كل يقين، الشعب السوداني مطمئن لجيشه تمامًا، لكنه ليس مطمئنًا لمنهج الإدارة السياسية السيادية للبلاد. الفاشر ستعود إلى حضن الوطن، ما في ذلك شك، كما عادت الخرطوم ومدني وسنار. الجيش السوداني قادر على مهامه العسكرية، وقد تعرض لمواقف كثيرة طوال عمره المئوي، أصعب و أشق وخرج منها كلها ظافرًا منتصرًا. ولكن الذي يدعو للقلق حقًا هو الطريقة التي تُدار بها البلاد في قمة رأسها: مجلس السيادة عامة، ورئيسه البرهان خاصة. نحن المدنيين لا يحق لنا أن نتدخل مطلقًا في التقديرات العسكرية، هذا شأن متخصص له رجاله وخبراؤه، لكن في المقابل، إدارة البلاد في مساقها السيادي والتنفيذي والسياسي ليست فوق النقد. رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان يحتكر القرار في دائرة ضيقة قطرها رجل واحد، يحرم نفسه من توسيع دائرة النظر وصناعة القرار، فيدفع الثمن الوطن كله جراء الأخطاء الفادحة الناتجة عن ضيق ماعون صناعة القرار. العمل العسكري مسار موازٍ تمامًا للعمل السياسي والتنفيذي. يُحْسِن الجيش أداء مهامه العسكرية، ويتوقع أن يتضافر مجهوده مع المسار الموازي، لكن عندما تضعف هياكل الدولة عن أداء واجباتها، وتفترض أن الحماس والهتاف وحدهما هو دعمها للجيش، فذلك أقرب إلى الخذلان والتقاعس الخطير. الجيش القوي يحتاج إلى دولة قوية تشد من أزره، قادرة على دعمه سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا. النظم الدفاعية للدول في العصر الحالي أشبه بشركات التأمين. تتشابك رأسيًا لتوفر التأمين المباشر بصورة متصاعدة؛ كلما ارتفع التعويض والمطالبة، تدرج التأمين إلى أعلى بإعادة التأمين عند شركة أكبر وأقوى عُودًا، هي الأخرى تحتاط بإعادة التأمين في شركة أخرى أكبر وأقوى، وهكذا. وعند الطلب، يتوزع الجهد التأميني على كل هذه المنظومة التأمينية، فتنتفي مخاطر سداد التعويضات المطلوبة مهما تفاقمت فواتيرها. كذلك تأمين الدول عسكريًا: يتولى الجيش الوطني تأمين المخاطر في حدود وقدر مدروس مسبقًا ومعلوم لقيادة الدولة. وكلما واجهت الدولة مزيدًا من التحدي العسكري، استعانت بقوة عسكرية أعلى، بصورة متدرجة تتيحها علاقات ثنائية بين الدول وتحالفات متعددة الأطراف إن لزم الأمر. طبيعة الحروب في عالم اليوم قصيرة المدى، لكنها إن استطالت دخلت فيها شراكات أخرى. ولا تتحمل دولة بمفردها تكاليفًا مادية وبشرية بصورة مفتوحة بلا حدود. في حروب الشرق الأوسط، كانت إسر..ائيل دائمًا تدير معاركها بقدر معلوم لا يتخطى أسبوعًا، ثم تستعين بقوة عسكرية أعلى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما حدث في حرب أكتوبر 1973 عندما شعرت بخطر امتداد المعارك، تدخلت أمريكا، وقال الرئيس السادات كلمته الشهيرة: (ليس لدينا رغبة في الدخول في معركة ضد أمريكا). في الحرب الأخيرة بين إسر..ائيل وإيران، عندما خرجت عن حدود السبعة أيام التي تسعها المقدرات العسكرية لإسر..ائيل، أحالت المعركة إلى شركة إعادة التأمين: الولاياتالمتحدةالأمريكية. في روسيا وأوكرانيا، نُوزِعَتْ فاتورة التأمين والمخاطر على دول كثيرة تقف خلف الطرفين. السودان دولة موفورة الموارد والثروات، بما يمكنها من تمتين الروابط مع الدول الأخرى وصناعة دوائر دفاعية تضمن مواجهة المخاطر مهما اشتدت قوتها أو طال ليلها. السودان ظلَّ مواجِهًا خطرًا متصاعدًا على بقائه، واستطال الأمد ليزيد من الخطر، وفاتورة تعدتْ كثيرًا قدرات الدولة السودانية، ولكن السودان يقف كالسيف وحده... معزولًا عن شركاء التأمين وإعادة التأمين. هذه العزلة سببها الرئيسي منهج إدارة البلاد، الذي يصل حدَّ (دس المحافير) حتى للدول التي ترغب في المساعدة. إفراغ هياكل الدولة السودانية والإمعان في إضعافها رغبةً في إحكام السيطرة الفردية على السلطة والقرار... أصبح مهددًا حقيقيًا لا يقل عن مهددات الحرب. الآن، التهديد الذي يواجه السودان ليس عسكريًا محضًا، بل في غياب الدولة وتفاقم ضعفها وإضعافها.