اللجنة العليا للتنسيق مع الأمم المتحدة تؤكد الحرص على توفير الدعم القانوني لكل الجهات دون فرز    وزير الداخلية يتفقد رئاسة هيئة التدريب ويؤكد على أهمية التدريب فى رفع كفأءة منسوبى قوات الشرطة    والي حاضرة الشرق يتحرك في إدارة ولايته بين ثلاث خشبات    رسمياً.. ريجيكامب مديراً فنياً للهلال    نهضة تونس و عصار يسيران لوضع خارطة جديدة للكرة بالقضارف    الرحلات الجوية تعود إلى مطار الخرطوم خلال شهرين    د. أمين حسن عمر يكتب: ديمقراطية أهل السودان    هل سيعود المصباح أبوزيد علي متن طائرة كامل إدريس ؟!    ضبط عدد 12 سبيكة ذهبية وأربعة كيلو من الذهب المشغول وتوقف متهم يستغل عربة دفار محملة بمنهوبات المواطنين بجسر عطبرة    حميدان التركي يعود إلى أرض الوطن بعد سنوات من الاحتجاز في الولايات المتحدة    الكشف عن المرشحين للفوز بجائزة الكرة الذهبية 2025    والي النيل الأبيض يزور نادي الرابطة كوستي ويتبرع لتشييّد مباني النادي    لجنة أمن ولاية الخرطوم تشيد باستجابة قادة التشكيلات العسكرية لإخلائها من المظاهر العسكرية    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية قراءة التراث
نشر في حريات يوم 25 - 04 - 2015


د. مصطفى بيومي عبدالسلام
تضطلع هذه الدراسة بفحص "إشكالية قراءة التراث"، بوصفها إشكالية قائمة في قراءة النصوص التراثية التي تنتمي إلى مجالات معرفية مختلفة.
ونرى أن هذه الدراسة مشروعة لأسباب نوردها فيما يلي:
أولاً : إن "إشكالية قراءة التراث" إشكالية واحدة لا تتغير ولا تتبدل بتغير وتبدل الحقل المعرفي. إن كل قراءة للنص / التراث تطمح فيما أتصور إلى إنتاج معرفة جديدة بالنص المقروء سواء كان هذا النص نصاً أدبياً، أو فلسفياً، أو دينياً، أو نقدياً، أو سياسياً… إلخ، ولذلك ينطوي الإشكال المعرفي لعملية قراءة التراث على علاقات أساسية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، مما يجعل من هذا الإشكال "إشكالاً واحداً في قراءات متعددة متباينة بتعدد حقول التراث وتباينهاً". وسوف نوضح هذه النقطة تفصيلاً في فقرة لاحقة.
ثانياً : إن النصوص التراثية على الرغم من انتمائها إلى مجالات معرفية متباينة لا فرق بينها بوصفها نصوصاً في المقام الأول، قابلة لعملية الانقراء، أو بالأحرى ما يمكن أن نطلق عليه قابلية النصوص التراثية لعملية التأويل، فلا فرق يذكر بين النص الأدبي أو النقدي أو الفلسفي أو الديني أو السياسي، إن كل ذلك موضوع للقراءة والتأويل. ربما يبدو صحيحاً أن إجراءات عملية القراءة تختلف من نص إلى آخر، ولكن هذا لا يعني أن هناك فروقاً بين النصوص.
إن الافتراض الذي يتوهم أن ثمة نصاً ما يمتلك قابلية لعملية القراءة أكثر من نصوص أخرى، تهدمه حقيقة النصوص بوصفها وقائع خطابية مثبته عن طريق الكتابة، وتهدمه أيضا حقيقة التأويل الذي وصفه بول ريكور بأنه "عمل الفكر الذي ينطوي أو يتوقف على فك شفرة المعنى المختفي في المعنى الظاهر، أو كشف وفتح مستويات من المعنى المضمن في المعنى الحرفي".
ويشترك في ذلك النص الأدبي والنقدي والفلسفي، والديني وحتى العلمي يستخدم هو الآخر تقنيات مجازية إن صح لي أن أتوهم ذلك.
ثالثاً : إن وجهة النظر التي ترى النصوص التراثية جزراً معرفية متباينة لا يمكن الربط بينها، هي وجهة نظر مضلِلة ومضللة، لأنها تفتقد الرؤية الشمولية للنص / التراث. "وما التراث إلا موجود لغوي قائم الذات باعتباره كتلة من الدوال المتراصفة"، كما يرى المسدي بحق في دراسته عن "التفكير اللساني في الحضارة العربية".
وينبغى أن ننظر إلى هذا الكل جميعاً وليس جزءاً من الكل، فالذي يقدم قراءة للنص التراثى النقدي على سبيل المثال فقط، يهدم وحدة الموجود الكلي أو على أقل تقدير يهدم الحضور التاريخي للنص النقدي داخل النص التراث ككل، فمن منا يستطيع أن يفصل الدرس النقدي عن الدرس البلاغي ناهيك عن علاقتهما بالدرس اللغوي والفقهي والفلسفي، "فالتراث النقدي لا ينفصل رغم استقلاله النسبي، أو بسبب استقلاله النسبي عن غيره من الحقول المعرفية من ناحية، وعن التيارات الفكرية الكبرى التي يدور في فلكها هو وغيره من الحقول المعرفية من ناحية ثانية".
…………………………………….
(2)
(الإشكالية) من المصطلحات التي يشيع استخدامها بصورة لافتة للانتباه في الفكر العربي المعاصر، وربما أحياناً بصورة ترادف مصطلح "المشكل" في الفكر العربي القديم. وجذرها اللغوي العربي يحمل جانباً دلالياً من معناها الاصطلاحي، يقال أشكل عليه الأمر بمعنى التبس عليه واختلط، وأمور أشكال: ملتبسة، والأشكلة اللبس.
ومصطلح "الإشكالية" يختلف عن مصطلح "المشكل" في الثقافة العربية القديمة، فهي ذات دلالة بنيوية شمولية، أما مصطلح "المُشْكِل" فهو: اسم فاعل من الإشكال، والداخل في أشكاله وأمثاله، وهو أيضاً الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعنى لدقته في نفسه لا بعارض فكان خفاؤه.
وقد قرر "الجرجاني": في كتاب "التعريفات" أن "المشكل: ما لا ينال المراد منه إلا (بالتأمل) بعد الطلب". و"المشكل" بوجه عام يعني: ما هو مشتبه فيه، ويمكن أن يقرر دون دليل كافٍ، ثم يبقى موضع نظر، ويعني اصطلاحاً: ما لا يتبين وجه الحق فيه، ويمكن أن يكون صادقاً دون قطع.
أما مصطلح "الإشكالية" فهو ترجمة لمصطلح "Problematic" الذي شاع استخدامه في الفكر الفلسفي ونظرية الأدب والنقد في الغرب منذ السبيعينات أو قبل ذلك بقليل، خصوصاً عندما أعطاه تعريفه الدقيق الفيلسوف لويز ألتوسير في كتابه "من أجل ماركس" (1965).
والإشكالية تعني: "وحدة مجموع الفكر الذي لا تستطيع عناصره المنفصلة أن تكون معزولة منها، وتحدد الإشكالية ما يمكن وما لا يمكن أيضاً أن يكون موضع تفكير داخلها".
ولقد أشاع الجابري هذا المصطلح فيما أظن في قراءته المعاصرة للتراث الفلسفي، وهي تعني لديه:
" منظومة من العلاقات التي تنسجها داخل فكر معين مشاكل عديدة مترابطة، لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل من الناحية النظرية إلا في إطار حل عام يشملها جميعاً. وبعبارة أخرى: إن الإشكالية هي النظرية التي لم يتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية أي نحو الاستقرار الفكري".
ينطوي تعريف الجابري على فهم دقيق للمصطلح، والذي يعطيه دلالته البنيوية الشمولية، ولكن ثمة اعتراضاً ينشأ على التذييل الذي وصف به الإشكالية بأنها نظرية لم يتوفر إمكانية صياغتها، أو هي توتر ونزوع نحو النظرية.
إن الإشكالية هي وحدة التساؤلات لمجموع الفكر، والإشكالية تحدد هذه التساؤلات. ويمكن أن أشرح ذلك من خلال المثال عينه الذي طرحه الجابري حول "إشكالية النهضة" التي تنتظم داخلها مشاكل عديدة مترابطة كما يتصور الجابري بحق.
إننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نعد "إشكالية النهضة" هي "نظرية النهضة" التي لم يتوفر إمكانية صياغتها، فإمكانية صياغة نظرية للنهضة تختلف اختلافاً جذرياً عن "إشكالية النهضة"، ولا يمكن أيضا أن نتحدث عما يسمى بالتوتر والنزوع نحو نظرية النهضة، ولكن ما نستطيع أن نتحدث عنه هو وحدة مجموع التساؤلات التي يطرحها الفكر العربي الحديث والمعاصر على نفسه، التي أظن أنها لم تتم مجاوزتها إلى الآن، وهي قائمة بالفعل بوصفها إشكالية منذ أن لطمت مدافع نابليون بونابرت أنف أبي الهول العظيم، ولن تنتهى فيما أتصور إلا بعد أن يقدم الفكر العربي حلاً أو حلولاً لجميع هذه التساؤلات يضمن تحقق الوجود الفاعل للإنسان العربي.
لقد وضع رولان بارت الإشكال المعرفي لعملية القراءة في ثلاثة أسئلة أساسية ثابتة: ما القراءة؟ وكيف نقرأ؟ ولماذا نقرأ؟.
وفي ظني أن التساؤل الأول لا مبرر لوجوده في الإشكال المعرفي لعملية القراءة، لأن التساؤل الثاني يتضمنه، وربما أيضاً يحتويه، فالوعي بالكيفية التي نقرأ بها النصوص ينطوى على وعى بنظرية القراءة أصلاً، وإلا أصبحت القراءة مجرد ثرثرة وكلام فارغ لا طائل من ورائها. وربما يكون من الأجدى أن نطرح الإشكال المعرفي لعملية القراءة على النحو التالي:
ما النص؟
وكيف نقرأ النص؟
ولماذا نقرأ النص؟
هذه الأسئلة الأساسية الثابتة للإشكال المعرفي لعملية القراءة على وجه العموم، تبدو مشاكل ثابتة في عملية قراءة التراث أيضا على وجه الخصوص. وتتجلى على النحو التالي: ما التراث؟ "مشكل الماهية"، كيف نقرأ التراث؟ "مشكل الكيفية التي نقرأ بها التراث"، لماذا نقرأ التراث؟ "مشكل الهدف من قراءة التراث".
فكل قراءة من القراءات المتعاقبة والمتزامنة، المتفقة والمتباينة تتعرض بطريقة أو بأخرى لمعالجة هذه المشاكل. قد يتبدل الترتيب في المعالجة، وقد يتغير الحقل المعرفي الذي تتوجه إليه القراءة، وقد يأخذ أحدها عناية القارئ، فيأخذ مكان الصدارة مزيحاً الآخرين أو قد يتم التصريح بمعالجة أحدها دون معالجة الآخرين، وقد يتبدل المنتج القرائي بتبدل القارئين المنتمين إلى عصور قرائية مختلفة إن صح لي أن أستخدم هذا التوصيف، ولكن كل هذا يعني ببساطة ثبات الأسئلة ووحدة الإشكالية في جميع قراءات التراث، ويعني أيضاً أن التغيير يتم فقط على مستوى جهاز القراءة، وليس ثمة تغيير يتم على مستوى الإشكالية.
إن إشكالية قراءة التراث إشكالية قائمة في جميع القراءات، منذ ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة إلى وقتنا الحالي، أو بعبارة أخرى: إن إشكالية قراءة التراث إشكالية معرفية واحدة لا تتبدل بتبدل القارئين المتزامنين والمتعاقبين، المختلفين والمتفقين، وإنها لا تزال مفتوحة أمام كل مفكر عربي، مثقل بتراثه، مهموم بحاضره، متطلع إلى مستقبله، ليعاود التفكير فيها من الحين إلى الآخر، مادام التراث جزءاً من أزمة الذات العربية.
…………………………….
(3)
ما التراث ؟ سؤال له ثقل الحضور في وعي الذات العربية القارئة، وربما أيضا في الفكر العربي المعاصر جميعه، لأن التراث يشكل إحدى القضايا الرئيسية التي تقلق الذات العربية في توجهها نحو صياغة مشروعها المستقبلي الذي تطمح إليه. ويوازي حضوره حضور ذلك الآخر / الغرب / المتقدم، الذي يفرض نموذجه الحضاري سلطة على الذات العربية في مجالات معرفية شتى. أو بعبارة أخرى: إن الذات العربية التي تقع هنا مثقلة بما هو كائن هناك، من حيث إنه تاريخ هذه الذات أو فاعليتها الحضارية في زمن تاريخي معين، ومهمومة في الوقت نفسه بذلك الآخر / الغرب الذي يخطو خطوات سريعة جداً في تقدمه الحضارى.
وبين الوعي بتاريخ الذات (التراث)، وهمها بهذا الآخر، ينشأ ما يطلق عليه جابر عصفور "التضاد العاطفي" الذي:
" يربطنا بماضينا وتراثنا، من حيث هو مصدر قوتنا، أصالتنا، هويتنا التي يعرفنا بها أصحابنا وأعداؤنا، ونعرف بها أنفسنا في الوقت نفسه، سر ضعفنا، تبعيتنا، عقالنا الذي يعرقلنا بدل أن يكون قوة دافعة لنا، وذلك تضاد عاطفي تنعكس عليه علاقتنا بالآخر بقدر ما ينعكس هو عليها. وفي الوقت نفسه، ينعكس كلاهما على علاقتنا بالواقع، الحاضر الذي نعيشه، والذي ينسرب فيه الوجود المتصارع للأنا والآخر، والذي يدفعنا إلى الوعي المتوتر بهما وبه في آن.. " .
هذا التضاد العاطفي الذي تمارسه الذات العربية مع تراثها، يجعل من كل قراءة للتراث تعبيراً عن أزمة تشعر بها الذات، وتلتمس كل قراءة أيضا من التراث أن يقدم لها حلاً لهذه الأزمة، رغبة منها في أن تحقق ما لم تحققه بعد أو ما تطمح إلى أن تحققه. صحيح أن كل قراءة منقوعة في الرغبة كما يدعى رولان بارت، ولكن ثمة فرقاً كبيراً بين اللذة التي تحدث في عملية القراءة بوصفها لذة الاكتشاف، وبين التعبير عن أزمة، وصياغة حل لها، نتيجة لخلل في العلاقة بين الذات المدركة وموضوعها المدرك. ولقد ألح كثير من قراء التراث على هذا المعنى، ف أدونيس في كتابه "الثابت والمتحول" (1973) يرى ما يلى:
" أخذ كل جيل عربي أو كل مفكر يخيط موروثه رداء مطابقا لاتجاهه الأيديولوجي: فهو تارة واحة العقل الحر، وتارة السجن والمعتقل، وهو طوراً مهد الديموقراطية وطوراً آخر مهد العبودية. وهو حيناً، يتضمن كل شيء، وحيناً فقير يحتاج إلى كل شيء".
ولا يختلف ما يطرحه أدونيس عما يطرحه طيب تيزيني في كتابه "من التراث إلى الثورة (1976):
"قضية التراث العربي في أوجهه المتعددة، قد عوملت من كثير من المفكرين والمؤرخين والمثقفين العرب عموماً، وطوال فترات تاريخية مديدة تنتهي بالمرحلة الراهنة… بكثير من العسف والرغبة في إخضاعه، سلباً وإيجاباً، وعلى نحو مبتذل، لمصالح وحاجات سياسية وعملية، أو أيديولوجية نظرية، أو غير ذلك من هذا القبيل".
أما الجابري فإنه يلح على هذا المعنى أيضا في كتابه "نحن والتراث" (1980) :
"القارئ العربي… مثقل بحاضره، يطلب السند في تراثه ويقرأ فيه آماله ورغباته، إنه يريد أن يجد فيه "العلم" و"العقلانية" و"التقدم" و… و… أي كل ما يفتقده في حاضره، سواء على صعيد الحلم أو صعيد الواقع، ولذلك تجده عند القراءة، يسابق الكلمات بحثاً عن المعنى الذي يستجيب لحاجته، يقرأ شيئاً ويهمل أشياء، فيمزق وحدة النص ويحرف دلالته، ويخرج به عن مجاله المعرفي التاريخي. القارئ العربي يعيش تحت ضغط الحاجة إلى مواكبة العصر، والعصر يهرب منه، إلى مزيد من تأكيد الذات، إلى حلول سحرية لمشاكله العديدة المتكاثرة، ولذلك تجده على الرغم من أن التراث يحتويه، يحاول أن يكيف احتواء التراث له، بالشكل الذي يجعله يقرأ فيه ما لم يستطع بعد إنجازه، إنه يقرأ كل مشاغله في النصوص قبل أن يقرأ النصوص".
تلح النصوص السابقة من حيث ملازمتها لدلالة أو دلالات مشتركة على تأكيد العلاقة المتوترة بين الذات العربية وتراثها، علاقة تعبر عن أزمة تشعر بها الذات، ولذلك فإن هذه الذات عندما تقرأ تراثها ترغب في أن يقدم لها هذا التراث الحل لأزمتها الراهنة، وأن يقدم لها البديل الذي تستطيع من خلاله أن تهرب من تبعيتها للآخر ومواجهته في آن لكي تؤكد وجودها الفاعل.
هذه العلاقة المتوترة بين الذات العربية وتراثها تنعكس بدورها على تحديد معنى التراث أو الإجابة عن سؤال: ما التراث؟ في جميع القراءات. فلقد اصطلح عليه كثيرون أنه الموروث الثقافي والفكري، والديني، والأدبي، والفني للذات العربية، وهناك من يجعله ثقافة الماضي بتمامها وكليتها، ف الجابري على سبيل المثال يرى أن هذه الثقافة:
"ليست بقايا ثقافة الماضي، بل هى (تمام) هذه الثقافة وكليتها: إنها العقيدة والشريعة واللغة والأدب والعقل والذهن والحنين والتطلعات، وبعبارة أخرى إنها في آن واحد: المعرفي والأيديولوجي وأساسهما العقلي وبطانتهما الوجدانية".
إن هذا المعنى يضع التراث في تضاد ضمني مع المنتج المعرفي الحديث والمعاصر، بالتأكيد على أنه ثقافة الماضي بتمامها وكليتها، وهذا يعني أنه حدث تاريخي انقضى وكف عن الوجود الفعلي. إننا لا ننكر أن التراث منتج معرفي ينتمي إلى سياق تاريخي معين وإلى زمن تاريخى معين أيضا، ولكن لا يمكن أن نعده بأى حال من الأحوال قائم الحضور هناك وكفى، لأن له قسطاً من الحضور هنا على مستوى التفكير والوعي به.
كما يفترض التعريف السابق قدراً من القداسة للتراث، وقد عزز هذه الصفة أو هذا الوهم إن صح لي أن أستخدم ذلك وجهة النظر التي ترى العقيدة الدينية والتشريع السماوي تراثاً، مثلما قرأنا في تعريف الجابري السابق ذكره أعلاه "العقيدة والشريعة". ويبدو أن هناك خلطاً وتداخلاً عجيباً بين مستويات ينبغي الفصل بينها، فالعقيدة ليست هي علوم العقيدة، والقرآن ليس هو علوم القرآن، وعلم أصول الدين أو الفقه أو أصول الفقه ليست هي الدين نفسه، "فهذه العلوم جميعاً لا استثناء لواحد منها هي كلام تاريخي على الدين، وعلى الوحي، وهي بهذا الاعتبار تاريخية إنسانية. أما الوحي فهو نفسه الإلهي وهو المجاوز للتاريخ، تلك العلوم تراث أما الوحي فليس بتراث".
إن الفرق كبير جداً بين نص مقدس مثل القرآن، والخطابات التأويلية المختلفة لذلك النص، فهذه الخطابات لا تكتسب شرعية التقديس حينما تتأول المقدس، إنها بالأحرى خطاب الإنسان الفاعل المنتج حول الخطاب الإلهى الموجه إليه والذي يقع خارج دائرة الزمن، فالقرآن كما وصفه الشيخ أمين الخولي ليس تراثاً وإنما هو:
"كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبي الأعظم، فهو الكتاب الذي أخلد العربية، وحمى كيانها وخلد معها… فالقرآن هو كتاب الفن العربي الأقدس".
وهناك تعريفات أخرى تجعل من التراث جزءاً من الواقع الذي تعيشه الذات العربية، ويشكل مخزوناً نفسياً لهذه الذات يتحكم بأفكاره ومثله في توجيه سلوكها، كما يرى حسن حنفي.
وهذا التعريف يقلص معنى التراث ويحيله إلى جملة من العادات والطقوس وفنون الكلام وأصناف المشارب والمآكل والملابس. ويتعمد هذا التعريف تدميراً لتاريخية النص / التراث، ويفقده زمنه الخاص بعملية إنتاجه، بل يقطعه قطعاً منه "ليسكن حاضر القارئ ويصبح بعض أقنعته وأرديته". فليس ثمة فرق يذكر بين ما يدعيه حسن حنفي (1980) بأن التراث:
"هو مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته الخاصة… ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة، والحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموع هذه النظريات في ظرف معين، وفي موقف تاريخي محدد، وعند جماعة تضع رؤيتها، وتكون تصوراتها عن العالم".
وبين ما يدعيه نورى حمودي القيسي (1985) بأن التراث:
"ليس وليد فترة زمنية محددة أو جهدا فرديا، وإنما حصيلة تجارب حية، وتفاعلات واعية، واجتهادات علمية، وما أثير من مواقف وطرح من آراء وعرض من اخفاقات واستجد من أحداث وتحديات، وبرز من قدرات، وأتيح من فرض وتساؤلات".
أو بين ما يؤكده محمود أمين العالم (1986) بأن التراث:
"لايوجد في ذاته! فالتراث هو قراءتنا له، هو موقفنا منه، هو توظيفنا له. قد أتجاهل التراث أو أكرره حرفيا، أو أفسره أو أستلهمه أو أهول من شأنه أو أهون منه. وقد أراه على هذا النحو أو ذاك. وفي أى موقف من هذه المواقف يفقد التراث ماضيه حتى ولو كررته حرفيا أي يفقد حقيقته الذاتية المرتبطة بغير شك بسياقه الزمني التاريخي الاجتماعي الخاص، ويصبح جزءا من زمني، من سياق حاضري الخاص".
واذا توقفنا عند نص العالِم الذي ينطق بطريقة واضحة بتدمير تاريخية التراث وسحبه من سياقه الزمني التاريخي، أو على حد تعبيره "يفقد ماضيه"، ليصبح جزءاً من سياق قارئه الزمني وحاضره وبعض مشاكله، فإن "التراث / النص" يبدو لا شيء، وإنما هو سلاح أيديولوجي لما يتبناه قارئه ويدافع عنه.
والعالم يبرر ذلك بمنطق يرى فيه أن:
"الموقف من التراث، ليس موقفا من الماضي، وانما هو موقف من الحاضر، فبحسب موقفي من الحاضر يكون موقفي من الماضي، وليس العكس كما يقال أو كما يظن".
هكذا يهدم العالم الحقيقة الموضوعية للتراث، بالإشارة إلى أن الموقف من التراث ليس موقفاً من الماضي وإنما هو موقف من الحاضر، ولكن الموقف من التراث يختلف اختلافاً جذرياً عن كون التراث حقيقة تاريخية موجودة بالفعل والقوة معاً، وحتى الموقف من التراث أو قراءتنا له يسهم فيها النص / التراث بسياقه المعرفي وشرطه التاريخي، إذ أن التعرف على سياق النص/ التراث التاريخي والمعرفي هو أولى الخطوات التي يتخذها القارئ من أجل تأويله أو إعادة تأويله، وهي تسهم من غير شك في اتخاذ موقف منه، سواء كان هذا الموقف موقفا سلبيا أونقديا أو نقضيا.
والعالم في سياق آخر يرى أنه لم يقصد نفي الحقيقة الموضوعية للتراث، شارحا ما قصده في السياق الأول ويتم ذلك من خلال خطاب مراوغ تبدو فيه الحيلة لممارسة سلطة إقناعية على قارئه، فيقول:
ليس في هذا الكلام في تقديري أية شبهة لنفي الحقيقة الموضوعية للتراث، أو رؤيته على نحو ضبابي لا كيان له. وإنما هو تأكيد لتعدد قراءة التراث وتفهمه بحسب موقف القارئ أو الدارس فكريا وعلميا واجتماعيا وأيديولوجيا، إنها زوايا مختلفة لقراءة التراث".
إن العالم فيما أتصور لم يقدم دليلاً على نفي شبهة التدمير التاريخي للنص / التراث سوى ما يطرحه عن تعدد القراءة بتعدد قارئيها، ولكن هذا في حد ذاته لا يعني أن يسحب التراث من زمنه الذي أنتجه ليسكن زمن القارىء الذي يعيد إنتاجه، فهذا شيء وذلك شيء آخر.
إن التراث أنتج في فترة زمنية معينة، وبشر بأعينهم يعزى إليهم صنعه وإنتاجه، أو بعبارة أكثر تحديداً: إن الثرات فيما أظن خطاب الإنسان العربي في فترة زمنية معينة، وقد نقل إلينا عن طريق الكتابة أو بالأحرى إن الكتابة أثبتت هذا الخطاب فجعلته نصاً إن ذلك يعني باختصار شديد أن التراث هو مجموع النصوص التي أنتجت في فترة تاريخية محددة، ومارست هذه النصوص سلطة معرفية على عقل وارثها، فأصبحت جزءاً من وعيه وبنية تفكيره.
…………………….
(4)
…………………..
أستاذ النقد الأدبي المشارك كلية دار العلوم – جامعة المنيا.
(منقول).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.