معوجّاً. (7) لكن من يراقب أحوال كلٍّ من مصر والسودان يرى الأقدار والمصادفات تكتنف مصائرهما معا. وإن الناصرية التي تبنتها تيارات فكرية عربية عديدة ستظل أنموذجا وتجربة للتغيير حملت إيجابيات وسلبيات، لكنها، في التحليل الأخير، لم تكن مذهباً سياسياً، ولا كان جمال عبد الناصر مفكراً مثل لينين أو ماركس، ولكنه زعيم مصري قاد تجربة سياسية قابلة للاحتذاء. وفي نظرة إلى تجربة الوحدة بين مصر وسورية، رأى كثيرون في مصر وغيرها أن الوحدة المأمولة هيَ أولى بين مصر والسودان. قالها مفكر وأديب ألمعي راحل هو لويس عوض. وما مصر وحدها، بحدودها السياسية والجغرافية التي نعرف، هي التي قال عنها هيرودوت إنها هبة النيل، فالسودان أيضاً جزء من تلك الهبة، والوحدة بينهما أدعى وأوجب.
(8) ولأنّ بين مصر والسودان ما يبدو من وحدة وتماثل في المصائر، فإنّ في مصر جنرال هو عبد الفتاح السيسي، وإن خلع بزته العسكرية، وفي السّودان جنرال بكامل بزّته، يتطلع بحقّ أو بباطل، ليقود السودان في سنواته المقبلة، لكن العين البصيرة ترى أن حال السودان غير حال مصر، والجنرال هنا غير الجنرال هناك. من الطبيعي أن يرى جنرال السودان أنموذجا جديرا بالاحتذاء في التجربة المصرية، فيبادر بالتقرَّب إليها زلفى. ذلك أمر، ولكن لكبار المجتمع الدولي رؤاهم وتقييمهم لما يدور في السودان الذي انزلق إلى ما يشبه الحرب الأهلية، بل وفي بعض مناطقه الغربية ما يماثل الإبادة الجماعية التي عرفتها بعض مناطق القارّة الأفريقية في السنوات القليلة الماضية. للإدارة الأميركية أجندات في القارّة الأفريقية وفي منطقة الشرق الأوسط، ومعلوم أن لها رؤية حول ميولها للاعتماد على أنظمة شمولية تمنحها التأثير والنفوذ اللذين يساعدان في تحقيق تلكم الأجندات. (9) فيما تحتدم الحرب والمواجهات العسكرية التي تدخل شهرها الثالث، بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإنه وإن كان ذلك صراعاً داخلياً، إلا أن وراءه أصابع أجنبية، دولية وإقليمية لا تكاد تبين. وما تمدّدتْ تلك المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني ومليشيات أخرى ساعد الجيش نفسه في إنشائها، إلا بسبب أيادٍ تلهب ذلك القتال، وتصب الزيت على ناره. يبقى لمصر دورٌ يسمو فوق تباين المواقف السياسية، ويتجاوز خلافات الحدود، ليكون المصير المشترك لوادي النيل هو ما يجمع الرؤى، وما يعزّز الجهود لتتضافر في مواجهة تحدّيات البقاء في عالم يحتشد فيه الطامعون، فيما تتناقص موارد الطبيعة من حول بلدان غنية بثرواتها، ضعيفة بأنظمتها السياسية. يريد الطامعون أن تكون أنظمتها هشّة يسهل ابتلاعها واستعمارها من جديد. يبقى لمصر أن تضطلع بدور يتجاوز احتواء النازحين من السودان، فتتولى دوراً حاسماً وأساسياً لإيقاف نزيف الدم في جنوب الوادي، وهو وادي النيل المصري السوداني. نقلاً العربي الجديد