عندما كتبت عن إحساسي بالصدمة والحزن عند لقائي بسودانية شابة تعمل عاملة نظافة في حمامات السيدات بمطار دبي، كتب إلي أحد الاصدقاء يعاتبني على ذلك، واستطرد في الدفاع عن السيدات السودانيات اللاتي تدفعهن ظروف المعيشة القاسية والإلتزامات الأسرية، إلى مزاولة المهن الهامشية لسد تلك الإحتياجات، وليس في ذلك عيب طالما أنهن يأكلن من عرق جبينهن عن طريق العمل الشريف.. من المؤكد أن الصديق (المتحفز) قد جانبه الصواب في فهم تناولي للواقعة .. مسك كلامي من النص و(قدّ)، فتناولي للحادثة كان في سياق عمل السودانيات في الخارج أو بتحديد أكثر (بناتنا) في الخارج، وربطت الموضوع بمخافة وقوعهن في مطب ظروف الغربة القاسية التي قد تقودهن لشراك الرذيلة وبالتالي تجبرهن على العودة (مكشوشات جوا) كما حدث للبعض منهن للاسف، أما العمل الشريف في بلدنا هنا بكل مسمياته .. يدوي، هامشي، جانبي، أو بيع وشراء في سوق الله أكبر، ف على العين والراس ولا نملك سوى رفع تحية التعظيم سلام لمن يزاولنه، فكم من أرملة غادرها الزوج للدار الآخرة مخلفا خلفه (كوم لحم) لم يترك لهم في الدنيا من مال ولا طين، فعكفت عليهم تعولهم وتربيهم من عرق جبينها، وكم من صاج عواسة أو طعمية، ماكينة خياطة، أو كانون وكفتيرة شاي، قاموا بتربية ابناء تخرجوا من الجامعات ليقوموا بدورهم في إراحة أمهم ومواصلة المشوار بفهم أهلنا الطيبين (يكبروا الصغار ويزيلوا الغبار).. لا أملك نفسي من الشعور بالقلق والرفض للاغتراب المجهجه لبناتنا لأنهن سفيراتنا في الخارج، ومجرد حادثة واحدة مشينة من إحداهن قد تترك من الصدى والصيت السيئ لدى الآخرين، ما لا يزيله إنضباط آلاف من الأخريات اللاتي شكّل سلوكهن المشرف وسمعتهن الناصعة صيتنا الحسن عبر السنوات.. بالمقابل هذا لا يعني أن نحجر سفر بناتنا للخارج فلا بأس في ذلك، ولكن يجب أن يسبقه التخطيط والرؤية الواضحة لمألات الأمور .. فمثلا عندما كنت في زيارة لسوق (شيبرد بوش) وهو سوق شعبي للعرب والهنود شبيه بالسوق الشعبي عندينا، بمدينة لندن عندما زرناها لدواعي العلاج في انتظار توطينه بالداخل.. ما علينا، فأثناء تجوالي في السوق سمعت صوت يناديني بفرحة .. إلتفت لأجد طالبة من طالباتي كنت قد درّستها في كلية العلوم بإحدى الجامعات العريقة .. حيتني بفرحة وسعدت بلقائها فقد كانت من بناتي المتفوقات المميزات وتخرجت بتقدير ممتاز، أخبرتني كما لاحظت أنا بنفسي أنها تعمل بائعة في أحد المحال التجارية الصغيرة في هذا السوق .. لم أستنكف حينها ذلك فقد علمت منها أنها جاءت للدراسات العليا وتقيم مع شقيقتها المتزوجة، وتستفيد من وقتها في العمل حتى توفر مصاريف دراستها .. طبعا هذا الوضع يدعو للإحترام والتقدير فرغم أن البيع في المحلات التجارية قد لا يقره ويرضاه الكثيرون لبناتنا، إلا أن الرؤية الوضحة والتخطيط السليم ينفي الحرج.. هذا يقودنا لحقيقة أن الجميع (نواعم علي خواشن) لا يستنكفون عن مزاولة العمل البسيط أو اليدوي في أوربا والغرب، ف الشباب الذين قد يرفضون العمل دلعا وحنكشة في الداخل، لا يترددون في ممارسة أعمال النظافة وغسل الصحون في الخارج على طريقة (بابا بغسل العدة) دون أي عقد أو فيونكات، وما ذاك إلا للنظرة الإيجابية هنالك للأمور فلا أحد يحتقرك أو يقيّمك حسب مهنتك. والشاهد على ذلك اننا قد التقينا بعدها بسوداني يعمل عامل نظافة في سوبر ماركت دخلناه للتسوق.. لم يستح من مقابلتنا، ولم نشعر نحن بالضيق أو الحرج، فقد أقبل إلينا هاشا باشا فرحا بلقاء أهله السودانيين، وسعدنا نحن بنفس القدر بلقاء (بلدياتنا) في البلد الطيرو عجمي .. تطايبنا ثم تعارفنا وغادرناه وفي قلوبنا شيء من محنة وحنين للبلد نقله إلينا بسرعة عدوى (الزكمة)!! في النهاية تعالوا لنتفق أن العمل الشريف أيا كان نوعه هو ضالة المسلم ذكراً كان أو أنثى في الداخل أو الخارج فقد غنت غناياتنا -لا فض فوهن - للشغل: آآآي ده الشغل .. ده الشغل!! طبعاً لم يكن المقصود (الشغل) الذي تكلمنا عنه ولكن كما يقولون (يغني المغني وكل حد على هواه)!!