والوطن هنا هو موطن الجنوبيين الذين نزحوا للشمال لأسباب عديدة، كانت حكومة الجنوب تحاول أن تعيدهم إلى مواطنهم المختلفة قبل التعداد السكاني وقد فعلت العديد من المحاولات بعضها على المستوى الحكومي بجوبا وبعضها عن طريق السلاطين بالخرطوم وكم من المبالغ التي صرفت ولم ينجح المشروع، كانت هناك ثلاث محاولات لم تأت بنتيجة إلا الذين اختاروا أن يذهبوا وهم في الأصل الذين نزحوا من المدن الكبيرة وغالبيتهم كانوا موظفين في الحكومة، وبعد السلام أجبروا على العودة والاستقرار خاصة بعد الضبط المالي الذي قامت به الحكومات الولائية لوقف صرف الغياب من موظفيها، كذلك بعض العمال المهرة الذين اكتسبوا خبرات مختلفة بالشمال بعد السلام عادوا إلى الجنوب بأسرهم فقد كانوا ولا زالوا أصحاب مهن ودخول كبيرة.. كذلك عاد العمال غير المهرة بأسرهم إلى المناطق الإنتاجية بالرنك وغيرها من المدن التي توجد بها مشاريع زراعية، وأغلب هذه الفئات كما أسلفنا هم الذين نزحوا من المدن وعادوا إلى المدن.. أو الذين نزحوا من الريف واكتسبوا مهارات أياً كانت وعادوا إلى الجنوب بإرادتهم بعضهم عاد عن طريق المشاريع الفاشلة للعودة أو بطرق فردية، ولكن الحق يقال أنّ الذين عادوا إلى الجنوب لم يعد منهم أحد إلى الشمال فقط نسبة العودة كانت أعلى أي بنسبة40% بالنسبة للعائدين إلى أبيي وهذا لأسباب أمنية واستهداف ضدهم والمعارك العنيفة التي حدثت بأبيي واحترقت المدينة، ولكن كل الولايات الأخرى لا توجد أي عودة.. ذلك لأن الذين ذهبوا من هنا أصلاً كانوا في انتظار الذهاب بشكل نهائي وهو ما حدث، أما غير ذلك فإنّ المشروع لم ينجح لأنّه لم يستطع أن يقنع الجنوبيين العائدين الذين خرجوا من القرى- أي أن المشروع لم يقنع القرويين في الأصل، ذلك لأنّ العودة إلى القرى دون أن تكون هناك مشاريع أو حتى بناء مساكن لهم أو توفير معدات للبناء كان ضرباً من الخيال بالنسبة لهم، خاصة وأن المنظمات في الأصل كانت توفر فقط المؤن أي الأكل لمدة 3 شهور بالإضافة إلى التقاوي علماً بأنّ بعض القرى كانت ملغومة منذ الحرب. قلنا بأنّ العودة كما خططت لها حكومة الجنوب لم تنجح في المرة الأولى والمرة الثانية لم ينجح مشروع العودة عن طريق السلاطين فقط سافر النازحون الذين كانوا أصلاً من سكان المدن أو الذين اكتسبوا مهارات جعلتهم يقتنعون بأنهم ذاهبون إلى المدن وفي المدن مستقرهم. ولكن من المفارقات العجيبة وهي عندما كانت الحكومة- الجنوب- والولايات تبحث عملية قفل الثغرات المختلفة لتزوير الاستفتاء، أحست الحركة الشعبية بأن المؤتمر الوطني يستبطن مكيدة ما لتزوير الاستفتاء ذلك عندما لاحظت بأنّ حديث قيادات المؤتمر الوطني كان منصباً في أنّ عدد الجنوبيين أصبح 4 مليون وأحياناً 3.5 مليون علماً بأنّ عددهم في الإحصاء كانوا فقط 500 ألف في الشمال!!! فكيف يصبحوا بهذا الرقم في مدة بسيطة لكي تعالج هذا الأمر فكرت حكومة الجنوب بان يتم وضع برنامج سريع سمي حينها (عُدّ إلى وطنك لتختار)، وأودعت الحكومة مبالغ مقدرة في حينها لتنفيذ المشروع وشاركت منظمات المجتمع المدني بالجنوب في تنفيذ المشروع، واشترك فيها مثقفو الجنوب بالخرطوم والسلاطين وغيرهم لإنجاح المشروع. وقد كان المشروع يرتكز على أن تتم العودة قبل التسجيل للاستفتاء وإذا أدرك التسجيل هنا فلا تسجيل قط بالشمال.. خوفاً من أن يتم تزوير إرادتك بالشمال.. هذه الحملة نجحت عندما شارك فيه طلاب الجامعات الذين استطاعوا بأن يصلوا إلى أهلهم في أطراف الخرطوم وفي الكنائس والمجتمعات الأخرى. ولكن الذي لم يكن تتوقعه حكومة الجنوب والقائمون على أمر الترحيل هذا هو الغباء السياسي الذين يتمتع به أهل النادي الكاثوليكي ذلك عندما قاموا بإشاعة دعاية كثيفة بأنّ الانفصال سوف يفجر شلالات دماء بالشمال وأن الجنوبيين في الشمال هم أكثر المتضررين من هذا الاستفتاء خاصة إذا ما اختار الجنوبيون الانفصال وأن.... وأن... حتى وصولاً إلى محطة حقنة كمال عبيد الذي نزلت على المشرفين على الترحيل ككرت رابح لدفع المشروع إلى الأمام، فقد تم نشر حديث عبيد إلى أقصى حدّ وسط الجنوبيين في المدن وفي أطراف المدن وترجم بعدد من اللغات وكذا استغلت الحكومة بالجنوب حقنة عبيد وردت عليها بعنف. والحقنة جابت حقها... فخاف الجنوبيون على حياتهم بالشمال وعلى المصير الذي سوف يلحق بهم.. خاصة وأنّ أحداث الثلاثاء والأربعاء وهي أسوأ أحداث عنصرية حدثت في السودان وهي لم تكن كأحداث الاثنين ذلك لأنّ أحداث الاثنين شارك فيها كل السودانيين من الشمال والجنوب على الرغم من بعض العنصرية التي صاحبتها ولم تكن من بعض الجنوبيين، أو غيرهم من السودانيين إلا أن أحداث يوم الثلاثاء والأربعاء كانت عنصرية قحة شارك فيها حتى أئمة المساجد وكانت موجهة فقط ضد الجنوبيين، وأحداث الاثنين خرج فيها حتى أبناء الوسط النيلي وأضرموا النيران في المؤسسات العامة والخاصة، وكان يهدف بعضهم لأغراض أخرى لا علاقة لها بالعنصرية بل سياسية، وكنت شاهداً وكنت في اللجنة المشتركة التي ساهمت في التهدئة وتلقي البلاغات، وهي قضية سوف نعود إليها ليس في عمودنا هذا. نرجع ونقول إنّ حقنة عبيد وغيرها من الألغام والحديث غير المسئول الذي أطلقته قيادات المؤتمر الوطني كانت أعاصير في أشرعة لجنة الترحيل والعودة فاستغلتها أيّما استقلال ونجح المشروع.. الآن الجنوبيون هم الذين يطاردون العربات ورؤساء ومنسقي اللجان بدلاً من أنهم أي منسقي اللجان كانوا يجوبون تجمعات الجنوبيين للتبشير بالعودة، ومحاولات المؤتمر الوطني بقيادة رئيسه- عمر البشير- وعلي عثمان ونافع وغيرهم كل محاولاتهم للتطمين باءت بالفشل، ذلك لأنّ اللجنة استطاعت بأن تلعب البولتيكا بصورة صحيحة.. على الرغم من أن التعقيدات التي تقوم بها الجهات الحكومية لتعطيل المشروع مثل مضايقة العائدين في الطرق و(فرض) أتاوات على كل رأس كما هو في طريق أبيي وبانتيو وأويل، أو بث التطمينات بتحويل مساكنهم في الأطراف إلى سكن دائم وتسليمهم شهادات بحث. ونواصل،،،