"غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    نهب أكثر من 45 الف جوال سماد بمشروع الجزيرة    ابتسامات البرهان والمبعوث الروسي .. ما القصة؟    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(حريات) في تغطية لختام فعاليات ندوة جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي 2014
نشر في حريات يوم 21 - 02 - 2014

اختتمت أمس الخميس فعاليات الدورة الرابعة لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي بإعلان الفائزين بالجائزة هذا العام، وكانت قد بدأت أول أمس الأربعاء بندوة شارك فيها لفيف من العلماء والنقاد من مختلف أنحاء العالم العربي، حظيت بحضور كثيف ونقلتها عدد من الفضائيات السودانية.
وترعى الجائزة شركة زين للهاتف السيار، وقد اشتملت الجلسة الأولى على ثلاثة أوراق كانت الأولى بعنوان (الأنا والآخر في السرد العربي والأفريقي) قدمها الدكتور خالد فرح وعقب عليها الشاعر الكبير عالم عباس، و(تمثيلات الآخر في قصص إبراهيم إسحق) وهي ورقة قدمها استاذ الفولكور والقاص البروفسر محمد المهدي بشرى وعقب عليه دكتور صديق أمبدة، والورقة الثالثة بعنوان الفرنسيون والمتفرنسون في القصة التشادية قدمها الدكتور عبد الله حمدنا الله وعقب عليها د. نور الدين ساتي. وتلاها نقاش حي من الحضور وتطرقت ضمن سؤال الأنا والآخر للهوية ونادى الأستاذ محمد جيلاني بوصف الذات بعيدا عن العرقية، وهنا تحدثت الأستاذة القاصة الجنوبية والكاتبة الشهيرة ستيلا قاتيانو قائلة: نحن في بلد متنوع، فكيف يكون الحديث عن ثقافة معينة باعتبارها هي الأصل وغيرها آخر، أنا أو إبراهيم إسحق أو بركة ساكن حينما نتحدث عن الأنا ونصف أنفسنا يجب ألا ينظر لذلك على أنه عرقية، ولكن هذا ضمن التنوع الموجود في البلاد، والبلد يجب أن يستوعب جميع أبناءه على قدم المساواة معترفا بهم ليكونوا جميعهم جزءا منه. ولم تصمت ستيلا إلا تحت دوي التصفيق المستمر، حيث ضجت به القاعة مع شعور بالمرارة لف المكان.
قالت الأستاذة رباح الصادق ل(حريات): (حينما انتهت الجلسة طفقت أبحث عن ستيلا حتى وجدتها تباكينا زمنا قبل أن نتسالم ونتكالم، مثل بكاء ود حامد عن بكرة أبيها يوم النداء الذي نط في حلق سعيد عشا البايتات من الأذان، اتضح لي لاحقا أن عديدين كانوا يبحثون عنها لوجه العزاء!) واستدركت قائلة: (طبعاً مرارة الانفصال لا زالت غير مستوعبة وجدانياً وحديثها كأنها لا تزال جزءا من البلد أثار كل ذلك الأسى بالرغم من أنها جاءت بتأشيرة من سفارة السودان بجمهورية جنوب السودان! وهذا ما وصفته بشكل مرير في إفادتها لفيلم بروق الحنين)، إشارة للفيلم الوثائقي لانفصال الجنوب الذي أنتجته وبثته قبل أشهر قناة الجزيرة الإخبارية، من إخراج السينمائي السوداني الدكتور وجدي كامل.
الجلسة الثانية من الندوة المصاحبة للندوة احتوت كذلك على ثلاث أوراق هي (الطيب صالح في الذاكرة السردية) من تقديم الكاتب السعودي دكتور سلطان القحطاني وعقبت عليه الأستاذة رباح الصادق، والثانية قدمها البروفسر المغربي سعيد يقطين بعنوان (الأنا، الآخر، السرد: من أجل سرديات للهوية) وعقب عليها الفولكلوري البارز بروفسر سيد حامد حريز. والورقة الثالثة كتبها البروفسر اللبناني جان داؤد ولكن حالت ظروف من حضوره فقدمها السفير اللبناني بالخرطوم، وعقب عليه الدكتور عثمان البدوي.
وفي ورقته عن الأنا والآخر والسرد قدم الدكتور يقطين باطراد الاهتمام بالحديث عن الهوية في العالم العربي في العقدين الأخيرين مؤكدا تنوع العلاقات بين الأنا والآخر، وتطرق للأنا والآخر في الدراسات الأجنبية والعربي، و(للهوية السردية والسرديات للسؤال عن الكيفية التي بواسطتها يتم "سرد" الهوية" أي التعبير عنها من خلال الخطاب السردي). ثم تعرض للأنا والآخر في اللغة (المفرد والجمع) باحثا ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب والتي تحدد حالة الأنا والآخر وحضوره وغيابه مفردا وجمعا. والثبات والتحول في السرد، والتبدل الزمني فيه، والتبادل الصوتي بين الأصوات السردية. ثم تطرق بالتحليل لموسم الهجرة للشمال وللخطاب الذي يتخذه (مصطفى سعيد) وخلص للقول: إذا كانت الهوية السردية وقد صارت في المستوى الأول في حياة الشخصية قد نجحت في إقامة الاتصال بين الأنا (الراوي- الشخصية) والآخر (الشخصيات النسائية في الرواية) فإن الهوية الشخصية وهي تتوارى في الخلفية، محددة تلك الهوية السردية لم تؤد إلا إلى الانفصال مع الآخر، أيا كان نوعه، ولم يكن لذلك "الوتد" وتلك "المدية" إلا أن يجرحا تلك العلاقات ببرود وعنف. ولعل استكمال قراء الرواية كاملة في هذا الاتجاه السردي كفيلة بتعميق رؤيتنا للعمق السردي والشخصي الذي أبدع لنا من خلاله الطيب صالح الهوية الشخصة والسردية لبطله مصطفى سعيد، مقدما بذلك رواية حقيقية، تستدعي دراسات سردية تنفتح على أبعاد نفسيه واجتماعية وأنثروبولوجية وجمالية تتعدى الإطار الذي حصرت فيه الدراسات العربية لهذه الرواية باختزالها في مغامرات جنسية عرضية).
وفي تعقيبه على ورقة بروفسر سعيد يقطين أثنى البروفسر سيد حامد حريز على مقدم الورقة وقال إن الدول المغاربية وبشكل عام الدول التي عانت من الاستعمار الفرنسي تعاني بشكل اكبر من إشكال الهوية نسبة لسياسة الاستيعاب الفرنسية cultural assimilation بخلاف الاستعمار البريطاني الذي لا يجتهد في عملية الاستيعاب. فالمغاربة عانوا أكثر من موضوع الهوية ليس فقط الهوية السردية. وبحثه هذا عملي ودقيق أتمنى أن يواصل بنفس المنهج في بقية أعمال الطيب صالح كما أشار في مقدمة حديثه بقوله إن بحثه لم يكتمل. وأكد حريز إن الذات والآخر في تغير باستمرار مشيرا للذي حدث في الجنوب في الفترة الماضية والتدخل من منظور رسمي سياسي لكثير من القضايا التي هي في صميم العلاقة بين الذات والآخر ومحاولة معالجة تلك العلاقة (بين الشمال والجنوب)، ففي معالجة قضايا التجارة والتبادل التجاري في مناطق جنوب النيل الأبيض وغيرها من المناطق المجاورة للجنوب صدر قرار جمهوري رقم 11 لعام 2012م يمنع ويجرم أي تبادل تجاري ويقضي بعقوبة الإعدام على من يقوم به، هذا إضافة لما قيل عن shoot to kill، بينما كان الذات والآخر ثقافيا واجتماعيا متقاربين ولكن اختلفا سياسيا. الآن في أقل من سنتين من صدور ذلك القرار أصبحنا نساعده بالقوافل والمعونات والزاد والعلاج عبر المنظمات الاجتماعية. كما أثنى على الورقة والمجهود الإحصائي الدقيق فيها للضمائر واستخداماتها والتحليل العلمي والمنهج المنضبط، وعلى فكرة أن الذات نفسها ليست مكونات ثابتة بل متبدلة، بينما انتقد قلة وجود الفضاء الإفريقي في الورقة، وأمّل أن ينتج ظهور الهوية ضمن أربع قضايا رئيسية في حديث الرئيس (الوثبة الكبرى) عن اهتمام حقيقي في التعامل مع اشكال الهوية بجدية.
أما الدكتور سلطان القحطاني فقد اشتملت ورقته على ثلاث محاور الأولى عبارة عن مقدمة تروي نشأته في الإحساء بالسعودية ومعاناة أسرته في الريف وظروف تعلمه وتأخره في الدراسة وتعوده على الاستماع للسرديات المختلفة ثم دخوله لاحقا عالم الكتابة القصصية وعدم رضائه عن كتابته مؤكدا أن الرواية العربية كانت تعاني حلقة مفقودة، وفي الجزء الثاني من الورقة بعنوان علاقتي مع الطيب صالح روى كيف قرأ أول مرة رواية موسم الهجرة إلى الشمال وأثرها الكبير عليه فكأنما وجد ما كان يبحث عنه وقال: (إن الصراع الذي كان في الرواية شيء غيّر في البناء الروائي العربي الحديث، ومن ثم أحكم عقدة روائية راقية غير مفتعلة، توازن فيها الزمان والمكان، وتم رصد أحداثها بطريقة لم تكن معروفة في الرواية التقليدية، وجرأة في الطرح، واتساق في العبارات، بين ثقافتين متغايرتين، حتى في عتبة العنوان الذي غير المفهوم السائد خطأ، فالبلاد العربية لا تقع شرق أوروبا، بل جنوب أوروبا). وقال القحطاني إنه ليس هو فقط بل كل جيله من الكتاب العرب تأثر من الطيب صالح واستفاد منه، مؤكدا إنه ليس كاتبا سرديا إخباريا ولكنه كان يتنبأ عما يمكن أن يحصل: (وبعد تعمق في باطن الرواية وجدت أن الفرق بين هذا الكاتب وغيره من الكتاب العرب، أن شخصياته إشكالية مستفهِمة، كل منهم له أطروحاته التي تحتاج إلى قراءة عميقة، فمصطفى سعيد شخصية إشكالية تُقرأ من عدة وجوه وعدة قراءات، فهذا الكاتب ليس سارداً إخباريا عما حصل بل عما يمكن أن يحصل، لذلك ترك القارئ يعيش مع النص يحلله كفيما يشاء. تأثرت بالطيب صالح، وتأثر به كثير من كتاب السرد الحديث). و(واستطاعت هذه الرواية أن تفتح أفقاً جديداً حداثياً في عالم الرواية العربية، ونقل الطيب صالح همومه وتطلعاته معه أينما حل وارتحل)، و(ما كان تتويج الطيب صالح بلقب (عبقري الرواية ) قد جاء من فراغ، فهو الذي استطاع أن يحول وجه الرواية العربية إلى وجهة عالمية، وبعد أن تعرفنا عليه في مهرجان الجنادرية الذي يحضره كل عام، دارت بيننا الأحاديث حول الرواية، ووجدت منه كل تقدير لما قمت به من دراسة علمية عن الرواية في المملكة، وعندما يُسأل عن توقفه، يضحك وبكتفي بكلمة واحدة( كفاية كذا)،وفعلا يكفينا منه ذلك. كان معروفاً عند كل مثقف في العالم العربي). وفي القسم الثالث من ورقته بعنوان الأنا والآخر في الرواية السعودية تطرق لأنواع من الآخر وكيف عالجتها الرواية السعودية خاصة والعربية على وجه العموم ومن تلك القضايا قضية العنصرية أو اللون الأسود، وقضية التعامل مع الغرب أو المستعمر أو العالم المتقدم.
وعقبت على القحطاني الأستاذة رباح الصادق بمداخلة حصلت (حريات) على نصها كالتالي:
بسم الله الرحمن الرحيم، في البداية أشكر أستاذي الدكتور محمد المهدي بشرى على تشريفي باختياري معقبة في هذا المحفل المهم والمميز على ورقة كاتب وناقد وباحث قدير جمعته بطيبنا كما ذكر وكما وثقت الأسافير والأضابير محاورات وعلائق، وذلك بالرغم من أنني آتي من خارج دوائر النقد الأدبي، فبتخصصي الأكاديمي مهندسة كهربائية، وبدراستي فوق الجامعية فولكلورية، وبعملي الراهن مساعدة باحث وصحفية.
أبدأ بذكر المتعة والفائدة اللتين تلفان الورقة لقارئها، عيشاً في عالم الكاتب الشخصي، ثم بواكير تعرفه على موسم هجرة طيبنا الصالح ودوره المحوري في الرواية العربية، ثم الجزء الأكبر من الورقة بعنوان (الأنا والآخر في الرواية السعودية). مع أن عنوان الورقة لا يتناسب ومحتواها، وربما كان أفضل لو سميت: (الأنا والآخر في الرواية العربية) بشكل عام.
مصطلح الشمال والجنوب: أوردت الورقة بحق أن مصطلح الشرق ليس دقيقا في وصف البلاد العربية، وأن الاستراتيجي البحري الأمريكي الفريد ماهان أطلق تسمية الشرق الأوسط على منطقة الخليج عام 1850، وقد وجدتُ في الويكيبيديا الإنجليزية أنه في ذلك التاريخ صك التسمية مكتب الإدارة البريطانية بالهند، وأن ماهان كان أول من كتب بتلك التسمية في مقال له بصحيفة الناشيونال ريفيو في سبتمبر 1902 بعنوان (الخليج الفارسي (أي العربي) والعلاقات الدولية) ومن ثم ذاعت التسمية. لكن علينا أن نلاحظ أيضا أن العالم العربي ليس واحدا في الجغرافيا فهناك مغرب فيه ومشرق، ومغربه يقع مباشرة جنوب أوربا وبعضه كالمغرب غرب بعضها، ولكن بعض مشرقه كسوريا يصح في وصفه الشرق أكثر من الجنوب. السودان أصلا لم يدخل تعريف الشرق الأوسط بداية، وكانت الإدارة الأمريكية عرفته ضمنه في 1957 ثم أخرجته العام التالي. ولكني اعتقد أن رواية موسم الهجرة تتبنى موقفا حضارياً، بين حضارة عالم الشمال (شرقه وغربه) التي تقدمت بالعلم والآلة وخطت خطوات معجزة، وعالم الجنوب الذي عانى الاحتلال ثم الاستغلال ولا يزال يضربه التخلف، وفيه اجتمعت أمريكا اللاتينية مع أفريقيا وآسيا في مؤتمر باندونج 1955م.
يقول دكتور القحطاني إشارة لطيبنا: هذا الكاتب ليس ساردا إخباريا عما حصل بل عما يمكن أن يحصل! فتأملوه وهو يروي مأساة محيميد إذ أحيل للتقاعد لأنه لا يصلي الفجر في الجامع. الحكومة التي ترصد ما بينك والله، فيرسل الناس اللحى ويتلمسون طريق المسجد طلبا للترقي الوظيفي، (دعوني أعيش) و(من أجل أبنائي)، وهي لله، بعد عشرين عاماً مما كتب! صحيح كان يتنبأ.
قال دكتور القحطاني: الشخصيات أمثال بنت مجذوب، ومصطفى سعيد وغيرهما كانوا رموزا للطبقات! المجتمعات الأفريقية وحتى العربية تعرف التمايز بشكل تطغى فيه الجمعية والعشائرية، إنها خاصة المجتمع الذي وصفه الطيب صالح، لم تتعرف على الطبقات الرأسمالية بعد والتي تطورت في الغرب عبر قرون، فالطبقات الاجتماعية نظام يصنف فيه المجتمع فئات الناس كسمة له لا كانعكاس لفروق فردية (كما هي حالة مصطفى سعيد وبت مجذوب)، وهي تقسيمات تنتقل من جيل لجيل، وتُضمّن في لا مساواة ثقافية موازية للهيكلية. مجتمع ود حامد كما رسمه طيبنا يهزم هذه التقسيمات بقفزات عديدين في غمضة جيل (قفزة بندر شاه، وقفزة سعيد البوم). المهم إذا نقلنا المفهوم لعالمنا يجب أن نكون حذرين جداً إزاء الطبقة ف(الغبشا بتجيب الممسحة) و(أهلك كان كلاب سوي ليك ضنب) و(العز أهل) ولربما فوجئنا أن تقسيمنا إثني أو جهوي في المقام الأول.
صنف دكتور القحطاني أنواع من الأنا والآخر. الآخر النوعي، والآخر القبلي، والآخر الديني وغيره. ثم تطرق لمعالجة الرواية السعودية خاصة والعربية عامة لبعض القضايا التي تصب في الوعي بالذات والآخر أهمها قضيتي التفرقة اللونية وثنائية الشرق والغرب:
بالنسبة للتفرقة اللونية والعنصرية: تطرق لمآلاتها لدى قبائل مثل قبيلة عنترة العبسي، وللآخر الأفريقي، أو بسبب الخؤولة وكيف عالجت روايات سعودية وكويتية هذه القضية الإنسانية المشوبة بالظلم والاضطهاد. وهي قضية لها في عالم الطيب صالح أبعاد أخرى كونه ينتمي لبلد أفريقي بالكامل ولبعضه من العروبة نصيب ثقافي كبير وعرقي أقل. الآخر في مجتمع ود حامد قبلي، مثلما تشير عبارات جد محيميد حينما يذم فعلاً، أو جهوي يمثله سعيد عشا البايتات، أو إثني كضو البيت مجهول الأصل، أو مثل بطله مصطفى سعيد أبوه من العبابدة وأمه جنوبية، وهنا تبدو أطروحة الهجنة. سألته إنجليزية هل أنت أفريقي أم آسيوي فأجاب: أنا مثل عطيل عربي أفريقي. فقالت: نعم أنفك مثل أنوف العرب لكن شعرك ليس مثلهم. قال: وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة. الطريقة التي رسم بها مصطفى سعيد نفسه تذكر بمقولات أستاذي عبد الله علي إبراهيم الفكرية في وصف أفكار أصحاب (مدرسة الغابة والصحراء) في (الآفروعروبية أم تحالف الهاربين). ونحلة البدائي النبيل. الفرق أن أصحاب المدرسة كانوا يؤمنون بنحلتهم، بيد أن الطيب رحمه الله جعل مصطفى ممتطيا خزعبلات التاريخ والجغرافيا عمداً وتلفيقاً نحو غرائزه الآيروسية. ذكّرني بمصطفى سعيد لاحقا السكرتير البابوي في رواية الكاتب الأمريكي المذهل دان براون (ملائكة وشياطين)، فقد أحيا تاريخ أخوانية المستنيرين الغابرة عمدا لخدمة طموحاته الذاتية. والفكرة أن فروقات الأنا والآخر يستخدمها البعض لجعل التنوع وما يصحبه من تحيزات أو سوء فهم أو مخاوف سلاحاً لصالحهم.
درّسنا دكتور محمد المهدي بشرى في الفولكلور السوداني عن أسطورة الغريب الحكيم في أدب الطيب صالح، مصطفى سعيد، وضو البيت ومدلولاتهما العرقية والسياسية في المجتمع السوداني يمكن أن يقال حولها الكثير. تطرق للأسطورة أيضا الأستاذ إبراهيم إسحق في مجتمع دارفور (أحمد المعقور)، ونظر لها باحثون على أنها ربما وسيلة مصنوعة للسيطرة على مجتمع ظل مفتوحا لتقبل الهجرات إليه من قبل الوافدين.
الشاهد، في بلاد متنوعة كبلادنا يظل سؤال الهوية والإثنية معلقاً على مصاطب القص والبحث مصلوباً حتى الآن. وهو معقد مشتبك مع الدين، والجهة والتاريخ والجغرافيا والسياسة والإثنية، والنوع مطحون بالغبن والمرارة. قال شاعرنا الشفيف عاطف خيري: بلاد أنجبتني وقالت غريب/ بلاد أنجبتني/ عطشت وسقتني/ ورحت ولقتني/ فكيف علقتني بذاك الصليب؟
(بذرة الخلاص) ثم (طائر الشوم) لدكتور فرانسيس دينق روايتان حامتا حول سؤال العرق والإثنية في سودان ثمانينات القرن العشرين أي ما قبل الانفصال المرير، في محاولة لإثبات أن العروبة وهم أكثر من حقيقة. كتابه (الدينكا: أفريقيون بين عالمين) ثم دراسته (الأخضر هو لون السادة) أطروحات في إنكار حقيقة الاختلاف العرقي أو التقليل منه. السودانوية، الآفروعروبية، كل محاولات الحقيقة الشاملة برأيي تخطيء حقيقة التنوع، لدينا طيف يبدأ بالذين تضطهدهم الثقافة المركزية للونهم الأبيض، إلى الذين تضطهدهم للونهم الأسود، وهناك اضطهاد الجهات واللغات واللهجات والنوع..الخ. المعالجة المطلوبة تبدأ بالاعتراف والاحترام ووقف أحلام الهجنة والبوتقة والتذويب.
والآن هناك روايات جديدة تحتاج لقراءة واعتقد ربما وجدنا في أعمال عبد العزيز بركة ساكن: ثلاثية البلاد الكبيرة (الطواحين، رماد الماء، زوج امرأة الرصاص)، مسيح دارفور، مجموعة امرأة من كمبو كديس، وغيرها معالجات مختلفة لشرائح مخصصة وليست معممة، مثلا في (امرأة من كمبو كديس) يتعرض لقضية التمييز المزدوج الذي تعانيه امرأة من إثنية النوبة.
الآخر الإثني والثقافي في وطن متنوع كالسودان يشمل غالبية المواطنين الساحقة لكل واحد وواحدة منا، وبالتالي معالجة النظرة للآخر والتعايش معه بعدالة وإنصاف ليست إلا واجبا وطنياً.
السؤال له أهمية لجماعات أخرى في بلدان عربية لم نك نظنها كذلك لأنها في إعلامها وسينماها الداوية لا تظهر سوى وجها وحيدا، لكن المعايشة في مصر كمثال تريك أن السؤال محوري للنوبة. روايات مثل (دنقلة) لإدريس علي، و(دوامات الشمال) لحسن نور، وكتابات حجاج أدول (النوبة تتنفس تحت الماء) وغيرها تعطيك نظرة أخرى.
ناقشت الورقة ثنائية الغرب والشرق: وعبر هذه الثنائية تطرقت لمعالجات في الرواية العربية لسبل النهضة المختلفة، وأحب أن أشير مرة أخرى لهجرة الشمال، فبغض النظر عن الجغرافيا ومدلولاتها الجيوسياسية، أتخيل أن المشهد الأخير في رواية (موسم الهجرة) والتي صور فيها الراوي سابحا من قريته في الجنوب إلى الشط الشمالي ويشهد أسراب الهجرة للشمال فوق رأسه وتصيبه حالة الشلل بين قوى النهر التي تجره للقاع ورغبة العودة المستحيلة، وإدراكه أن عليه أن يحيا ويصرخ في طلب النجدة، هي وصفة لحالة حضارية يصح وصفها لكل عالم الجنوب مقابل عالم الشمال وليس فقط العالم العربي، حالة صراع بين موروثاته والعصر تدور على خلفية تكالب وتآمر خارجي لامتصاص ثرواته وضمان الهيمنة عليه، توازيها في الأدب السوداني قصيدة الشاعر الكبير (محمد طه القدال) مسدار أبو السرة لليانكي. مع اختلاف الأيديلوجيا التي يحملها المسدار وهي مصادمة لذلك العالم الذي يسوقنا للمذبحة ليلتهمنا (عالم حر يدوعل فوقنا لي يوم سوقنا)، بينما أيديولوجيا موسم الهجرة هي المباصرة أو (القوة والمكر). لقد سلّم مصطفى سعيد اللامنتمي المولود عشية الهزيمة في كرري (1898م) الراية للراوي المنتمي، كلاهما تتلمذ علي يد الغرب، ماذا ستكون النتيجة؟ في (ضو البيت)، 1971م، عالج الطيب صالح الآخر جيلياً في الصراع بين محجوب وأولاد بكري، وثّق أم تنبأ الطيب صالح لسقوط مجتمعنا في يد الابتذال؟ أظنها كانت نبوءة.
أشار دكتور القحطاني للرواية التاريخية كروايات جورجي زيدان وبالقطع فيها محمولات حضارية وفكرية لا تخطئها عين. والرواية التاريخية قد تكون ضرباً من البحث في الذات أو العلاقة بالآخر، وفي السمة الحضارية عبر الحقب. مثلا رواية (عزازيل) للدكتور يوسف زيدان تتطرق لعصر تحول مصر من آلهة الفراعنة للمسيحية القبطية، وتغوص في الاختلافات بين كنيسة الاسكندرية وأنطاكية، وطبيعة الإسكندرية ودورها، أو العنف في طبيعة الشمال المصري ومآلات التعصب الديني السيئة. ونحن محتاجون لمثل هذه المعالجات الناضجة لسمات مجتمعاتنا ومكامن الخلل تاريخيا، وسبل النهضة الممكنة.
أخيراً، لقد استمتعت بورقة دكتور سلطان القحطاني، وحاولت أن أداخلها ببعض الأفكار احتفاء بها وبالمناسبة الجليلة كونها أول مرة أشارك فيها بكلمة عن سلطان الشعب القاريء المحبوب، الراحل المقيم طيبنا الصالح، رحمه الله وأحسن نزله في الجنان، وكم قد ملك الوجدان والجنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.