هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تناقضات الصراع والتحول فى العالم العربى إطار نظرى
نشر في حريات يوم 16 - 10 - 2016


بول سالم
بعد التفاؤل الذى هلَّ به عام 2011،وحينما كان يملأ العديد من النشطاء والمراقبين (وأنا منهم!) الأمل فى أن العالم العربى بدأ يلحق أخيرا بمناطق أخرى من العالم، من حيث الانتقال نحو الديمقراطية، تأتى رياح التغيير بما لا تشتهيه الشعوب. فانحرف اتجاه الأحداث فى المنطقة إلى الاتجاه المعاكس، حيث تفاقمت الصراعات وانهارت دول وتجددت النظم السلطوية فى دول أخرى. ولعل تونس هى الاستثناء الوحيد، حيث شهدت التحول الديموقراطى ولو حذر.
هل هناك ترابط بين ديناميات التحول والصراع والقمع؟ هل هناك طرق لفهم الديناميات التى تبدو متناقضة للتطورات العربية الراهنة؟ وما هو المسار التاريخى الطويل المدى الذى نسير عليه؟.
التحول فى موازين القوى :
أولا: هل نمر حقيقةً بمرحلة انتقالية ؟ وما هى الدلائل على ذلك إن كان هذا القدر من الصراع،والانهيار، والتغيير، والاضطراب الذى نراه اليوم– بعد عقود من الركود النسبى فى المجتمعات والأنظمة – هو الدلالة الرئيسية على أن تحولات عميقة تفتك بأركان وبنى المجتمعات والدول العربية. إنه دليل على أن البنى القديمة تتزعزع أمام عمق التحولات وأننا شرعنا فى مسار جديد، لا يزال مجهول النتيجة.
ثانيا: هل فقدنا ادراكنا ووجهة سيرنا بما يدور حولنا؟ أقول نعم و لا. أقول نعم أولاً لأننا فقدنا الطريق لعدم وجود رؤية شاملة أو حركة ثقافية أو قيادة بارزة ونافذة لديها فهم واضح المعالم للأزمة، وخريطة طريق للسير إلى الأمام, فيبدو أننا نتخبط جيئة وذهابا فى اتجاهات مختلفة. ولكنى أقول أن التحولات التى تطرأ على مجتمعاتنا وأنظمتنا ليست تحولات عشوائية، بل تطورات تضعنا على مسار تاريخى معين، بغض النظر عن مدى إدراكنا لها.
ثالثا: ما هى هذه التحولات العميقة التى تفتك باستقرار مجتمعاتنا ودولنا ،وملامح إعادة توزيع وموازين القوة فيها . إن عملة السياسة هى القوة؛ وكل نظام اجتماعى أو سياسى أو اقليمي/دولى يعكس توزيع ما للقوة. فعندما تتحرك موازين القوى (powershift) تتفكك معها تباعا الأنظمة السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية السائدة.
فنرى مثلا تراجع احتكار الدولة للقوة و تمكين المجتمعات والشعوب.فقد كانت الدول قادرة على التحكم بوسائل الإعلام بالوعى العام والتحكم بحراك الشباب والمجتمع المدنى الخ، ولكن من خلال التطور التكنولوجى وانتشار التواصل والوعى، نرى تراجعا سريعا لهذه الإمكانية لدى الدولة، وبالمقابل تمكينا للفرد والجماعة فى المجتمع.
كما أن هناك تحول فى ميزان القوى بين الجماعات والفرد. فقد تمكن الفرد، وذلك أيضا بفضل التكنولوجيا، والتعليم، وسهولة التنقل، من تنازع السلطة مع أنظمة اجتماعية قديمة كانت ذات سلطة قوية على الفرد.
هناك تحول مستمر أيضا فى موازين القوى بين الجنسين، حيث تتراجع سلطة الرجل على المرأة. فانتشار القوة فى المجتمع الذى كان يسيطر عليه الرجل فى جميع المجالات على مدى امتداد التاريخ يؤدى فى المرحلة الأخيرة إلى تمكين المرأة كفرد فى تحول يهز معظم أنواع النظم الاجتماعية والثقافية السائدة.
كما أن هناك انتقالاً للقوة من جيل الكبار إلى جيل الشباب، ونرى الآن تصاعدا كبيرا فى قدرة الشباب على تحديه نظم جيل آبائهم. ظهر ذلك جليا فى ثورة شباب الربيع العربى أو حتى فى انخراطهم فى تيارات متنوعة من داعش الى الحراك المدنى العام.
كما نرى أيضا على المستوى الدولى تحولات فى موازين القوى، من القوى العالمية، إلى القوى الإقليمية. فقد كانت منطقة الشرق الأوسط ولردح من الزمن خلال القرن العشرين واقعة تحت سيطرة ونفوذ القوى الاستعمارية، أو القوى العظمى، بينما نشهد الآن تراجعا فى سيطرة القوى العالمية ونرى صعودا للقوى الاقليمية .
مراحل الانهيار والصراع:
إذن ثمة تغيرات كبيرة تحدث فى موازين القوى التحتية المحركة. ولعل أول نتيجة للتغيير غالبا ما تكون الصراع، وانهيار النظم، وانتشار الفوضى. هذا أمر متوقع لأن النظام القديم الذى كان سائدا خلال التوزيع القديم للقوى، عندما يبدأ فى الانهيار، لن يتم استبداله فورا بنظام جديد، كما أنه لا يمكن إصلاحه بسهولة. فإنه سوف يصارع من أجل البقاء فى بعض الأماكن، أو ينهار فى مكان آخر، وسنرى الصراع والانهيار أولا، قبل أى شىء آخر. ونحن نرى الأنظمة السلطوية، فى جميع أنحاء المنطقة، تواجه التغيير فى محاولة لإبقاء الأمور على ما كانت عليه، أو نرى قوى سلطوية جديدة تحاول بناء دول جديدة. ونرى ردة فعل شرسة للسلطة الأبوية، فى محاولة للحفاظ على السيطرة الأبوية الذكورية على المرأة، ونرى حالة متطرفة فى داعش، ونرى أمثلة أخرى فى أماكن أخرى.
دورات زمنية للانتقال:
وهناك عامل يزيد الأمر تعقيدا، وهو أن العالم العربى يمر بعدة تحولات فى آن واحد. وهذه التحولات هى على أعماق مختلفة، وعلى مدى دورات زمنية مختلفة. هناك تحولات تحتاج إلى قرون من الزمان. وهى تحولات من النظم والهياكل الثقافية والاجتماعية التى كانت سائدة فى ما قبل العصر الحديث فى القرنين السابع عشر والثامن عشر مثلا، إلى ما نحن فيه اليوم من المجتمع العربى فى القرن الحادى والعشرين الذى لا يزال غير واضح المعالم. إنه تغيير حضارى كبير جدا من مجتمع دينى، ريفيا، وأبويا، إلى شىء مختلف وجذرى. لا يزال فى طور الولادة. هذا النوع من التغيير يحتاج قرونا من الزمان.
فهذا التحول استغرق قرونا فى الغرب، وقد قطعنا منه قرنا ونصف القرن فقط فى العالم العربى.
هناك مستوى آخر من التحول يحدثه لمنظومة الحكم – أى الدولة. فقد شهدنا انهيار الدولة/السلطنة العثمانية، وعقد اتفاقية سايكس بيكو وتوابعها، ونمو الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، إلى انهيار الدولة الأخير فى سوريا، واليمن، وليبيا والعراق- هذا النوع من التحول يمكننا أن نراه فى قرن واحد. وهذا هو حقا الانتقال من النظام الإمبراطورى إلى الدولة القومية أو القُطرية التى لايزال بعضها على قيد الحياة، وبعضها تعرض للانهيار. كما نرى أن بعض الجماعات تسعى لبناء دول جديدة (داعش)، وهذه دورة عادة ما تكون متوسطة الطول.
هناك مستوى ثالث للتغيير، وهو التغيير فى المجموعة الحاكمة. وهنا وتيرة التغيير هى أسرع مما توقعه ابن خلدون. فقد استمر نظام القذافى لعقود قبل أن ينهار. وقد واجهت أنظمة بن على، ومبارك، وعلى عبد الله صالح نفس المصير، والآن يصارع نظام الأسد من أجل البقاء على قيد الحياة بعد استمراره لأربعة عقود، علماً أن العائلات الحاكمة فى الأنظمة الملكية صمدت فى وجه الخضات الأخيرة وقد تتخطى – معظمها على الأقل – توقعات ابن خلدون.
إن المستوى الرابع من الانتقال يعمل بالتوازى مع الثالث، وقد انطلق بفعل انتفاضات عام 2011، بالسعى إلى الانتقال من نظم مستبدة أو سلطوية إلى نظم أكثر استجابة لإرادة الشعوب وإشراكا لها. ولعل تونس هى الحالة الوحيدة التى شهدت هذا التحول حتى الآن. بينما أدى فى بلدان أخرى إلى انهيار الدولة والحرب الأهلية، أو أدى الى تجديد الصيغة السلطوية.
وأخيرا فإن المنطقة نفسها تتحول من منطقة استمرت تسيطر عليها الدول العظمى على طول الخط حتى الثمانينيات والتسعينيات إلى منطقة تظهر فيها كل من إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا كلاعبين أساسيين، فلدينا هنا نظام إقليمى فى إطار التشكل. وهذا تحول يحصل فى وتيرة سريعة جدا.
تساؤلات جوهرية:
كل ما تقدم يشير إلى أننا نعيش عاصفة من التحول والتغيير هبت على منطقتنا، حيث أصبح كل شئ محل تساؤل. ومن القضايا الجوهرية التى يتم التساؤل بشأنها منها ما هو على المستوى السياسى، مثل السؤال حول ماهية الوطن أو المجتمع السياسى (nation)، وما يشكله؟ أين نرسم الحدود؟ هل ترسم الحدود على أسس عرقية؟أم هى ما رسمته حدود سايكس بيكو، أم ترسم على أسس طائفية أو دينية؟
هناك سؤال أيضا حول طبيعة الدولة ؟ فداعش لديها تصور معين لمفهوم الدولة. ونظام الأسد لديه نهج آخر لعله يشبه نهج المفكر السياسى توماس هوبز (ThomasHobbes)الذى يرى أن الحاكم هو الذى يثبت أنه الأكثر قوة ووحشية، فالحاكم يمثل القوة المطلقة غير الملزم بأى قيود على استخدام القوة لا فى مواجهة الخصوم فى الخارج، ولا فى قمع الشعب فى الداخل. بينما اقترح أحد أجنحة الربيع العربى نظاما ديمقراطيا ليبراليا، نرى طرفا منه فى تونس اليوم. واقترح الإخوان المسلمون نظاما ديمقراطيا أيضا، ولكن تحت سقف – وضمن إطار – دينى إسلامى، وتحت نفوذ حركة الإخوان نفسها. و يبدو أن شكل الدولة الذى لا يزال الأكثر انتشارا حتى الآن هو نظام الدولة السلطوية المحافظة، إما فى شكل الأنظمة الملكى، من المغرب إلى دول مجلس التعاون الخليجى أو الأنظمة الجمهورية التى نراها فى الجزائر ومصر.
ثمة سؤال آخر جوهرى حول طبيعة المجتمع. هناك صراعات عميقة بين العلمانيين والإسلاميين فى تونس، ومصر، وسوريا. وهذه ظاهرة الى حد ما صحية بأن تنشأ المناقشات والمناظرات بين تيارات مختلفة فى مجتمع مستقر، ولكن فى حالات انهيار الدول، نرى هذه الخلافات تنحدر الى تفتيت المجتمع والمواجهات الدموية فى سوريا مثلا) أو حتى فى حالات صمود الدولة نراها تسبب توتراً واستقطاباً شديدين كما حدث إثر وصول الإسلاميين إلى مقاليد الحكم فى مصر وتونس.
وعلى الصعيد الإقليمى، هناك صراع حول تشكيل النظام الإقليمى.فلدى الحرس الثورى الإيرانى رؤية(نظام ثورى إسلامى تقوده إيران).ولدى دول مجلس التعاون الخليجية رؤية أخرى. لدى تركيا أيضا رؤية نيو-عثمانى المنطقة. ونرى هذه القوى – وغيرها – فى صراع ممتد لتحديد هوية هذه المنطقة ونظمها.
بين الشرق والغرب:
وعندما ننظر إلى عمق كل هذا التحدى والتحول والتغيير، ونمعن التفكير فيما مر به الغرب ،ونجد أن طريقه نحو التغيير كان طويلا وعنيفا، فإن لظروفنا ربما لا تبدو بهذا السوء. فقد استغرق الأمر الغرب أربعة أو خمسة قرون من المخاض لمواجهة والبت فى هذه القضايا الجوهرية. وقبل سبعين أو ثمانين عاماً، كانت حالة أوروبا أسوأ بكثير من حالة الشرق الأوسط اليوم: الحروب التى قتل فيها أكثر من ثمانين مليون نسم، والإبادة الجماعية، والجماعات المتطرفة، والحركة النازية التى هددت بزوال الحضارة الغربية برمتها. إلا أن أوروبا تمكنت من التغلب على تلك الصعاب، وفيما بعد عام 1945، واصلت العمل من أجل حل الكثير من هذه القضايا والتوصل إلى وضع أكثر استقرارا وأمانا. وهذا ما قد يعطى الأمل فى أن الصراعات والفوضى التى نراها اليوم هى عرض من أعراض التغيير، وأننا سنصل، بعد نفق مظلم وطويل، الى مستقبل أفضل.
إلى أين نتجه؟
إلى أين نحن ذاهبون إذن فى هذه العاصفة من التحول؟ فى المدى القريب- والذى قد يستمر لسنوات عديدة أوعدة عقود- قد تكون الفوضى والصراع أو الارتدادات الرجعى العنيفة هى العنوان السائد فيما سيجرى فى المرحلة القادمة. ولكن على المدى البعيد،أن ديناميات التغيير وعوامل التحول فيه موازين القوى التى أشرت إليها أعلى من شأنها أن تدفع باتجاه شكلا معيناً من النظم التى تعكس موازين القوى الجديدة وتستطيع أن تديرها وتشرف عليها بشكل مستقر ومستدام.
وتحضرنى هنا الجملة الشهيرة التى يفتتح بها الروائى والمفكر الروسى، ليو تولستوى، رواية أنّا كارينينا : "كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن كل عائلة تعيسة لها طريقتها الخاصة فى التعاسة".ما أعنيه بذلك، هو أن مجتمعاتنا ودولنا العربية ستستمر بالتخبط فى أشكال مختلفة من التعاسة السياسية، ولكن فى نهاية المطاف لن تستقر دولة قبل التطور باتجاه السلطة أكثر شمولا(inclusive) لأطياف المجتمع المختلفة وشرائحه، وأجياله وأجناسه، وأكثر إشراكا لصوت المواطنين والناخبين، وأكثر خضوعا للمساءلة (accountable) .
ويمكن لهذه الأنواع من الأنظمة أن يكون لها وجه ملكى، بمعنى أن الأنظمة الملكية القائمة يمكن أن تتطور إلى نوع من الملكية الدستورية ويمكن أن يكون لها وجه إسلامى كالذى رأيناه قبل عقد من الزمن فى تركيا، والتى بدت وكأنها تتحرك فى هذا الاتجاه، ولكنها ابتعدت مؤخرا عن هذا المسار.ويمكن أن يكون لها وجه جمهورى ليبرالى. أما المقاربات الأخرى من أنواع الأنظمة السلطوية أو الاستبدادية – سواء كانت تحت عنوان دينى أو ملكى أولا، «وطن لن تستطيع البقاء على المدى البعيد.
لماذا لا نتقدم؟
إذا اعتبرنا أن هذا سيكون المسار على المدى الطويل، فلماذا نحن لسنا ماضين فى هذا الاتجاه الآن؟ أولا، أحد أسباب ذلك هو وجود دول وأنظمة سلطوية مترسخة تقاوم هذا التغيير. وثانيا، لدينا نظم اجتماعية وثقافية سلطوية وأبوية تقاوم التغيير أيضا. وثالثا، وجود وضع إقليمى غير مشجع ؛ فعندما تخلصت أوروبا الوسطى والشرقية من ربقة الاستبداد السوفيتى كان لديها الاتحاد الأوروبى لإرشادها وتوجيهها خلال عملية التحول الديمقراطى والتغيير الاقتصادى . ونحن ليس لدينا ذلك؛ بل لدينا دول تدفع فى الاتجاه الآخر.
نعانى أيضا من فضاء سياسى مجوّف،وثورات بدون أحزاب قادرة، وبدون قيادة ذات فعالية ورؤية ثاقبة، وبدون مجموعة مثقفين رائدة يمكنها أن تستشرف للأمور رؤية طلائعية من أجل السير الى الأمام (بدلا من الوراء!) ,وهذا يرجع إلى حد كبير إلى أن هذه الأنظمة الاستبدادية قامت بتفريغ الفضاء السياسى. ولكن هناك مسئولية ولائمة أيضا على شريحة المثقفين. إننا نمر بلحظة من التاريخ العربى الحديث، حيث يوجد القليل من الرؤية لما يجب أن يكون عليه مستقبلنا. قد يصح القول إنه «فى الماضى، كان لدينا مستقبل» ، أى فى مراحل سابقة فى القرن العشرين كان لدى نخب سياسية وثقافية نافذة تصورات واضحة عن المستقبل العربى المنشود. كانت حركة النهضة العربية مشروعا لاستشراف وبناء غد أفضل. وكان للقوميين العرب أو النخب اليسارية فى الخمسينيات والستينيات رؤية عن الاتجاه الذى يجب أن تسير وتبنى فيه مجتمعاتنا واقتصاداتنا ودولنا، وأما الآن فنحن نعرف ما لا نريد: ثرنا ضد الاستبداد، وضد الظلم الاجتماعى – ولكن دون رؤية قوية لكيفية إحداث التغيير فى مجتمعاتنا ولمعالم الدولة البديلة والمجتمع البديل أو حتى الاقتصاد البديل الذى نريد. وهذا أمر لا يقتصر على العالم العربى
فى كتاب رائع للكاتبة الروسية سفيتلانا بويم تحت اسم "مستقبل الحنين"(TheFutureofNostalgia) تتحدث الكاتبة عن هذه المرحلة فى التاريخ العالمى، وتقول إن القرن العشرين بدأ برؤى طموح لمستقبل مختلف جذريا عن الماضى، ومشرق، وخريطة طريق لبناء ذلك المستقبل، بينما انتهى القرن العشرينى وبدأ القرن الحادى والعشرين بحنين شديد الى الماضى أو على الأقل الى تصور رومانسى لماض يفترض أنه كان مليئا بالأمجاد. إنها تتحدث أساسا عن عهد الرئيس بوتين فى روسيا، وفكرة استعادة الأمجاد الروسية الماضية. ولكن هذا يمكن أن ينطبق أيضا على نجاح حملة دونالد ترامب فى الولايات المتحدة وشعاره "لنجعل أميركا عظيمةمن جديد". وينطبق أيضا إلى حد كبير على داعش، التى تدعى أن هناك ماضيا مجيداً يجب استعادته. وتشير بويم فى هذا الكتاب إلى نقطة مهمة، وهى أن الحنين إلى الماضى كقوة سياسية يصبح قويا جدا عندما يحدث التغيير بشكل متسارع، وعندما يكون الناس فى حيرة وقلق شديدين. وهذا الحنين الى الماضى هو أحد أسباب ضياعنا فى الحاضر.
هل نهتدى إلى الطريق؟
من منظور ما، فإن المستقبل حاضر بيننا اليوم، وهو مزروع فى تطلعات ومنطلقات الشباب. تشير استطلاعات الرأى المتعددة إلى أن أغلبية الشباب العربى تتطلع إلى حكم مسئول أمام شعبه، ومجتمعات منفتحة ومتنوعة.2 قد يستغرق ذلك جيلا أو أكثر ليؤتى ثماره، وقد يستمر الضياع والصراع والدمار لسنوات أوعقودا مؤلمة، ولكنى أعتقد أن هناك سبيلا للسير إلى الأمام على الرغم من أننا لسنا على هذا السيبل الآن. فقد استغرق الأمر فى الولايات المتحدة على سبيل المثال أكثر من أربعين عاما حتى تمكنت القيم والمواقف التى عبر عنها جيل الشباب فى السبعينيات من أن تشق طريقها إلى عالم السياسة والقانون. هذه التحولات العميقة تحتاج إلى عمل أجيال.
وفى ثنايا هذا الصراع هناك دور كبير للمثقفين والمفكرين والجامعات،ومراكز البحث, فضلا عن الروائيين والفنانين والإعلاميين وغيرهم من صناع الثقافة. وهو دور التفكير جديا فيما يجب أن يكون عليه مستقبلنا ووضع الإطار الأخلاقى والثقافى لهذا التغيير. فقد لعب المثقفون العرب هذا الدور فى أوائل النهضة فى أواخر القرن التاسع عشر. ورسم المثقفون القوميون والكتاب والمسرحيون والروائيون الخطوط العريضة لنظم سياسية واجتماعية جديدة فى الأربعينيات والخمسينيات. وفى خضم التحولات الأخيرة، أدرك الإسلاميون المتشددون والمعتدلون على حد سواء أهمية الفكر ونشر الكتب والكتيبات المتقنة لشرح رؤيتهم للمستقبل، وإقناع الناس بتبنى التصور والمشاركة فى بنائه.
فالعقول الحائرة تتلهف إلى الوضوح، والنفوس المضطربة تتلهف إلى مستقبل يمكن أن تستشرفه وتؤمن به. وعلى الرغم من قتامة الوضع الحالى، فإن الأسباب الدافعة للتحولات فى القوى التى تحدثت عنها ستجد طريقها ولا يمكن عكسها، وسيكون لديها تأثير فى فرض نظم اقتصادية واجتماعية وسياسية أكثر شمولا ومساءلة وتعددية لا محال. ولكن الى ان يتم بذل المزيد من الجهد الفكرى فإن تحقيق وتعزيز ذلك المستقبل البديل،سوف يظل مؤجلا لعقود طويلة وقاتمة.
الهوامش:
1 – ( نشر جزء مختصر ومعدل من هذا المقال فى جريدة الحياة-لندن فى 28 يوليو 2016 )
2 – انظر مثلا AhmedBenchemsi,
"Don'tbeFooledbyAppearances, LiberalValuesareSpreadingintheArabWorld," TheMiddleEastInstitute,
December9, 2014.
http://goo.gl/dbVcFM
عن مؤسسة كارنيغي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.