المتتبع لسوق الإعلان في السودان هذه الأيام يلحظ «حاجة غريبة» حيث إن البنوك تعلن عن استعدادها لتمويل شراء عربات «ركوبة» بتسهيلات غير عادية فما أن تفتح صفحة إعلان في جريدة او تشاهد لوحة الكترونية او حتى ملصقات الشوارع إلاّ وتجد أن البنك الفلاني على استعداد «لاركابك سيارة» كما تريد بمقدم معقول واقساط لمدة ثلاث او اربع سنوات وبضمان السيارة نفسها ولو استمر بهذه الطريقة فقد نصل مرحلة يكون فيها الحصول على سيارة اسهل من الحصول على ... «يمكنك ان تملأ النقط بما تشاء» ولعل هذا هو الذي يفسر لنا اكتظاظ شوارع الخرطوم بالعربات الكورية، ومن جهة اخرى يفسر لنا العنت والمشقة والبحث عن زيادة الدخل لدى الكثير من الموظفين لان معظمهم يدفع شهرياً ما بين ستمائة الى ثمانمائة الف جنيه لتغطية قسط السيارة ومن المؤكد ان ذات السيارة بعد ان اربع سنوات سوف تصبح خردة ويا بخت الميكانيكية والكهربجية. يا له من منظر جميل ان يخرج الأب بسيارته ويصطحب اطفاله الى المدارس وفي العصريات يردف الحاجة وهاك يا زيارات ومستشفيات ومناسبات، ولكن من رقة الحال السائدة سيجد الحاج ان مصاريف تسيير السيارة لا تقل عن بقية مصاريف البيت ولكن المظهر الاجتماعي «والبوبار» حتم هذا البنك الذي هدّ حيل محدودي الدخل كما انه يؤثر على اقتصاد البلاد الكلي فقطع الغيار واستهلاك الوقود واكتظاظ الشوارع كل هذا خصماً على مجالات تطور اخرى ولكن ان «جينا للحق» فلن نلوم المواطن بل نلوم سياسة الدولة التي اعدمت المواصلات العامة وجعلت الناس يلجأون للحلول الفردية التي تقصم الظهر فلو كانت هناك بصات مريحة يكمل فيها الموظف قراءة الجرائد ويصل فيها التلميذ مدرسته قبل الجرس ويقلب فيها الطالب الجامعي دفاتره لما احتاج الناس لهذه السيارات التي سوف تجعل من السودان مستودعاً كبيراً لنفايات حديد العالم. لكن الاهم من كل هذا هذه البنوك «الهمامة» لماذا لا تمول المشاريع الاقتصادية الصغيرة التي يمكن ان تزيد دخل محدودي الدخل؟ لماذا لا تمول بناء المساكن الشعبية؟ فمعظم الذين يركبون سيارات بتمويل بنكي يسكنون بالايجار لماذا لا تساعدهم هذه البنوك «الحقارة» في اقتناء منازل فالمعلوم اليوم ان محدودي الدخل يلهثون وراء امتلاك منازل لا كي يعيشوا فيها بل كي يموتوا فيها وهذه قصة قد نعود اليها لاحقاً. في تقديري ان هذا الانفلات السياراتي يحتاج الى اعادة نظر ولو قامت الدولة بتوفير المواصلات العامة او سمحت للقطاع الخاص بأن يفعل ذلك شريطة ان توقف جماركها الخيالية وجباياتها الكبيرة وغراماتها المزاجية فلو فعلت ذلك لاختفت الكوريات وارتاح ذوو الدخل المحدود والحيل المهدود.