في المقال السابق تحدثنا عن رحلة من الدعوة للاتحاد في مصر وأنه “مافيش تاني مصري سوداني نحن الكل ولاد النيل” نحو التغني بالذاتية السودانية. رحلة قطعها خليل فرح رحمه الله وأحسن إليه، وقلنا إننا سنثبت هذا القول المطلوق على عواهنه اليوم، وسنربط تلك الرحلة بتساؤلات علت الآن حول العودة بين مصر والسودان أو بين شقي البلاد الشمال والجنوب وهل لها من سبيل؟ يظن بعض علماء مدرسة التحليل النفسي الفرويدية أن الأسطورة تعبر عن لا وعي المجتمع ورغبات جماعاته المكبوتة مثلما الحلم يعبر عن لا وعي الفرد والمكبوت لديه، وأن فكرة البعث “أسطورة” تعبر عن هروب من حقيقة الموت، ومخدر للإنسان ليواجه تلك الحقيقة المؤلمة بأمل العودة للحياة. ذلك تجديف لا يهز فينا شعرة، لكن السؤال: هل يكون حديثنا عن العودة للتوحد “أسطورة” أو تخدير على نسق فكرة الفرويديين حول البعث؟ وهل للعودة لسودان واحد من سبيل؟ وإذا كان: قد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا، وقد صدق ذلك من قبل على ألمانيا وعلى اليمن وغيرهما فهل يصدق على السودان؟ مع العلم أن ألمانيا واليمن منسجمتان ثقافيا بدرجة كبيرة إذا قورنتا بالتنوع السوداني. نحن نكره القياس مع أنه مصدر للتشريع معتمد في الفقه الإسلامي، وهو آلية للتحليل محبوبة لدى كثير من المسلمين والعرب وخاصة في السودان. نكرهه لأنه يحد من إبداعية مستخدمه ويحصره في قياسات لوقائع سلفت ولا تكون واقعة كواقعة أبدا.. ونستخدم واقعة “خليل فرح” بين الاتحاد مع مصر والاستقلال عنها بحثا عن ذاتية سودانية، لنعايرها معايرات عامة بدون أن نجعله قياسا كاملا، على حالة الجنوب اليوم.. الخليل الذي بدأ اتحاديا منكرا وجود تفرقة بين مصر والسودان انتهى به المطاف لتيار الذاتية السودانية الاستقلالي وصار يغني للضريح الفاح طيبه عابق وليمين النيل حيث سابق: دولة المهدية التي إنما طردت المحتل التركي (المصري)، ويغني “أذكر بقعة أم درمان”..”بطرا الأسسوك زمان”، وفي النهاية اختار الخليل أن يدفن في مقابر أحمد شرفي ليجاورهم ميتا وليبعث معهم ربما إذ يبعث المرء مع من يحب، ومهما غالط هذه الحقيقة البعض فالقبر وشاهده يفضح أكاذيبهم وقد تناقلت صورته بعض الصحف في الأعوام الماضية. كان موقف الخليل تعبيرا عن الخذلان الرسمي المصري وضعف التناغم الشعبي المصري مع الهبة السودانية. مغنية هؤلاء القوم الذين دفن معهم الخليل (بت أيوب) قالت يومها وهي محكومة بمنطق العداء لمصر لا الأخوة التاريخية مع إنها أخوة لا تنكر: السودان للسوداني زول من مصر ما يجينا تاني! إذن انضم خليل فرح صاحب (مافيش تاني مصري سوداني نحن الكل ولاد النيل) إلى ناس (زول من مصر ما يجينا تاني)! أو كما قال عكيرهم الدامري: مسكين يا وطن للبنصفوك محتاج أبناك نفسهم عادوك ناس التاج بدل ما يتوجوك يا طيب الإنتاج عقدوا الراي على حكمك تحت لي تاج وأبيات عكير هذه تشرح لماذا رفض أولئك الاستقلاليون شعار الاتحاد، فهم رفضوا الحكم تحت التاج المصري أي أن تكون للسودان اليد الدنيا في الحكم، وتكون لمصر السيادة عليه بحق الفتح. وهذا الأمر أوضحه الإمام عبد الرحمن المهدي في مذكراته وما فتيء الإمام الصادق المهدي يحكي فيه ويشرح. زبدة القول، ما شرحنا أو لم نشرح. فإن هنالك تحفظات حملها السودانيون جعلت بعض الاتحاديين منهم بداية أمثال خليل فرح يلوون سوالفهم لمصر ويبحثون عن ذاتيتهم السودانية الخالصة، وجعلت الاستقلاليين يزدادون تمسكا باستقلاليتهم ويتعجبون من فكرة الاتحاد تحت التاج، كما جعلت الاتحاديين أنفسهم في النهاية يدركون أن دولتهم المستقلة خيرٌ لهم من تبعية فيها يد دنيا للسودان، وهذا ما جعلهم ينضمون في النهاية لخيار الاستقلال الكامل حتى جاء بإجماع نواب البرلمان! إذن وعشية الاستقلال كان جميع السودانيين على قلب رجل واحد وامراة واحدة تنادي بالاستقلال الكامل عن دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا وعلى شعار (السودان للسودانيين). منذ ذلك التاريخ صارت تخبو كل يوم أشواق الاتحاد مع مصر. اتفاقية التكامل المايوية لم تمتد بين الشعبين بل بين نظامين بوليسيين يظاهر كل منهما الآخر على شعبه مثلما يظاهره أمام العدوان الأجنبي! ولكن ظل التداخل بين الشعبين قائم بأشكال مختلفة خاصة في منطقة النوبة، وظاهر في الهجرة السودانية التقليدية لمصر وقد زادت في العقدين الأخيرين، للفارين من (المشروع الحضاري) شمالا أو قاصدين دول الهجرة الأوربية والأمريكية والأسترالية، ولغيرهم. البعض يرى أن حديث الوحدة مع مصر قد (أكله الدودو) حينما انفصل جنوب السودان عن شماله ذلك أن الأولوية القصوى للسودانيين ستكون الوحدة بين شقي البلاد، بينما آخرون يرون العكس إذ يظنون أن انفصال الجنوب سوف (يحرر) شمال السودان للدخول في تكتلات عربية ومع دول الجوار الشمالي. هذا الاتجاه بدأ التعبير عنه في مصر يبرز، فقد اقترح السيد مصطفى الجندي -من قيادات حزب الوفد، ووزير الشؤون الأفريقية في حكومة الظل- خلال اجتماع مجلس وزراء حكومة الظل مساء الثلاثاء الماضي بمقر حزب الوفد، أن يجرى استفتاء بديل للشعبين المصري والسوداني في الشمال بشأن قيام وحدة بين شمال السودان ومصر للرد على قيام دولة في الجنوب. وعبر عن خوفه من مزيد تمزيق للسودان وعن تمسك حزبه بالمقولة الشهيرة للزعيم الوفدي مصطفي النحاس: “تفصل يدي ولا تفصل السودان عن مصر". لكن هذه برأينا مجرد أحلام، فالخيار الوحيد المتاح للسودانيين للاتحاد مع مصر في وضعها الحالي هو خيار (تحت التاج) أي أن تكون لمصر السيادة على السودان، والصيغ التي يتم التعامل بها في مصر مع قطاع هام وأصيل بالبلاد هو قطاع النوبة خير دليل، والسودانيون سوف يرفضون صيغة الاتحاد على غرار النوبة.. هذا علاوة على أن أي اتحاد لا يقوم على أساس تفويض شعبي صحيح في البلدين سوف يظل تكرارا جديدا لاتفاقية التكامل سيئة الصيت. إذا أراد السودان ومصر بحث أية صيغة للوحدة الحقيقية فإن ذلك دونه خرط العتاد: التحول الديمقراطي الحقيقي في المنطقة. أما في السودان فقد جربنا الديمقراطية وهي مآلنا الطبيعي مهما امتدت سنوات “الإنقاذ” أما في مصر فالفجر لم يطل لنقول إن شمسه يمكن أن تبزغ أم لا! كما أننا نظن أن ما بيننا وبين أخوتنا في الجنوب يزيد على ما بيننا وأخوتنا في مصر برغم وحدة اللغة والدين. فهنالك وحدة في الروح الثقافية مع اختلاف الإثنيات واللغات والأديان. هذه الروح الثقافية بعضها راجع للتاريخ المشترك في أوان تكون القومية السودانية في شكلها المحدث، وبعضها راجع لخيط التسامح والمثالية الذي يربط أنحاء السودان المختلفة ويجعلها مغايرة لجيرانها الأشبه بها.. فالخيط الرابط بين زغاوة السودان في الغرب وبين بقية السودانيين أكبر من الرابط بينهم وبين أخوتهم في تشاد، ويصدق هذا على البني عامر في الشرق وأخوانهم في أثيوبيا وأرتريا والنيليين في الجنوب وأخوانهم في يوغندا وكينيا، والنوبة في الشمال وأخوانهم في مصر، وغيرهم. إن التاريخ الحديث مع أخوتنا في الجنوب كان بعضه اغتراب ولكن بعضه انتماء كما أثبت المرحوم محمد سعيد القدال في كتابه حول المهدية والجنوب، وتتواصل ذات السمات إبان عهد الاحتلال الثنائي ثم العهد الوطني، فقد كان هنالك تراكم حميد مثلما وجد تراكم خبيث بتعبير الإمام الصادق المهدي في كتابه الأخير حول القضية. فلا هو ود وإخاء متصل ولا هو كره وعداء مشتعل ولكنها علاقات متجذرة! علاقات تربط بشكل حيوي ثمانية ملايين من قبائل الرعاة التي تعيش ثلثي حياتها السنوية جنوبا وأربعة ملايين من القبائل الجنوبية التي ترتبط مصالحها بالشمال. هؤلاء حتى مع الانفصال الرسمي تضطرهم حياتهم أن يغنوا مرددين النشيد القديم: منقو قل لا عاش من يفصلنا! إذ مع الانفصال الرسمي سيظلون متداخلين، أو تحطم حياتهم إربا! وهنالك الوحدة الوجدانية. لم يكن دعاة الاتحاد مهما بلغوا من محبتهم لمصر يقولون إننا مصريين! صحيح إنه نسب للشيخ محمد شريف نور الدائم قوله: أنا الطَيبيُّ الخُرطوميُّ وضعاً ونشأة أنا المدنيُّ المكيُّ جِواراً أنا المصري لكن لم يشع أن يقول الاتحاديون إننا مصريون، وحتى ابن الشيخ الشاعر العباسي رحمهما الله الذي هام بمصر قال: مِصرُ، وما مِصْرٌ سوى الشمسِ التي بهرتْ بثاقبِ نورِها كُلَّ الورى ولقد سعيتُ لها فكنتُ كأنما أسعى لطيبةَ أو إلى أمِ القُرى فهي بلد آخر سعى إليه كما يسعى للمدينة أو مكة! أي كان وجود مصر والسودان منفصلا في وجدان الاتحاديين. والحال مع الجنوب مختلف.. فالسودان يجمعنا شمالا وجنوبا، وهم يتحدثون عن أنهم (جنوب السودان) أو (السودان الجديد) وحتى (دولة كوش) التي ينادون بها مقرها كان في شمال السودان أي هي تاريخ يجمع بيننا ولا يفرق وكذلك مسمى (جمهورية النيل). وأنت تجد وحدويين جنوبيين حتى النخاع على رأسهم الراحل دكتور قرنق، وحينما تقرأ لأجوك عوض الله جابو تظن إنها شمالية مائة بالمائة لأنها مسلمة وتغرف من التراث العربي باقتدار فهي عربية لأن العربية كما قال المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ليست من أب أو أم (من تكلم العربية فهو عربي) ولكنك تقول إنها سودانية جنوبية. وحتى ستيلا قاتيانو التي لا تجمعها بأقوام الشمال ديانة فإنها كما تقول (وحدوية على السكين).. كثيرون في الجنوب وفي الشمال تشكل وجدانهم حول سودان المليون ميل مربع، ومع أن ظروف التشاكس في ميشاكوس والتناكر في ناكورو والتنافش في نيفاشا وما بعدها قد جعلت الوضع الرسمي في الشمال يؤيد الانفصال فعلا حتى ولو قال غير ذلك بلسانه بل جعل اللسان الناطق والمعبر الحقيقي عنه هو صحيفة (الانتباهة) ومنبر السلام العادل في صمت رسمي عنهما وتأييد خفي، وجعلت الوضع الرسمي في الجنوب يولي نحو الانفصال وهو يجمح؛ إلا أننا لا زلنا نؤكد أن الوجدان الجنوبي والشمالي لا زال فيه براح لسودان المليون ميل مربع! قالت لي الدكتورة سوزان دوناكو دينق الناشطة في الحقوق النسائية من الحركة الشعبية لتحرير السودان إنها وحدوية حتى النخاع وإن كثيرا من الجنوبيات هن كذلك، وقالت محللة لموقف الانفصاليين –بمن فيهم زوجها السيد باقان أموم- إنهم يتخذون ذلك الموقف كواقعية وتعبير عن الفشل في إصلاح حال السودان ككل، إذن على الأقل تخليص الجزء الجنوبي من الحال المايل في الشمال! هذا الكلام ردده تقريبا مع إضافة الموال الإسرائيلي المعروف الأستاذ عبد الباري عطوان رئيس تحرير صحيفة القدس العربي في مقاله حول انتفاضة المغرب العربي بعنوان (انتفاضة كرامة وليس خبزا فقط) إذ قال: “إذا كانت بعض الشعوب غير العربية، أو غير المسلمة، تهرب من أنظمة الظلم والفساد والقمع إلى الانفصال وتقرير المصير بعد أن عجزت عن التعايش، او نتيجة لتحريض غربي، والأكثر من ذلك تلجأ إلى إسرائيل لتتحالف معها، مثلما نرى في جنوب السودان، وبدرجة اقل في كردستان العراق، فأين تهرب الشعوب العربية المقهورة؟” فهو يؤكد أن الانفصال هو هرب من فساد وظلم الشمال! الشاهد إن حالة شبه الإجماع النسوي على الوحدوية التي أشارت لها سوزان عبرت عنها نساء السودان من مختلف المشارب بتنظيم اجتماع عصر السبت 15 يناير بدار الأمة بأم درمان، يشاركن فيها جميعهن من الشمال والجنوب للتعبير عن عزمهن كنساء سودانيات على العمل من أجل سودان موحد ولو بعد حين، وهي دعوة متناغمة مع ومطورة لدعوة الأستاذة هادية حسب الله لنساء السودان لارتداء الأبيض حدادا على ذهاب وحدة البلاد لعلهن بذلك يرسلن رسالة ما للأجيال الحاضرة والمستقبلية. لكل ما سقناه هنا، نستطع القول إنه مع أن العودة لم تمكن لشعار الاتحاد مع مصر في الماضي وهي صعبة جدا في الحاضر، ولكن شعار العودة للوحدة مع الجنوب ممكن، وليس مجرد “أسطورة” نخدر بها أنفسنا ونحن نشهد هذه الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة.. وعلينا أن نظل نبقي على الشعلة حية.. نرفدها بحطب من مآقينا ودمانا وسواعدنا لتنير المستقبل!..قال عبد العزيز سيد أحمد: انفخ بالشفاه النار كي تبقى على الموقد ألا بلغت يا خمار فلتشهد وليبق ما بيننا