دعيت للاشتراك في احد برامج ال (بي بي سي) العربية (تلفزيون) وكانت على الطرف الآخر الاستاذة اسماء الحسيني الخبيرة المصرية في القضايا السودانية . قلت ان التقرير ممتاز لكن ترجمة العنوان جنت عليه فهو ليس عن «تحذير دولي من تجدد الحرب الاهلية في السودان» بل عن حالة الجنوب السوداني من كل النواحي . يرسم التقرير صورة قائمة تدعو للقلق وتبرر العنوان: (RESCUING THE PEACE IN SOUTHERN SUDAN) اختار محررو ال « بي بي سي» عنواناً عربياً جذاباً ولافتاً للانظار على حساب المحتوى . ورغم ان التقرير ينتهي بالتفاؤل بأن العزيمة السياسية والمساندة الدولية يمكن ان تنقذ الجنوب إلا ان ما ورد من رصد لحقيقة الموقف يستلزم وقفة نلوم فيها هذه المنظمات لأنها صمتت وعتمت على هذه المعلومات حتى اليوم. جاء بالتقرير ان عدد القتلى الجنوبيين بلغ (2500) الفين وخمسمائة في العام الماضي اي اكثر الضحايا من دارفور . وقد شردت نزاعات الجنوب (350.000) (ثلاثمائة وخمسين ألفاً) من ديارهم. انتقد التقرير سياسة التنمية بالجنوب وقال بالحرف:« لم تتمكن حكومة جنوب السودان من توجيه اهتمام وكامل كافٍ للتنمية» فالامية منتشرة بنسبة تكاد تبلغ التسعين بالمائة من النساء ولا تتوافر مياه شرب نقية إلا لاقل من نصف الجنوبيين ونسبة الوفاة عند الحمل وتعقيداته من اعلى النسب في العالم. اما عن الامن فأن التقرير يسمى الاشياء باسمائها الحقيقية فيقول ان مقدرات الشرطة في الجنوب متدنية للغاية لان معظم العاملين من الاميين الامر الذي يضطر الجيش الشعبي للتدخل وهو بدوره يمر بمرحلة انتقالية من حركة تمرد الى جيش نظامي محترف. ادى ذلك الى حالة غريبة تجمع فيها الاسلحة من المواطنين لكنها لا تظل في ايدي السلطة بل تجد طريقها مرة اخرى الى الشارع. لذا فأن المواطن لا يطمئن لان قوات السلطة الحكومية ستحميه. وفوق ذلك فان الجيش الشعبي لتحرير السودان نفسه بحاجة الى تدريب وتوعية تشمل حقوق الانسان. يلجأ التقرير الى التلميح في بعض الفقرات فيقول عن النواحي المالية ان حكومة جنوب السودان يتعين عليها - بمساعدة دولية - ان تزيد من اجراءات المراجعة والمحاسبة المالية وتحسين ادارة الموارد الهائلة وتوجيهها نحو التنمية (واللبيب بالاشارة يفهم)! لا تسلم الجماعة الدولية من اللوم في التقرير اذ يضرب التقرير مثلاً صارخاً هو ان الصندوق المشترك لاعمار الجنوب الذي رصدت له موازنة قدرها (524) مليون دولار لم ينفق خلال خمس سنوات اي مبلغ يذكر للخدمات الصحية بالجنوب . يدير الصندوق البنك الدولي. يؤمر التقرير كل الموقف سياسياً فيقول ان الجنوب لا يحتاج لاغاثة عاجلة فحسب بل لخطة متعددة المسارات تشمل التنمية وتقدم للمواطن ثمرات السلام ونتائج ملموسة لاتفاقية السلام الشامل. ويحذر التقرير ايضاً من المسائل العالقة التي ينبغي حسمها قبل الاستفتاء بصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء. كما يذكر الانتخابات المقبلة واهمية اكتسابها لصدقية. خلا التقرير من مسألة ذات صلة بالتنمية وهي ان (40%) (اربعين بالمائة)من الموازنة في الجنوب رصدت للسلاح . كما خلا من رصد اهم الجوانب الايجابية وهو ان الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني يتحاوران ويتفاوضان وان العزيمة السياسية موجودة لتنفيذ ما تبقى من اتفاقية السلام الشامل لأن العودة الى الحرب خيار غير مطروح. ينشر هذا التقرير في وقت بدأ فيه الجدل حول الاستفتاء يتصاعد. ومن مصلحة الجنوب والسودان كله ان يترجم التقرير ويوزع لكي يتبين للناس الحقائق التي لم يسلط عليها ضوء كافٍ حتى اليوم، صفوة القول ان (البي بي سي) قدمت لمشاهديها تقريراً عن الوضع الحالي في جنوب السودان لكنها اختارت له عنواناً براقاً قليل الصلة بالمحتوى.