عندما كنت أشاهد خطابكم سيدي الرئيس انصدمت وبكل صراحة من أسلوبية الخطاب السياسي، لا سيما الموجه لجنوب السودان وحزبها الحاكم بها، المعرّف فيه بالحشرة الشعبية (معذرة أقصد “الحركة الشعبية”). إن الحديث الذي قيل في ذاك المنبر يملأه الكبرياء والغضب والحماسة الخاطئة تجاه أهل الجنوب بصورة أو بأخرى، وأنه يناقض كل الأفكار النيرة في التعامل مع الغير، أصدقاء كانوا أم أعداء بالتي هي أحسن وكما قال الله تعالى: (إن كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) أليس هذا هو كلام الله؟ كيف ترتكز اسلوبية خطابكم سيدي الرئيس على البغضاء والجفاء وأنت رجل الدولة الأول؟ أنا لا أكاد أن أصدق نفسي، إذ مازالت مقولتكم ترنّ في أذنيّ: نحن دايرين السلام! أهل يعقل أن تكون هذه انطلاقة للسلام بعد التاسع من يوليو بين شعبين كانا قبيل سويعات شعبا واحدا؟ يجب أن نعلم إخوتي أن “فوهة الفم” هي بدون أدنى شك أضرم من فوهات البنادق والتاريخ يقف شاهدا على ذلك وكيف لا والعالم يعلم كل العلم عن خطاب الحرب الباردة بين الكتلتين آنذاك. وهانحنذا نعيش الآن حربا باردة متقدة وجديدة نشبت بين قلوب أهل الشمال وأفئدة إخوانهم بالجنوب والسياسة لها دور فعال في هذا الشأن ومن وطأتها تشرد أهل الكرمك والدمازين وجبال النوبة وهاموا على وجوههم في كل أنحاء الأرض طالبين ملجأ ولقمة تكفيهم شر الجوع والعوذ. منذ أن انفصل جنوب السودان عن قلب المقرن النابض والحال العامة بالبلاد في تفاقم ملحوظ: غلاء، شح، جوع، حرب، التجاء، عطش، كرب، مرض، جهل، الخ. والخطاب السياسي المفعم بأقذع قنابل الفم لم يتوقف بين أخوة الأمس. إن تاريخ الحركة الوطنية بالسودان حافل بالمثقفين والأدباء الذي اسمعوا حينما نطقوا واستحكموا حينما رفع الجمهور صوته ثائرا: هل من مزيد؟ صالت أصواتهم أرجاء الأرض ناشدة السلام الحقّ والرفعة لأهلهم وذويهم. يمكننا أن نعدد العشرات من أدباء السياسة بالسودان فمنهم يحيى الفضلي، محمود الفضلي، محمد أحمد المحجوب والأزهري، الخ. كانت شيمتهم الصبر والحكمة والتراضي في خطابهم السياسي، للوصول لأهداف في صالح الأمة؛ إذ أنهم نبذوا في أسلوبيتهم أن يرجِّحوا غير العقل وأن لا يجرحوا الغير فذاك يمحو أخوة كانت بالأمس غضة هشة وصارت اليوم حطام تزوره الرياح. كيف لا وهم لم ينسوا ذاك الشعور البغيض بتعالي أسياد الأمس من أبناء الشمال، وإن استمر الحال هكذا فلن نصل لسلام بيننا ولن ينفي الرمي بالكلم من قلوبهم الحقد والبغضاء تجاه أهلنا بأمدرمان ومدني والدمازين، بل ولن يزيل إساءة الظن بنا حين تصدر منا الأخطاء. لقد كرر الرئيس في كلمته عن الحزب السياسي بالدولة الوليدة لفظ “الحشرة الشعبية” في كل جملة قالها فهل يجوز ذلك في أدب الخطاب؟ أهل سيعتذر الريس عن قولته هذه عندما يقابل سلفاكير؟ هل يمكنه الاعتذار علنا عن ما جاء في خطابه الحماسي المرتجل؟ إن الاعتذار شيمة وقانون سماوي تفرضه علينا نواميس المجتمع الذي نعيش فيه ويحتمه علينا التعامل بسنه الرسول القويمة في شرع الله القويم بل وفي نواميس كل الأديان السماوية. لعمري إن الاعتذار في سياق كهذا بين الإخوان أمر جميل وحسن، لكن ما أجمل أن نحذر من الوقوع في ما يجعلنا مضطرين للاعتذار من الأساس، فالحكمة مفتاح، والتسامح مفتاح آخر للوصول إلى قلوب من حسبناهم أعداءنا وربما تجمعنا وحدة ما معهم في يوم من الأيام، والله أعلم! [email protected]