كنت اعرف أني سأكون بين مطرقة وسندان يوم اقدمت على كتابة ذلك المقال.. وكنت أعرف أن المقال حين بدأت اخط كلماته الاولى سيكون منصة لاطلاق اتهامات واتهامات مضادة من الذين هم في صف الجبهة، ومن هم في الصف المعاكس.. فقد ظن أهل الفعل أنني تعرضت للتنظيم بما هو ظالم، إذ وصفته في المقال بالفاسد والمفسد، وأنه لا يختلف عن غيره من القوى التي أرهقت ساحة العمل السياسي بالفشل. بينما ظن أهل الطرف الآخر، أني مشيت بين الناس بالخداع، فسعيت إلى جعل هوية التحرك مبهمة وساعدت على إخفاء الحقيقة لأطول زمان. .... ولكن ما لم أتصوره هو أن يظل المقال موقع تفسير وتأويل خاطئ وتجنٍ غير منصف من كثير من الذين تناولوه بالتعليق والكتابة، واقول كثيراً وأقصد كل ما قرأته، فربما هناك من كتب وكان قوله قول العقل ولم أطلع عليه. وما لم أتصوره هو أن يذهب القول الظن بكثيرين ليقرروا أن كاتبه تآمر بليل، وعقد صفقة مع اصحاب الحركة، أو أن صاحبه بيت النية ليكون جزءاً من منظومة الخدعة التي يعتقد البعض أن مدبري الحركة، دبروا أمرها قبل تنفيذ تحركهم. لا أحتاج بالطبع، بعد هذه السنوات لكي يعرف - من لا يعرفني- أنني لا أتصل بالمتحركين في يونيو بصلة فكر أو تنظيم، سوى التنظيم الأساس الذي كان يضمنا يومها - الجيش - ولا احتاج - لشواهد الزمان الذي مضي ، والمكان الذي أنا فيه اليوم - أن أقول إن كفي لم تمتلئ بذهب المعز، ولا جنت يداي من ثمار الصفقة المزعومة شيئاً. فالقول الذي يجب إذاً هو: فلماذا المقال وما هي دواعيه..؟ وفي ذلك أعيد الذين تتحير افكارهم في المآرب، إلى ما يسميه العارفون ببواطن المهام العسكرية، بالواجبات الاستراتيجية والتكتيكية للوحدة العسكرية، وهي المهام التي يؤتمن على تنفيذها كل من ينتمي لأية وحدة.. وأعيد تذكير القارئ ايضا أن هذا الفقير كان يومها تلزمه البزة الكاكية بواجبات ومهام استراتيجية تخص التوجيه المعنوي، وهي الوحدة الصغرى التي كان ينتمي إليها وقتها. وأشير هنا إلى أن المهمة الاستراتيجية الأولى للتوجيه المعنوى -حسبما ورد في كراسة الواجبات الاستراتيجية للفرع- هي الحفاظ على وحدة القوات المسلحة وتأمين صفوفها من التفتت والتحزب السياسي والطائفي والعرقي. وقد ألزم هذا الواجب قيادة التوجيه المعنوي بإعمال وسائل الإعلام الخاصة بالقوات المسلحة، ووسائل الدولة المتاحة لتعميق الفهم القومي للقوات المسلحة، ووضع الجند في مواضع الإيمان بوحدة القوات المسلحة وازلية التماسك وخطل الانشطار والانشقاق، ثم فوق ذلك وقبله، بتقديم النصح للقيادة بما يهيئ وحدة الجيش وتماسكه. وقد ظل هذا الفقير ملتزما بتلك المسئوليات-ومنها نصح القيادة- ومتمسكاً بها ليست باعتبارها واجبا سطرته الكراسة الاستراتيجية، بل بإيمان صادق بأن القوى العسكرية- بعد تجربة الستة عشر عاما- ليس لها إلا أن تكون مظلة الرعاية والتأمين للوطن، بل وأن تكون-كما نادى الدستور الذي حكم الوطن يومها- حامية وراعية للحكم الديمقراطي. تلك عشرون قد مضت منذ المقال الذي صدر في يوليو 1989 وكثيرون من الذين تناولوا المقال انطبعت في ذهنهم العبارة الرئيسة-ربما لجرسها وجرأتها- (وقد كانت كذلك يومها)، وانزلق من أعينهم- ومن ذاكرتهم فيما بعد- سدى المقال. فقد جاء المقال في إطار حوار حقيقي- دار بيني وبين صحافي مصري كبير بعثت به أخبار اليوم يومها، وربما من فوق أخبار اليوم- لتلمس حقيقة التغيير في الخرطوم، ولما كان الصحافي المصري وثيق الصلة بشخصي، فقد التقى بي وتحدث معي مطولاً عن الجديد وملامحه المبهمة. فكان المقال مستنداً على الحوار مع الصحافي المصري، مضافاً إليه من معطيات الخيال الصحفي ما استكمل أهداف الكاتب الملتزمة بالواجب الاستراتيجي. كان الصف العسكري يومها على وشك الانشطار، فأحداث رمضان الحزينة كانت رياحها وغيومها قد بدأت في التشكل في أفق الوطن منذ تلك الأيام، وكانت قوائم المخرجين من الجيش أوالمنتظرين إخراجهم تترى، وقد ادلهم أفق الجيش بما هو آت.. وقد فتحت يومها الكراسة الاستراتيجية واستلهمت مسئولياتي من بطن بندها الأول.. فلم يكن المقال كما ظن رماة التهم الجزاف- خدعة لأحد.. ولم يكن السؤال كما ظن قراء السطح - سؤالاً أستفهامياً، يتطلع إلى النفي أو الإيجاب.. كان السؤال سؤالاً بلاغياً، يستهدف مناقشة القضية الأساس برمتها.. وكان طرف النقاش المستهدف هم أصحاب الفعل.. كان المقال، دعوةً..ورجاءً ألا يكون للجيش ميل.. كان المقال.. تذكيراً بما ينبغي ان يكون عليه الحال، وأملاً في أن يظل الجند جنداً ملتزمين بشعب، ومتجاوزين لكل حزب.. كان المقال.. هو المقال اللسان.. ودلوني على من كان في مثل موقعي.. ولا يسعى بلسانه..