كتبت فى صفحة حضرة المسئول بهذه الصحيفة مناشداً المسئولين عن صحة البيئة بولاية الخرطوم أن يتداركوا صحة البيئة خاصة فى المُدن المحيطة بالعاصمة المثلثة, لأن الأمور تردت إلى وضع لم نشهد له مثيلاً من قبل فى مدن السودان و قراه. و اقترحنا عليهم حلاً عاجلاً أُستخدم من قبل وأثبت نجاعته , أعني بذلك تنظيم حملات شعبية فى الأحياء لجمع القمامة ، وقد حققت نجاحا منقطع النظيرآنذاك لأن الشعب السوداني جُبل على حب التكافل والتعاضد ومن أبرز ممارساته ( النفير) الذى يهدف إلى تحقيق التآزر بين الناس، و أن يشد بعضهم بعضاً , لكن ذلك الاقتراح ذهب أدراج الرياح، و لم يجد أدنى إستجابة , بل ظهرت عدم رغبة المسئولين فى مساعدة المواطنين لمساعدة أنفسهم. ذات يوم خلال الشهر الماضي وقف أمامنا رئيس اللجنة الشعبية فى مسجد الحي وبشرنا بأن المسئولين فى محلية بحري شمال وعدوه بالشروع فى حملة نظافة تبدأ فى اليوم التالي، وأهاب بالمواطنين المشاركة الفاعلة فى هذه الحملة بأخذ النفايات إلى الشارع الرئيسي, وستأتي مجموعة من سيارات نقل القمامة لأخذها . و كان رئيس اللجنة الشعبية يقول قوله ذلك وهو على يقين بأن مواطنيه سيهبون خفافا و ثقالاً لنظافة حيهم . و إى أنسان هذا الذى لا يحب أن يعيش فى بيئة نظيفة؟ وبعد مناشدة رئيس اللجنة الشعبية أقبل بعض المصلين على بعضهم يتساءلون : هل يمكن ان تفى المحلية بما التزمت به من توفير السيارات و الأكياس؟ وكان الرأى السائد بأن إحتمال حدوث ذلك قليل , لأن المحلية وعدت بذلك غير مرة و أخلفت و عدها. و أصبح الحال أشبه بالحال الذى ورد فى قصة (هجم النمر ) التى كانت ضمن مقرر المطالعة فى المرحلة الإبتدائية و فحواها ان راعياً صغيراً مُشاغباً يرعى البهم . وكان يستغيث بأهل القرية بأعلى صوته (هجم النمر !! هجم النمر!!) و عندما يهُرع القريون بأسلحتهم لقتل النمر يجدون أن الرويعي ضحك عليهم ! وعندما تكررت استغاثته الكاذبة لم يحفلوا بأمره بعد ذلك . وذات يوم هجم النمر حقيقة فاستغاث الراعي الصغير بأهل القرية( هجم النمر! هجم النمر!) لكنهم أداروا آذانا صماء لما خبروه من شأنه , وفتك النمر بالبهائم وبراعيها ! يقول الحديث الشريف ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) فالمعتمد راع فى محليته وهو مسؤول عن رعيته وينبغي عليه وسائر المسئولين أن يتفقدوا الرعية تأسياً بسيد الأنام صلى الله عليه و سلم وصحابته عليهم رضوان الله. لايخالجني أدنى شك أن منطقة الدروشاب شمال محرومة من زيارات المسئولين, لأنه لا يستقيم عقلاً أن يرى مسئولٌ هذا الوضع البالغ السوء والتردي المُريع فى صحة البيئة و يعود إلى داره لينام ملء جفونه . عندما أصبحت النفايات المتراكمة تملأ الساحات والميادين والأزقة والشوارع، لم يجد المواطنون بٌداً من اللجوء إلى أسوأ الخيارات وهو حرق النفايات فى أماكن وجودها, واليوم أصبح من المشاهد المألوفة أن ترى الحرائق والدخان المتصاعد فى كل مكان . وعندما حذر الأطباء المقيمون فى المنطقة المواطنين من مغبة حرق النفايات و خطورتها على صحة السكان، أجاب المواطنون بأنهم يدركون خطورة ذلك ويعلمون أيضاً أن القمامة المتراكمة تسبب الأمراض لكن مرأى أكوام النفايات يبعث فى النفوس الغم و الكآبة وكأنى بهم يستحضرون قول الشاعر ويحاكونه قائلين : إذا لم يكن من الموت بُدٌ فمن العار أن تموت (فى تلال القمامة). شهدت خلال الخمسينيات خواتيم الحكم الإستعماري فى السودان ودأب مفتش المركز الإنجليزي الذى كان على رأس الهرم الإداري والقضائي فى المنطقة الإدارية التى تُسمى (المركز) على زيارة أحياء المدينة شهرياً حياً إثر حي متفقداً صحة البيئة، وعند جولته كان يمتطى صهوة حصان وحوله كوكبة من شيوخ الأحياء على ظهور الحمير , وعندما يحين وقت الزيارة يكون الحي نظيفاً جداً لأن وجود أية قمامة يُعرض المواطن الذى لم ينظف منطقة سكنه وشيخ الحي ذاته إلى المُساءلة. حريٌ بنا و نحن متمتعون بكامل السيادة على وطننا، أن نكون أحرص من المُستعمر البريطاني على نظافة أحيائنا وقُرانا و مدننا .