لا شك ان بوتين يعرف سوريا وكل المنطقة التي اقحم فيها بلاده، ففيها صراع طائفي سني_شيعي_علوي، تواجه فيه إيران فضاءً عربيا متداخلا. ونفهم ان لروسيا مصالح استراتيجية في سوريا لن تفرط فيها، برغم ان مفاتيح الحفاظ عليها كانت، ولا زالت متوفرة بمباشرة اتفاق مع المعارضة السورية العريضة. والتخويف بان "داعش" او غيرها من منظمات متطرفة ستستولى على الحكم في سوريا حديث استعمله بشار الاسد وعمل على تأجيجه لجر روسياوإيران للدفاع عنه وعن نظامه، ولا يعني تواصل ترديده إلا تحقيق اهدافه الحقيقية، أي استمرار وتقوية سيطرة الاسد على حكم سوريا بعد أن تخلخلت، وليس من بين تلك الاهداف ما يكثر ترديده، أي القضاء على ارهاب داعش. ان تركيا جزء من الحل في سوريا ولا يمكن ان تكون إلا كذلك لأكثر من عامل. فمن ناحية علينا ان نسجل ما اثارته الازمة من صدام مذهبي، ومن أخرى نستصحب ضرورة اهتمامها بوضع الاقلية الكردية والتركمانية ايضا، اضافة للتداخل الجغرافي بالجيرة ذات الحدود البرية الطويلة مع سوريا وكذلك التقاطع التاريخي المعروف معها. ومع كل ذلك، فان تحرش روسيا بها واستفزازها لابد ان ينقل الزكام للناتو ان عطست تركيا. ولأن الحديث يَمِسُ الناتو، لنتذكر انه استمر باقيا بعد انتهاء عصر الحرب الباردة وتبدد شمل نديده حلف وارسو، وتوسع الحلف الاطلسي على حساب النفوذ الروسي، وكان قد تأسس لمقابلة ذلك النفوذ الذي كان يجد مكانا له حيثما وقع ظل الاجنحة التي حلق بها الاتحاد السوفيتي السابق في الفضاءات المجاورة له خلال الحرب العالمية الثانية وصولا الى برلين فقسمها قسمين، وحاولت موسكو ان توسع الظل الى فضاءات المياه الدافئة نتيجة لنزاعات محلية وإقليمية استغلتها خلال فترة الحرب الباردة. اذن الناتو باق، بل اقترب من الحدود الروسية، وبالأمس وجه الدعوة رسميا الى جمهورية الجبل الاسود لتصبح الدولة التاسعة والعشرين في عضويته ومشروع توسعه مستمرا بعد ان أكدت قمته السابقة في ويلز عام 2014 على سياسة الابواب المفتوحة وتعمل قمة الحلف القادمة في 2016 ببولندا على تعضيد ذلك التأكيد، وهنالك ثلاث دول في حالة انتظار وما بدلوا تبديلا، جورجيا والبوسنة ومقدونيا وقد يصبح بذلك اغلب البلقان تحت مظلة اطلسية. ان محاولة اختبار قدرة الناتو على الرد السريع بصدام خفيف مع تركيا، يجب ان تحسب جيدا، فلن تكون نزهة يعود منها الدب الروسي كما ذهب. وقد فقدت روسيا طائرة سوخوي وأحد طيارييها في لحظة استفزازية استغرقت 17 ثانية داخل الحدود التركية فيما يشبه صفعة على الخد. ان تركيا قوية بالناتو الذي لن يقبل استفزازها حاليا، برغم تعنيفها بلطف في الاجتماع العاجل الذي عقده سفراء دوله مساء نفس يوم اسقاط المقاتلة الروسية بعد أن اضاءت العلامات الحمراء في غرفة القيادة بمقر الحلف ببروكسل. فهل تريد موسكو اختبار ما يشاع عن شكوك تحوم حول قدرة الناتو على الرد السريع؟ لقد حَوَّلَت روسيا تعاطيها مع الازمة في سوريا من مواقف لصالح دمشق الاسد في المحافل الدولية، الى اقتحامها عسكريا والمساهمة المباشرة في العمليات الحربية. وبعد عملية داعش الارهابية الاخيرة في فرنسا، لم تنس روسيا ان توجه الدعوة للغرب للعمل معها لمكافحة الإرهاب بالتحالف مع الأسد، وهو أمر في سبيله للتحقق بعد تصريح اخير قال فيه وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، ان بلاده غير متمسكة برحيل الاسد قبل المرحلة الانتقالية، الامر الذي يكشف مسارا جديدا لتعاطي باريس مع النزاع في سوريا، علما بان تصريحات مماثلة صدرت في نفس الوقت وفي ذات الاتجاه تقريبا من واشنطن حيث أكد وزير الخارجية جون كيري ان محاربة المعارضة السورية لداعش تتطلب تعاونا مع النظام ميدانيا ضمن تسوية وحل تلوح معالمه في الافق، خاصة وان ادارة اوباما غير متحمسة للمشاركة في تدخل دولي بري وفي نفس الوقت لن ترفضه. لا ريب أن وعودا روسية لعبت دورا في ذلك وقد التقى الرئيس بوتين في الأيام السابقة نظيريه الفرنسي والأمريكي، فما هي تلك الوعود؟ وفي اي الاتجاهات تصب؟ قطعا لن يكون ضربا من الخيال التنبؤ بان الاسد بشار ذاهب بالاتفاق مع موسكو ولكن ليس الان، فالحرب ضد داعش تتطلب وجوده على المدى المتوسط، وقد أشرنا لذلك في الحلقة الماضية. الشاهد ان الازمة في سوريا فتحت لأول مرة مسارات لتوتر غير محسوب المخاطر، فلا شك ان اسقاط المقاتلة الروسية يعَقِد تعاونها مع دول الغرب وقوته العسكرية الضاربة الناتو، فما جرى لن يعتبر اشتباكا تركياًروسياً، وان بقي لوقت ما في تلك الحدود، ولكنه يُقْرَأ وسيتم التعامل معه في كل عواصم الناتو باعتباره اشتباكاً مع حلف شمال الاطلسي. ألا يبدو ان موسكو استعجلت بتكرار استفزازها لانقرا موقفاً مايعاً من الناتو مراهنة على ان تركيا تسبب صداعاً حاداً لأوربا وأخر شبه نصفي لأمريكا لوجود اسرائيل على الخط يتجه بان يصبح مزمناً بعد ان امسك "فيروس اردوغان" بأغلبية تركيا بذات أدوات القيم التي تنادي بها الدول الغربية؟ أليس مبكرا ان يفكر الكرملين في ذلك قبل ان تتغير معادلات تركيا اليورواطلسية او تتضح ملامح مشروع المقايضة الذي يجري رسمه؟ فهل تتراجع روسيا ويصبح الناتو قادرا على مسكها خلال صراعمها من مكان تصرخ فيه بشدة، أم تمضي روسيا في لعبة شد الحبل وتمسك الناتو من جناحه الجنوبي الذي يوجعه؟ وعليه حتى لا يصرخ أي منهما اولا، سنتابع بوتين واردوغان يتناطحان بالتصريحات فقط حاليا. وعوداً إلى ما بدأنا به الحلقة السابقة، وإلى حين ظهور إشارات لجم التوتر التي قد تتأخر، وإن تأخرت كثيرا قد لا تأتي، فإن روسياوتركيا في اسوأ الفروض إلى مواجهة إقليمية على الأقل، وسابق لأوانه كثيرا ان لا نتحدث عن حرب كونية ثالثة يقول عنها كثير من المحللين أنها استراتيجيا قد بدأت قبل مدة ولم يتبق إلا انطلاق معاركها التكتيكية التي عادة تندلع بمناوشات ثنائية وسريعا تتحول لإقليمية. وإقليميا يجب عدم التوقف فقط عند مصالح روسيا الاستراتيجية في القاعدة العسكرية بالبحر الأبيض المتوسط بسوريا علما بأنها كشفت في اليومين السابقين عزمها إقامة قاعدة جوية ثانية في سوريا التي وافقت عليها سريعا. ولا بد من الأخذ في الاعتبار ملف الطاقة وبالأخص ممرات الغاز الطبيعي وهي ورقة موسكو القوية التي تلعب بها في كل الساحات المجاورة لها والأوربية، وتحقق بها وزنها ونفوذها حيث أن الطاقة التقليدية لا زالت عصب الحياة ومحركة النزاعات والحروب. ومنذ أن انطلقت روسيا لاستعادة نفوذها بالكامل في أوكرانيا وأخذت شبه جزيرة القرم وأججت التمرد في شرق أوكرانيا، ومع بدء واستمرار تراجع سعر النفط بأسباب معروفة لا يخلو ان يكون من ضمنها معاقبة روسيا على بعض مواقفها، ومع تصاعد العقوبات الاقتصادية عليها، تواجه روسيا وضعا صعبا في علاقاتها على المستويات الثلاثة، الإقليمية والاوربية والدولية، ووضعا اقتصاديا صعبا حيث تنتظر تسجيل تراجعا اقتصاديا بمعدل 4% للعام الجاري يضاف إلى معدل مماثل من اجمالي الناتج المحلي فقدته في العام الماضي. فهل تستطيع ان تستحمل كل ذلك وما قد يفرزه من احتجاجات في الداخل الروسي الذي لا زال تحت سيطرة فلاديمير بوتين؟ طلبنا في بداية التحليل التعامل باهتمام مع قول الرئيس بوتين وحادث اسقاط المقاتلة الروسية ساخنا بل يغلي، "ما حدث طعنة في الظهر"، وقد يُقْرَأ ذلك أن بوتين يوجه رسالة يلتقطها فورا من يرتجف سريعا فيسدد له فاتورتها تحسبا لتهور ليس مستبعداً ان يعتريه، ويتجاهلها عمداً اصحاب "النفس الطويل" استناداً على إرث سياسة حافة الهاوية، ويؤجل التعامل معها او يهمل تلقيها من لا زال يغمره احساساً بالتفوق وقد يجيء يوم يتجرع فيه البعض مرارة الذكرى، كل من ناحية فشله في التعامل معها وتسكينها في الخانة الصحيحة او تلك التي تستحقها فعلا. ويجدر الأخذ في الاعتبار إن اخر التطورات التي تقرأ من التصريحات، تفيد بان موسكو تتحدث عن ضرورة معاقبة تركيا التي برغم مقابلتها التصعيد بالتصعيد فإنها تميل في بعض التصريحات إلى الليونة وتدعو لحديث وجها لوجه مع روسيا على مستويات مختلفة. فهل تؤدي سياسة رفع العصا التي تنتهجها موسكو إلى مواجهة، أم تنجح سياسة شعرة معاوية التي تتبعها انقرا، ترخي تارة وتشد تارة اخرى، الى لجم التوتر فيتنفس المجتمع الدولي الصعداء؟ دعونا نختم بنظرة سريعة للتاريخ ففيه ما يغري للمقارنة، ففي يوليو 1853 اندلعت حرب القرم الشهيرة بين تركيا العثمانية وروسيا القيصرية. استمرت الحرب ثلاث سنوات تقريبا، اشتركت فيها بجانب العثمانيين وضد الروس قوى توصف اليوم بالغربية، بريطانيا العظمى وإيطاليا _مملكة سردينيا حينها_ وقوى متحالفة كانت تركز على ان لا تصل روسيا القيصرية للشرق الأوسط، وقد تَحَرَّك القيصر حينها بنوازع مسيحية تبحث عن الامتيازات الدينية في القدس والأراضي المقدسة. فبدأت حرب القرم بالقيصر نيقولا الاول وانتهت في عهد الاكسندر الثاني. المختصر المفيد ان تلك الحرب الضروس انتهت بمعاهدة باريس، التي فتحت لتغيرات سياسية كبيرة في كل الدول التي شاركت في الحرب، ولكن قبل ان تضع اوزارها، وبعد احدى المعارك الكبرى التي انتصر فيها الجنرال التركي عمر باشا على القوات القيصرية الروسية، تدخل الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث متوسطا لوضع حد للحرب التي طالت بين العثمانيين وروسيا، فأطلق القيصر الروسي نيقولا الأول مقولة سجلها له التاريخ، رافضا الوساطة، وقال "أشعر أن يد السلطان على خدي". فهل من مقارنة وإسقاط "الفانتوم 16" المقاتلة الروسية "سو 24" يوصف بالصفعة التركية؟ اذن، ان استجبنا لملامح المقارنة بقول بوتين "أن روسيا تعرضت لطعنة في الظهر"، علينا ان نسأل: هل المنطقة موعودة للاتجاه نحو حافة الهاوية فتتعلق تداعيات النزاع على شعرة رهيفة لا تستطيع ان تجرها لتبعدها عن الهاوية ويراد لها ان تمسك بها من السقوط فيها؟ التاريخ حتما لا يعيد نفسه ولكن الاخطاء ذاتها قد تتكرر وهي عناصر متحركة مقابل ثوابت النزاعات والأزمات التي محدداتها جغرافية. اثنية. دينية. سكانية. سياسية، وليس اخيرا مصالح اقتصادية. [email protected]