الجيش السوداني يحرق 4 تريليونات جنيه من ميزانية مليشيا الدعم السريع في نيالا    شاهد.. وسط سخرية واسعة من الجمهور.. حكومة "حميدتي" تنتج فيديو كليب لمجموعة كورال تأسيس الغنائي بمناسبة العام الجديد    شاهد بالصورة والفيديو.. من ميناء بورستودان.. مصرية تغني للجيش السوداني والقوات المشتركة ووتغزل في البرهان: (قائد عظيم وحالف يخلي العدو نادم)    بالصورة.. في مفاجأة غير متوقعة.. والد الفنانة إيمان الشريف يعلن إنفصال إبنته من زوجها العازف "إيهاب" ويؤكد: (رغم انفصالهما إلا أن العلاقة بينهما حميمة مبنية على المودة والاحترام)    بوركينا فاسو تفرض على السودان مواجهة صعبة مع السنغال    جابر يشدد على الحسم في ضبط الوجود الأجنبي بولاية الخرطوم    تفاصيل مثيرة عن عملية عسكرية للجيش السوداني    قرار للحكومة السودانية بشأن معبر أدري    السفارة السودانية بالقاهرة تشن تحركًا أمنيًا صارمًا ضد الجريمة داخل الجالية    "صمود" يرفض ترحيب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي بمبادرة كامل إدريس    5 حقائق عن الخلاف السعودي الإماراتي في اليمن    حصاد مبادرات المسؤولية المجتمعية لشركة MTN السودان خلال عام 2025    مواجهات المنتخبات العربية في دور ال16 لكأس إفريقيا 2025    تحرك صيني ومصري لمواجهة إسرائيل بالصومال    قرارات لجنة الاستئنافات برئاسة عبد الرحمن صالح في طلب فحص القوز ابو حمد وإستئناف الصفاء الابيض    هلال كريمة يفتتح تجاربه بالفوز على أمل الدويم    رئيس القوز ابوحمد : نرفض الظلم المقنّن ولن نتراجع عن حقنا    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (اللغم يتكتك)    إنشاء مسالخ ومجازر حديثة لإنتاج وتصنيع اللحوم بين مصر والسودان وزيادة التبادل التجاري بين البلدين    مجلس الوزراء يجيز بالإجماع الموازنة الطارئة للدولة للعام المالي 2026    محافظ بنك السودان المركزي : انتقال الجهاز المصرفي من مرحلة الصمود الي التعافي والاستقرار    الخارجية الإماراتية: نرفض الزج باسم الإمارات في التوتر الحاصل بين الأطراف اليمنية    لماذا تجد صعوبة في ترك السرير عند الاستيقاظ؟    بعد تأهل صقور الجديان للدور الستة عشر في البطولة الافريقية إبياه: تحررنا من كل الضغوط    عبده فايد يكتب: تطور تاريخي..السعودية تقصف شحنات أسلحة إماراتية علنًا..    التحالف: نفذنا ضربة جوية استهدفت دعما عسكريا خارجيا بميناء المكلا    الفنّانُ الحق هو القادر على التعبيرِ عن ذاتِه بما لا يخرج عن حدود خالقه    الخرطوم .. افتتاح مكتب ترخيص الركشات    السودان..مسيرات في الشمالية والسلطات تكشف تفاصيل المداهمة    رئيس الوزراء يهنئ المنتخب الوطني بفوزه على غينيا الاستوائية في بطولة الأمم الإفريقية    5 أطعمة تخفف أعراض البرد في الشتاء    الحقيقة.. كرة القدم تجرّنا جرّاً    رئيس الاتحاد السوداني ينعي الناظر طه فكي شيخ    الجامعة العربية: اعتراف إسرائيل ب"إقليم أرض الصومال" غير قانوني    الجزيرة .. ضبط 2460 رأس بنقو بقيمة 120 مليون جنيهاً    الوطن بين احداثيات عركي (بخاف) و(اضحكي)    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا يجد القادة الشيوعيون هذا الحب الجارف من الشعب السوداني؟
نشر في حريات يوم 19 - 08 - 2017

إذا عدنا لجرد العقد الأخير، على الأقل، فإننا نجد أنه قد رحل من خلاله الكثير من رموز السودان على مستويات السياسة، والفكر، والأدب، والفن، والاجتماع. ولكن أكثر هؤلاء الذين وجدوا تبجيلا كانوا من الشيوعيين، واليساريين الذين تحالفو فكريا معهم بشكل، أو بآخر. وإذا قارنا حجم التقدير الذي وجده الرموز الراحلون من التنظيمات الأخرى فإنه يصعب القول إنها لقيت اهتمامنا بالقدر الذي وجده هؤلاء الشيوعيون الممجدون. وربما شيعت الجماهير بعض قادة النظام باللعنات برغم أن ثقافة السودانيين حتى وقت قريب كانت لا تثأر من شخص عند دنو لحظات موته وبعدها. ولكن ثقافة العنف المستبد التي أرساها الإسلاميون في التعامل مع الآخرين لم تتح مجالا للمغبونين للتسامح مع موتاهم، والذين بعضهم أراق الدماء، واغتصب النساء والرجال معا، وأذل كرامة المستضعفين.
إن غالبية الكتابات التي تناولت سيرة هؤلاء الشيوعيين الأماجد بجزيل الكلم، ولوعة الحرف، وزفرات النفس الحرى، تنتمي إلى تيار التغيير العريض باتجاه الحرية، والديموقراطية، والسلام. رثاهم ممثلو كل الأجيال بصدق، منهم بعثيون، ومنتمون للأحزاب التقليدية والحديثة، أنصار، وختمية، ومستقلون، وجمهوريون، وصوفيون، ونشطاء منظمات مجتمع مدني، ومحاربو حركات مسلحة. بل إن هناك بعض الإسلاميين الذي أبدى تقديرا للشيوعيين الراحلين، فضلا عن ذلك فإن الحكومة التي تكيد كيدا للحزب أبدت نوعا من التقدير لهم، وإن كان صوريا. ولا بد أن الإخوة الجنوبيين الذين انفصلوا عنا عبروا أفرادا، وقيادات، وبرلمانا، عن بالغ الأسف لفقد هؤلاء الرموز الوطنيين. وهكذا تلاقى الشمال، والشرق، والغرب، والوسط، والجنوب في ملحمة قومية للوفاء. وعلى مستوى الشرق الأوسط، وأفريقيا، فإن رموزا فكرية، وجماعات، ومنظمات، عبرت عن حزنها لفقد هذه الشخصيات السودانية التي كانت تشاركها هموم اليسار العربي، والإفريقي.
بالتوثيق نجد أن الذين شيعوا جثامين الشيوعيين يمثلون معظم قطاعات البلاد، والذين يشاركون في تأبينهم سنويا في السودان، والمهجر هم هؤلاء السواد الأعظم من السودانيين. ففي هذا العقد المنصرم مات نقد، وحميد، والخاتم عدلان، والتيجاني الطيب، وسعاد إبراهيم أحمد، وسعودي دراج، وعبد الماجد بوب، ومحمد سعيد القدال، ووردي، وآخرون، وأخيرا فاطمة أحمد إبراهيم التي جاء اهتمام الناس بوفاتها هادرا حتى بدا كأنها تنتمي لتيارات السودان السياسية جميعها هذي، أكثر من انتمائها للحزب الشيوعي فحسب. وهذا الحب الجارف الموثق في حروف الناعين، ومواد وسائط الميديا، كاد أن يخلع الراحلة حتى من حزبها الذي انتمت إليه، وتمثلت أدبياته، وعرفت به. ولاحظنا أنه رغم سيطرة الحزب على إجراءت القيام بأعباء الدفن إلا أنه لم يتمكن من تمام السيطرة على كل ما صاحبها من أحداث أدت لطرد قادة السلطة من موكب التشييع.
-2-
لا بد أن هناك رابطا قويا وسط هذه الجموع السودانية التي اتفقت على معنى هذا التبجيل الكبير، والتقدير لميراث هذا النفر من الشيوعيين، والتعبير عن العاطفة إزاء رحيلهم إلى الآخرة. هذا بالرغم من أن الوسيلة الفكرية التي يتبعها الحزب قد واجهت حربا شرسة منذ خمسينات القرن الماضي في مجتمع يسهل فيه جدا تجييش عاطفته الدينية. وهذه ما تزال توظف ضد الحزب، وأهل الاستنارة الآخرين، كنوع من الابتزاز الإستراتيجي، وكوسيلة للشنشنة الفكرية التي ترنوا إلى السيطرة على حيز الرأي العام. والحقيقة أن الدين، لم يكن يوما هدفا للعداء، أو الاستهداف من الشيوعيين السودانيين، ولا توجد في أدبيات الحزب الرسمية ما يعبر عن انتقاص لقدر الإسلام، أو المسيحية، أو الأديان الأفريقية. قد يوجد في الحزب ملحدون، ولكنهم هم الملحدون عموما الذين يتخذون موقفا ليس ضد معتنقي الدين وإنما يستهدفون مساءلة المصادر الدينية كلها. ومن حق الملحدين، أو الإنسان عموما، ان يؤمن بدين، أو لا يؤمن ما دام الإيمان، أو عدم الإيمان، بوصلة الضمير، ولعل دين الإسلام ذاته لم ينته إلى حمل الناس على الإيمان بالجبروت. وكان أهل الكتاب في صدر الإسلام لا يؤمنون ببعثة النبي الكريم، ويعتقدون في ما يعتقدون، ويتعاملون معه على هذا الأساس. وقد ظل الملحدون، الشيوعيون وغيرهم، يتعاملون مع الأمر باعتبار أنه حق على المستوى الفردي. ولكنهم لم يراكموا أدبا منشورا ضد المعتقد حتى يقعوا في فخ الذين ينافسونهم في حصد عاطفة، وقلب، وجهد الجماهير.
وهنا تضحي القلة من الشيوعيين الملحدين بحريتها في الجهر بالتعبير إعلاميا، احتراما لما يراه البعض أنه خدش لمعتقد المتدينيين، والذين يشكلون أغلبية الشعب السوداني. وربما يعود هذا التقليد الصارم إلى لوائح الحزب التي تشدد على هؤلاء الشريحة من العضوية بأن المعركة الأساسية تتعلق بالتنوير أكثر من التهديم، وبالتثقيف أكثر من الازدراء بالموروث المعتقدي، وببحث المشرق في التراث الإسلامي، أكثر من تناول ذلك الموضوع الذي يثير المشاكل لا الحلول. وعلى هدي هذه المفاهيم سار الشيوعيون جميعا ينشطون في العمل العام. يخفقون هنا، وينجحون هناك، ويراجعون بمثابرة مساهمتهم الوطنية على طول التاريخ، وفي كل هذا السعي النظري، والحركي، تجدهم منفتحين أمام المعرفة. ومن نافلة القول أن آيات هذا الانفتاح الشيوعي تتمثل في تخلي شيوعيين عن الإيمان بالنظرية الماركسية نفسها، إذ إن بعضهم انتهى إلى التصوف، أو الانضمام لخصم الحزب الشرس حتى: الحركة الإسلامية. وهناك من تركت الحزب ثم مضت إلى حال سبيلها حرة من كل قيد تنظيمي، دون أن تتخلى عن الماركسية، أو القناعة بقيم النضال من أجل مستقبل أفضل. وما يجدر تأكيده أن بعض ملحدي الحزب هم الذين بحثوا عن سلوى دينية لاحقا لدى هذه التيارات الرجعية"، بينما بقي ملحدون وغير ملحدين متمسكين بالنظرية التي بذل قادة الحزب جهدا لسودنتها حتى تتماشى مع طبيعة واقع البلاد. وغالب هؤلاء المتمسكين بالتنظيم الآن هم الذين يسيرون على نهج التراث الذي خلفه أولئك النفر الأشاوس من الراحلين. أما الذين سعوا لمغازلة اليمين الديني فالكثير منهم قد تناسى مطالب الجماهير، وسكت عن الدفاع عن الفقراء، والمحرومين، والمظلومين، وبصورة أو بأخرى يسعون إلى استهداف بنية الحزب.
-3-
من خلال هذا الولاء الشيوعي للجماهير المستغلة تاريخيا يُفهم هذا الحب الجارف الذي بينه المنتمون للتيارات السودانية كافة لرموز الحزب الراحلين في مناسبات تشييعهم. وإذا تعمقنا في هذه الأحداث فإننا نرى أنها تُلقي بمهمة ثقيلة على هذا الحزب أكثر من كونها تمنحه صكاً يجيز وطنية خطه السياسي فحسب. فلو أن هذا الإجماع على الحب الجارف نحو أفراد الحزب لا بد أن قد تأسس على إشراقات تربيته النظرية لكوادره النوعية هذه، فإنه يعني أن الحزب، من جانب آخر، برغم الضربات الموجعة التي وجدها من قوى اليمين طوال نصف قرن من الزمان، وتصاعد الاستهدافات نحوه في الآونة الأخيرة، ما يزال يمثل البوتقة السياسية السودانوية التي تلم شعث الناس إن لم يكن حركيا، فنظريا على الأقل.
وهذه رسالة تعني أن في حراك الشيوعيين كثير من الأمل في استعادة العافية للبلاد، وسلامة الانتقال من مرحلة الاستبداد إلى آفاق الحرية، والتجسير بين قضايا الحضر وأولويات الريف. بل إن فاعلية الحزب، وقدرته على معالجة أدواء فعل التنظيم، وإدارة تبايانات رؤى قادته، وإيجاد وسيلة لتنمية منظوره لقضايا السودان على ضوء المستجدات الماثلة، والاعتبار من ثقل التاريخ على الحزب، كل هذه الضروريات، الأولويات، تفرض مسؤولية وطنية أكبر على الشيوعي للسير في تحقيق تطلعات هؤلاء الراحلين، والتي هي تطلعات أغلبية السودانيين التي مجدتهم بهذه الصورة البليغة، وعكست معنى الوفاء، ووضعت سقفا عليا للتبجيل.
صحيح أن هؤلاء الذين احتفوا بسجل حياة الراحلين من الحزب، ومن ثم حزنوا على مفارقتهم دنيانا، لا يتفقون تماما مع كل الرؤى التي يطرحها الحزب اليوم. بل إننا شهدنا قبل شهور عدم توافق الشيوعيين أنفسهم بعضهم بعضا، والذي أدى إلى خروج، أو إعفاء جماعة من قياداته، في ملابسات تنظيمية أو فكرية. كما أن هؤلاء المحتفين بالراحلين ربما يتمنون لو أن سجل كل شيوعي يماثل عطاء فاطمة أحمد إبراهيم، أو سعاد إبراهيم أحمد، أو نقد، أو التيجاني الطيب. ولكن يبقى الرهان على العطاء أهم من الرهان على الانتماء وحده. وعندئذ يبقى الحكم على الشيوعي من خلال ما يقدم للجماهير، وليس العبرة بالخطأ في التقدير مرة، أو إساءة النظر مرة أخرى، وإنما تأتي العبرة بكامل إسهام الفرد الإيجابي المكثف الذي يبقى نوعيا حتى آخر رمق. ولا يكفي فقط قياس سجل الإنسان بالشعارات التي يتبناها. فما لم يتطابق الفعل مع الفكرة فإن لا معنى لتقديس الانتماء لمنظومة سياسية مهما حملت من قيم التنوير، أو المنطق، أو رجاحة النظر. وفي زمان توضع فيه السلطة المتاريس أمام وحدة قوى التغيير الديموقراطي، فإن التعاطف مع الحزب في هذه المرحلة التي تتصاعد الحملات المنظمة الواضحة ضده من قبل قوى ظلامية، والمتواطئين معها، واجب مهم، ينبغي أن يكون هم كل الناشطين لإحداث التغيير، خصوصا أن ثقافة الالتزام الوطني التي أرساها هؤلاء الراحلون المتسقون تتطلب منا شيوعيين، وغير شيوعيين، أن نتقفى أثرها، وهذا أكبر تكريم لهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.