هنالك بعض الاخطاء الشائعة في مبادئ ومفاهيم الوحدة او الانفصال في السودان وهي متداولة أحيانا بصورة عفوية ولكنها يمكن ان تؤدي الى تعقيدات في قضية الوحدة والانفصال أكثر مما تساعد على حلها بطريقة إيجابية، لهذا يجب الانتباه اليها ومعالجتها بالطريقة المثلي قبل الاستفتاء القادم. من أهمها أولا: توصيف قضية الوحدة في السودان على اساس عنصري او جغرافي فنقول عادة: «الوحدة بين الشمال والجنوب «، باعتبار انها هي حجر الأساس في بناء الدولة السودانية المستقرة.هذا التوصيف غير الدقيق يوحى بان الشمال كأنه كتلة واحدة و ان الجنوب كتلة واحدة أما عنصرياً أو جهوياً وهذا التوصيف فيه كثير من التبسيط للواقع المعقد والمتعدد للشمال و الجنوب معا. صحيح ان بعض الاصوات من العنصريين فى الشمال و الجنوب ظلت تصور الصراع على انه عنصرياً (زنوج و عرب)، ولكن الأحداث سابقاً ولاحقاً أثبتت ان الصراع كان ومازال بقدر أكبر سياسياً من كونه عنصرياً. وان اصل المشكلة منذ تكوين الدولة السودانية المعاصرة كان مشكلة مركز مع الاطراف ، وليس اهل الشمال ضد أهل الجنوب. كثير من الناس يشيرون الى» الشمال «هنا ويقصدون به «مركز السلطة» في الخرطوم على اعتبار ان المركز يقع فى الجزء الشمالى من البلاد. هذا التوصيف المجازي قاد بعض الناس ( وخاصة التيارات العنصرية في الشمال والجنوب) للترويج بأن أصل المشكلة هي بين أهل الجنوب «الزنوج» وأهل الشمال «العرب» فيجب التأكيد دائما وتذكير الناس على ان القضية هي بالدرجة الأولى معنية بتصحيح العلاقة السياسية بين مركز الدولة السودانية بالطرف الجنوبي ، والذي ضم الى مركز الدولة بطريقة قسرية فى العهود الاستعمارية، مما نتج عن ذلك ثورات وعصيان وتمرد استمر عقودا من الزمان حتى في العهد الوطنى، بل ربما ازدادت تأزما . المفروض من الاستفتاء القادم في يناير ان يضع حلولا ناجزة لهذه العلاقة المتوترة والمعقدة. فاذا اسئنا التشخيص الآن فاننا قطعاً سنصل الى معالجات خاطئة. لابد اذاً من تصحيح المفاهيم الخاطئة وتثقيف العامة والقادة عن طريق تمليك المعلومات الصحيحة. ثانياً : يعتقد بعض الوحدويين ان قضية بناء دولة السودان الموحدة على أسس عادلة هي قضية تختص بالجنوب وحده دون سائر الأطراف السودانية الأخرى. ولهذا يعتقد البعض أن حل قضية الجنوب يؤدي تلقائياً إلى إستقرار الأوضاع السياسية في كل البلاد . طبعاً كان هذا الاعتقاد سائداً لفترات طويلة قبل ان تنفجر الاوضاع في شرق البلاد وغربها ولهذا فإن هذا الإفتراض لم يعد قائماً مع التطورات الأخيرة. صحيح أن الأطراف الجنوبية كانت سباقة في تأكيد ذاتيها واستقلاليتها خلال التمرد الذي ساد الجنوب لفترات طويلة في سبيل تصحيح العلاقات مع مركز الدولة على أسس عادلة ومنصفة، حتى استطاع الجنوب من خلال اتفاقية نيفاشا ان ينتزع حق تقرير المصير وتعضيد مبدأ الوحدة الطوعية لأول مرة بطريقة قانونية. هذا النجاح ادى الى تشجيع الاطراف الاخرى المتململة اصلا الى تنشيط حركة المطالبات السياسية ورفع سقوفها فيما بعد .والمؤشرات الآن تشير إلى أن الوعي بالحقوق الاساسية اصبح متنامياً في كل انحاء السودان، ولهذا فلن نستغرب اذا رفعت بعض الاطراف الاخرى سقوف مطالبها مرة اخرى بعد الاستفتاء القادم ،اذا لم ينظر القائمون بالأمر الى قضية الوحدة فى اطارها الشامل واعطوا الحق لكل الهوامش والاطراف في تصحيح اوضاعها مع مركز الدولة متزامنة مع او عقب الاستفتاء القادم، فان تداعيات الاستفتاء القادم في الجنوب لن تنتهي عند حدود الجنوب وحده بل ستنداح الى الاقاليم الاخرى، وعليه يجب النظر الى قضية بناء وحدة مستدامة في اطارها الاشمل لحل قضايا الأطراف جميعاً مع المركز حتى يتم استبعاد الحقوق الاساسية من سوق المزايدات السياسية سواء أكان من جانب الحكومة او المعارضة. ثالثاً : الحديث عن الوحدة الجاذبة او الانفصال فى الاستفتاء القادم تغيب عنه تفاصيل كثيرة مهمة أولها تحديد دقيق لماهية الوحدة او الانفصال اللذين سيطبقان بعد الاستفتاء،هل المقصود بالوحدة الجاذبة هي الوحدة الفيدرالية؟ ام النظامين ( الاسلامي والعلماني ) فى الدولة الواحدة؟ ام الوحدة الكونفدرالية؟. هنالك ايضا كثير من التعميمات في مسألة الانفصال ،هل سيكون الانفصال تاماً ؟ ام سيكون مؤقتاً تعود بعده وحدة عادلة وجاذبة؟ كل هذه التفاصيل غائبة عن العامة وحتى عن القادة انفسهم! مهم جداً ان يتم تحديد هذه الخيارات بصورة واضحة قبل الاستفتاء لان كل نظام من هذه النظم له شروط مسبقة يجب توافرها قبل تطبيقها على أرض الواقع. اذا أخذنا خيار الوحدة الفيدرالية مثلا على انه خيار الاغلبية (خاصة عند المؤتمر الوطنى) نتساءل عن أية فيدرالية يراد تطبيقها؟ هل هي الفيدرالية النمطية والتي يعتبرها المحللون الأكثر استقراراً ونمواً، والتي عرفتها اوروبا وطبقت في بعض الدول الغربية، كما في الولاياتالمتحدة الامريكية؟ام الفيدرالية القابضة التي تشكلت معظمها في دول كان اساس نظامها السياسي المركزية القابضة (كما فى نيجيريا و السودان الآن)، ولهذا عرفت هذه الفيدرالية «بشبه الفيدرالية» ذلك أن من أهم شروط الفيدرالية النمطية ان يأتي الاتحاد الفيدرالي عن طريق دويلات مستقلة مارست سيادتها قبل ان تدخل في اتحاد فيدرالي، اي ان الاتحاد جاء طوعاً وبالتالي فإن تكوين الدويلات والتي سٌميت «بالولايات» بعد الاتحاد كان سابقاً على تكوين المركز الاتحادي الفيدرالي ، والذي قامت بإنشائه الدويلات أو الولايات وتنازلت له عن جزء من سلطاتها، وليس العكس كما يحدث في النظام شبه الفيدرالي. ففي الحالة الثانية يقوم المركز بتفويض جزء من سلطاته للولايات مع الاحتفاظ بحق السيادة والسيطرة. فاذا كان المقصود هو النمط الأول لانه يتوافق مع أهداف الوحدة الطوعية و يوفر للولايات استقلالية أكبر من المركز ، ففى هذه الحالة لابد من انفصال مؤقت حتى ترتب الولايات أوضاعها السيادية قبل الدخول فى اتحاد فيدرالى. فكيف سيتم ترتيب هذه الفترة الحرجة؟ أما اذا كان المقصود بالوحدة الجاذبة انشاء نظامين سياسيين -علماني واسلامي- في دولة واحدة فهنالك كثير من الأسئلة تحتاج الى أجوبة شافية قبل الاستفتاء ، هل المراد هو انشاء مركزين سياسيين متساويين في القوة والسيادة؟ ام المقصود ان يستمر المركز في الخرطوم (والمفترض انه اسلامى) في ممارسة سيادته السابقة على ان يبقى النظام العلماني في الجنوب طرفاً من أطراف الدولة السودانية؟ إذا كان المقصود هوايجاد مركزين متساويين فما هي الجهة السيادية الثالثة التي يجب ان يخضع لها كل من المركزين؟ إذا لم توجد هذه الجهة المحايدة فأى المركزين سيخضع للثاني؟ باعتبار ان الدولة الموحدة لا بد لها من مركز سيادي؟ هل مؤسسة رئاسة الجمهورية الحالية ستكون هي هذه الجهة؟ معنى هذا انها ستكون الحكم والخصم؟ أما الخيار الكونفيدرالى فإنه يطرح ايضاً تحديات من المفروض ان تتم معالجتها قبل الاستفتاء، فالمعروف أن أهم شروط الكونفيدرالية ان تمارس كل دولة سيادتها على أراضيها على أن يتم التنسيق في المصالح المشتركة كالدفاع المشترك و العلاقات الخارجية، هذا يعني ان تكون هناك فترة انتقالية في السودان اذا تم اختيار الكونفيدرالية حتى تكتمل المؤسسات السيادية لكل دويلة او دولة وانشاء مجلس كونفيدرلي أعلى من رؤساء الدول المتحدة، هذه الفترة لابد ان يكون هناك فصل بين الدولتين وهي فترة انتقالية يتم بعدها الاتحاد على أسس جديدة.هذه الفترة فى حاجة الى تنسيق و تدبير. رابعاً: يعتقد بعض من الوحدويين ( المثاليين ) ان الوحدة بالضرورة تعني من حيث المبدأ او من حيث النتائج مساواة مطلقة بين المواطنين في الدولة الموحدة هذه واحدة من أخطر المفاهيم التي يجب محاصرتها وكشف عدم واقعيتها ذلك انها لم تتحقق في اي زمان اومكان فقد عجزت كل المدارس الفكرية المثالية (شيوعية كانت أم ليبرالية أم اسلامية) ان تحقق ولو نسبة معقولة من هذه المساواة المطلقة حتى اصبحت الكلمة مرادفة للمثالية غير الواقعية او»الطوباوية» . حتى لا يعتقد الجنوبيون ،خاصة العلمانيون منهم، ان اية وحده قادمة مهما كانت عادلة حتى لو كانت علمانية انها تستطيع ان تمحو الفوارق بين الناس دينياً وإجتماعياً وسياسياً وثقافياً الخ .. هذا وهم يجب ازالته بكل الطرق الممكنة من اذهان الناس. العكس من ذلك هوالمفروض ان يحدث، فالوحدة العادلة (وقد لا تكون جاذبة فى هذه الحالة لكثير من الخياليين) هي التي تحافظ على الحقوق الأساسية للمختلفين فى الدولة الواحدة. المساواة الحقيقية والمقصودة فى الأدبيات السياسية هي المساواة أمام القضاء وفي الاجراءات القضائية بين الفقير والغني وبين الأبيض والأسود، و فى الفرص للمتساويين فى القدرات(لهذا يجب دائما تحديد مجالات المساواة و لا تترك مطلقة هكذا). اما الوحدة التي تقوم على أساس إلغاء الفوارق الدينية والاجتماعية او القبلية بحيث يتم استبدالها بهوية واحدة مثلاً الدولة او الوطن، فقد انتهت هذه التجارب في مناطق اخرى من العالم(يسميها المحللون بالعالم المتقدم) إلى نتائج عكس ما خطط لها، فقد قاومت التعددية فى هذه المجتمعات حتى تم الاعتراف بها مرة أخرى، و لن يكون السودان استثناء. الوحدة العادلة لا تلغي التعدد الديني أو السياسي او الولاءات الطبيعية أو الثقافية. الوحدة العادلة هي التي تشجع التعبير الايجابي للتعددية دون ان يهدد ذلك كيان الدولة الواحدة وهي تحديات اصبحت عالمية على كل الدول المتقدمة والنامية على السواء ، عليها ان تجابهها وتتعامل معها على المستوى الوطني وعلى مستوى العلاقات الدولية. خامساً :بعض الوحدويين يروجون بأن الوحدة من حيث المبدأ (بدون تمييز) كلها خير وان الانفصال من حيث المبدأ بدون تمييز كله شر، طبعا الواقع في السودان قد كذب الجزء الأول من الإفتراض إذ فشلت الوحدة غير الطوعية في استقرار البلاد وبالتالي بناء الدولة السودانية المستقرة، أما الحديث عن الانفصال بأنه كله شر، فقد اثبتت بعض التجارب العالمية عدم صحة هذا الافتراض. استطاعت بعض الدول ان تعيش بسلام بعد الانفصال كجارتين مسالمتين كما حدث في تشيكوسلوفاكيا وتجربة سلوفانية فى يوغسلافية. إذن العلة ليست في الوحدة او الانفصال انما العلة في اهداف الوحدة أو الانفصال والقدرة على المحافظة على الهدف بعد الوصول اليه.المهم الآن هو تحديد أهداف واضحة للوحدة او الانفصال قبل الذهاب الى صناديق الاستفتاء القادم. سادساً :للخروج من كل هذه الأزمات المتوقعة لابد من انشاء مفوضية قومية خاصة تعني بوضع ميثاق قومي ( متفق عليه قومياً ) لحقوق الإنسان السوداني يطبق في حالة اختيار الوحدة العادلة عن طريق التصويت( للخيارات المذكورة اعلاه) سواء أكانت فيدرالية او نظامين فى دولة واحدة او كونفيدرالية او الانفصال التام او المؤقت . المهم توافر الضمانات القانونية للحقوق سواء أكان فى دولة واحدة او دولتين والقدرة على المحافظة على هذه المكتسبات فيهما. ولهذا فان البلاد فى حاجة الى اعلان ميثاق للحقوق قبل الذهاب الى صناديق الاستفتاء. مهما كان طريق الاصلاح شاقاً و طويلا فإنه بالتأكيد الأفضل بحكم النتائج النهائية، أفضل من الاستمرار في تمكين الباطل في الأرض خوفاً من تحديات التغيير. وكان الله في عون المصلحين فى السودان فإن المهمة بدون شك كبيرة فهى فى حاجة الى تضافر جهود المخلصين و ذوي العزم من الرجال و النساء.