يا د. كامل إدريس: ليست هذه مهمتك، وما هكذا تُبنى حكومات الإنقاذ الوطني    بحث علمي محايد    عضو المجلس السيادي د.نوارة أبو محمد محمد طاهر تلتقي رئيس الوزراء    "وثائقي" صادم يكشف تورط الجيش في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين (فيديو)    السودان.. وفد يصل استاد الهلال في أمدرمان    الجيش السوداني يعلّق على الهجوم الكبير    اللواء الركن (م) أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: التقديم الالكتروني (الموحّد) للتشكيل الوزاري    "الكنابي": تهجير المواطنين بإزالة السكن العشوائي في الجزيرة والخرطوم تطور خطير    السودان.. كامل إدريس يعلن عن 22 وزارة    هل ستتأثر مصر في حال ضرب المفاعلات النووية؟    إيران تغرق إسرائيل بالصواريخ من الشمال إلى الجنوب    كامل إدريس وبيع "الحبال بلا بقر"    إنريكي: بوتافوجو يستحق الفوز بسبب ما فعله    "كاف" يعلن عن موعد جديد لانطلاق بطولتي دوري أبطال إفريقيا وكأس الاتحاد الإفريقي    عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



North Sudan: Mother by Proxy of South Sudan بقلم عبد المنعم محمد اسحق

الحكمة تقول لا تبدأ حربا قبل ان تكون متأكدا بشكل تام من إمكانياتك لتقبل نتائجها التي لا رجعة عنها . دولة الجنوب أوقفت ضخ نفطها باختيارها دون ان تعمل على إيجاد البديل ودون ان تدرس السيناريوهات المحتملة من تلك الخطوة وتلك كانت غلطة، قامت على قاعدة يتبناها قادة حركة الشعبية تحرير السودان مفادها أن " عمل كل ما يمكن ان يضر بالشمال مقدم على ما ينفع الجنوب " على طريقة "جب نفسك عشان تغيظ زوجتك" !!.
حاولت جوبا بعد ذلك تدارك الخطأ و التصدي لمسار الهلاك الذى كانت تسير بوقف ضخ نفطها بخطأ اكبر واخطر باحتلال منطقة هجليج النفطية السودانية ولم تضع فى حساباتها إمكانية ان تسحق قواتها كما جرى بالفعل ، أو أن تظهر أمام العالم والمنظمات الإقليمية الدولية بمظهر الدولة المعتدية، وهو مالم تعترف به حتى الآن حيث ادعت بعد هزيمتها أنها انسحبت استجابة لطلب الأصدقاء رغم ان الكوماندر سلفا " نافخ الكير " كان قد تبجح بعد احتلاله لهجليج بتطاوله على الأمين العالم للأمم المتحدة عندما طلب منه سحب قواته من هجليج بالرد عليه بانه لا يعمل تحت امرته ، وان هجليج منطقة كانت تتبع قديما للجنوب وقد اعيدت إليه بالقوة.
حاولت دولة جنوب السودان فى البداية ان تخوض حربا بالوكالة ضد الشمال عبر حركة تحرير السودان قطاع الشمال لتحقيق أهداف تكتيكية تهدف للي ذراع حكومة الخرطوم ، ولكنها لم تطق صبرا فتورطت قوات جنوب السودان بشكل سافر فى المعارك الدائرة . نتيجة تلك السياسات المتخبطة لقادة الحركة كانت كارثية حيث نشطت حركات تمرد قبلية كامنة فى الجنوب وبدأت تتحرك بشكل اقوى بعد ان تم سحق قوات جيش الجنوب والبيادق الشمالية التى يلعب بها .
المعلومات الاستخباراتية التي قد تكون حكومة الجنوب قد حصلت عليها من عدة اطرف داخلية أو خارجية ربما كانت جزء من نظرية مؤامرة لإسقاط الحكومة فى الخرطوم. حكومة جوبا وحكومة الخرطوم تعتقد كل منهما ان الأخرى على وشك السقوط ويمكن ان تحقق ذلك بالضغط علي الأخرى اقتصاديا وبدعم حركات التمرد الداخلية . ولكن المفارقة تتمثل فى ان تدخل كل طرف فى شئون الطرف الثاني يؤدى إلى تعزيز موقف الطرف الآخر داخليا . أو قد يستخدم من قبل كل طرف لتعزيز موقفه داخليا وحشد الدعم الشعبي حوله . جنوب السودان قد يكون بدا الهجوم المبيت مع سبق الإصرار والترصد فى هجليج لعدة أسباب من أهمها صرف الأنظار عن فشل الطغمة الحاكمة فى الجنوب بإثارة الكراهية ضد " الجلابة" فى الشمال . ولكن تلك المحاولة اتسمت بقصر النظر حيث أثبتت التجارب العديدة فى شمال السودان ان اى شبهة تدخل خارجي تدفع كافة فئات الشعب - إلا من أبَى - بكل أطيافه السياسية والدينية والأيدولوجية والعرقية إلى الالتفات حول الجيش والحكومة ، وذلك تصرف تلقائي يهدف للتصدي للسقوط فى هوة انهيار الدولة والدخول إلى نفق مظلم كما حدث فى الصومال .
الكل يدرك أهمية المعلومات الاستخبارية البشرية التي تتعلق بالمجتمع وسلوكه وميوله واتجاهاته وعادة ما تستخدم تلك المعلومات والتي لا يسهل الحصول عليها لخداع طرف ما و لأسباب ما، ويكفى ان أمريكا ( التي تدعى أنها تعلم الجهر وما اخفى) كانت قد صدقت بسذاجة خدعة المعارضة العراقية فى المنفى والتي صورت لها قبل غزو العراق بان قواتها الغازية سوف تستقبل بالورود، ولكننا رأينا كيف تم استقبالهم حتى بعد الإطاحة بصدام ! ويكفى أن علماء الاجتماع هم أول من تكهن بإرهاصات ثورات الربيع العربي وليس أجهزة الاستخبارات.
وربما تكون تلك الجهة التي زودت حكومة جوبا بالمعلومات المغلوطة عن الوضع فى السودان قد تعمدت التضليل لكى يهزم الجنوب لأنه كلما سقط الجنوب كلما ضعف و عانى وتشرذم ، و كلما اعتمد بشكل اكبر على تلك الجهات كإسرائيل وغيرها . كما ان هناك مساعي أمريكية حثيثة لإخراج الصين من أفريقيا القارة العذراء والتي ترى الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات ان ثرواتها هي حكر لأمريكا بعد أن تم القضاء على نفوذ بريطانيا وفرنسا بشكل كبير فيها مما أدى لخلق فراغ تحرك التنين الصيني بهدوء ودهاء ليتمدد فيه . ويمكن رؤية مدى نفوذ وتدخل الصين فى أفريقيا - ذلك النفوذ الذى لا تميل لاستخدامه إلا عند الضرورة القصوى - عندما ننظر إلى اقوى دولة فى قارة أفريقيا ، جمهورية جنوب أفريقيا حين رفضت منح تأشيرة زيارة للدالاي لاما فى أكتوبر عام 2011 لان الصين أصبحت من اهم الشركاء التجاريين لجنوب أفريقيا.
الوصفة الخائبة التي اعتمدتها جوبا لحل مشاكلها كانت محاولة غير موفقة للهروب إلى الأمام من الصراعات الداخلية والقبلية و السياسية ومن الاستحقاقات التنموية والاقتصادية والاجتماعية ومن مواجهة تلك المشاكل بشجاعة ووفق رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
الوصفة الأسهل لقادة الحركة الشعبية للتهرب من كل ذلك كان لا يتطلب الكثير للهرب من المشاكل الداخلية باللجوء إلى إثارة الجنوبيين وإلهائهم عما يحدث فى الداخل من فساد واستغلال نفوذ وقبلية وتشرذم بإثارة الخوف من "بُعبع الجلابة" الذين يريدون " قتل نحل الجنوب وسرقة عسله " كما قال احدهم فى القناة الفضائية التابعة لجنوب السودان .
لقد كان من المفترض ان تبدأ حكومة جنوب السودان الدولة الريعية (Rentier State ) الجديدة التي تعتمد بنسبة كاملة على النفط بالتركيز على الواقع الداخلي ولكن يبدو ان الوقع الداخلي المضطرب وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية لدى قادة الحركة غير المؤهلين لقيادة مرحلة ما بعد الانفصال أو الاستقلال كان اكبر من قدرات وتصورات قيادات ليس لها مؤهلات سوى القيام بشن هجمات حرب عصابات.
كما كان يفترض ان تنتقل السلطة فى الجنوب من العسكريين ذوى التفكير التكتيكي المحدود والذى ينحصر فى شن هجمات عسكرية إلى تكنوقراط وعقول جنوبية مستنيرة تنظر إلى المستقبل لاستشراف آفاق التنمية وإقامة علاقات جوار مع الشمال الذى لايزال يتحكم فى شرايين حياة الجنوب برغم الانفصال السياسي . ويحضرني هنا أن أشير أيضا إلى حكمة الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا عندما تولى القيادة فى جنوب أفريقيا حيث تجنب بحكمته كافة الشراك المدمرة و المهلكة التي نصبتها المخابرات البريطانية و التي كانت تتآمر لإثارة حرب قبلية بين حركة إنكاثا التي تتألف من قبائل الزولو وحزب المؤتمر الأفريقي فى حالة انجرار مانديلا للانتقام لنفسه و سعيه لتصفية الحسابات السابقة مع بقايا البوير و البريطانيين المستوطنين فى جنوب أفريقيا . لكن مانديلا كان ابعد نظرا و اكثر حصافة و أوسع أفقا فرأ ى مالم يره القادة فى دولة جنوب السودان الوليدة !! ان مستقبل الأمم و الشعوب يجب ألا يُنظر إليه من خلال فوهة بندقية الانتقام وتصفية الحسابات الشخصية الضيقة .
الجنوب ادخل نفسه فى ورطة كبيرة بعد ان قام بلف حبل المشنقة حول عنقه بوقف تصدير نفطه معتقدا بان ذلك يمكن ان يسقط الحكومة فى الخرطوم . ان دولة جنوب السودان الريعية الجديدة التي تعانى من الفساد والصراعات القبيلة والتوجه الأوتوقراطي ، شأنها فى ذلك شان الدول الريعية الأخرى التي لا تعتمد على الشعب فى عائداتها ولايحاسبها الشعب لأنه غير ممثل فيها و لا يدفع ضرائب بل يعتمد على عائدات النفط و لا يمكنه ان يحاسب الحكومة التي تقوم بإعالته دون اى جهد من جانبه !!.
الغرب المشغول حاليا بأزماته الاقتصادية الخانقة معروف بانحيازه إلى دولة الجنوب المدللة لأسباب كثيرة على راسها هوس الخرطوم بمعاداة إسرائيل واليهود الذين يعلم العالم مدى قوة حبالهم وأحابيلهم ، ففي ذروة أزمة هجليج اُعلن عن قبول جوبا فى عضوية البنك الدولي . نعم لقد كانت جنوب السودان قد طلبت العضوية منذ فترة ، ولكن توقيت الإعلان عن منح تلك العضوية جاء برغم موقف جوبا العدواني السافر وتحديات وتبجحات سلفا كير بشان هيجليج ، وقد أظهر ذلك وكأن الغرب يطمئن الجنوب ويكافئه على احتلال هجليج .
إسرائيل والغرب ساعدا جنوب السودان على تحقيق رغبته فى الانفصال كما ساعد الغرب بدرجة كبيرة انفصال تيمور الشرقية من إندونيسيا فى مايو 2002 بسبب النفط والغاز و هيمنة كنيسة الرومان الكاثوليك ولكن منذئذ نسى العالم تيمور الشرقية برغم الضجة العالمية الكبيرة عن ثروات تلك المنطقة الهائلة فى ذلك الوقت، وارجح ان ذلك هو ما سيحدث لجنوب السودان بعد ان ينقشع الغبار الذى يحجب الرؤية الحقيقية حاليا، لان لا احد يستطيع ان يمد حبال الصبر طويلا لمساعدة من لا يريد ان يساعد نفسه !!
الاعتراف بالخطأ هو بداية السير فى الطريق الصحيح ، غير إن الإصرار على الخطأ واجترار المغالطات يعنى أن الجنوب لم يع الدرس بعد وانه سيواصل السير فى سياسة حافة الخطر ليتحول من دولة ناشئة فاشلة إلى دولة منهارة تعانى من الحروب الأهلية القبلية الداخلية وعندئذ لن تجد من ينقذها أو يساعدها لأنها لم تساعد نفسها وسيكون لذلك أيضا تأثيره علي شمال السودان بسبب تدفق اللاجئين الجنوبيين مرة أخرى وعدم استقرار الحدود وغيره إن لم نضع استراتيجية لكافة السيناريوهات المحتملة لما يمكن ان يحدث فى دولة الجنوب .
ان اغلب المشاكل التي يعانى منها السودان حاليا تعزى الى قصور الرؤية الاستراتيجية لدى قادة البلاد منذ الاستقلال والذين انخرطوا فى صراعات سلطوية وحلول جزئية منذ اكثر من نصف قرن . كان يفترض منح الجنوبيين حق تقرير المصير منذ البداية ، ولكن يبدو أن حكاية اكبر دولة فى إفريقيا من حيث المساحة كانت مثار عجب بالنسبة لقادتنا الذين كانوا عاطفيين ولم يكونوا براغماتيين بما يكفى على ما يبدو ، إضافة إلى إننا كنا نخوض حروب بالوكالة عن دولة أخرى فيما يتعلق بمياه النيل .
كان الأمر واضحا منذ البداية كنا نطلق على ما يحدث فى الجنوب عبارة تمرد Rebellion بينما كانوا يصفونها فى الجنوب بانها حرب تحرير Liberation وكما شعرنا عندما طالبنا بالاستقلال من مصر بأننا مختلفون ، فان الجنوبيين كانوا أيضا يشعرون انهم مختلفون ، ولهم الحق فى ذلك، ولكن الفرق هو أننا لم نعادى مصر بعد الاستقلال بل مكناهم من إغراق مدن النوبة فى شمال الشمال وتخزين مياههم فى داخل الأراضي السودانية !!.
لقد كانت الحرب الطويلة والمتقطعة فى الجنوب بمثابة غرغرينا فى جسد السودان انتقلت إلى أماكن أخرى من ذلك الجسد المتمدد المنهك وهددته بالتفكك . لذا فقد كان بتر ذلك الجزء – بإصرار من ذلك الجزء نفسه - ضرورة لكى يتعافى الجانبان ، الجزء المنفصل و بقية الجسد على حد سواء ، ولكن يبدو أن مرض الجزء المنفصل غير قابل للشفاء.
لقد أخطأت حكومة الخرطوم فى عدم حسم قضايا الانفصال قبل ان تقع وربما أسهمت بعض الأطراف الشمالية السودانية و التي تم استُغلالها من قبل الجنوبيين والتي كانت تتطلع إلى سودان جديد فى ذلك بقصد أو من دون قصد. اعتقد بان حكومة الخرطوم منذ ان جاءت إلى السلطة كانت جادة فى حسم قضية الجنوب وتلبية رغبة الجنوبيين بالانفصال لتنفرد بحكم السودان، ولكنها ظلت رغم ذلك ولمدة طويلة تخفى تحت السجاد ما كان يجب التخلص منه بكنسه بعيدا أولا بأول .
إن اسلوب التصميم على حل كافة القضايا دفعة واحدة أو لا حل هو اسلوب فيه جلد للذات وقد ثبت فشله فى العديد من القضايا فى كافة أنحاء العالم . الأسلوب الأمثل هو ان نأخذ ما نستطيع وما هو متاح حاليا وفق الظروف السائدة دون ان نغلق باب المطالبة ببقية حقوقنا كاملة ، فالعالم يتغير و الأوضاع تتغير والموازيين تتغير و لا يمكن ان تظل الأمور على ماهي عليه إلى الأبد لذا يجب ان نبدأ أولا بحلحلة اشد القضايا إلحاحا وهى تامين الجبهة الداخلية وتعزيز الأمن و دعم القوات المسلحة كما يجب ألا ننسى القوة الناعمة والتي تتمثل فى إعلام مهني فعال داخليا وخارجيا قبل ان نتحرك نحو الخارج . القوة الناعمة والتي يُعتبر الإعلام من أقوى أدواتها هي التي يسيطر بها اليهود على العالم حاليا " وجعلناكم اكثر نفيرا " والنفير فى هذا العصر هو الإعلام. وقد تكشف مؤخرا عن مدى سيطرة قطب الإعلام اليهودي روبرت ميردوخ على الساسة والساحة السياسية فى بريطانيا من وراء الستار.
القوة وحدها لها حدود فأمريكا نفسها لم تستطيع بكل قوتها وجبروتها هزيمة مجموعة من الثوار الأفغان والعراقيين وقبلهم الفيتناميين ولكن الحوار والدبلوماسية المدعومة بالقوة هي التي تؤدى إلى نتيجة.
نجا ح حملة الحكومة فى هجليج مرتبط بصمود الشعب وبوقوفه خلف الجيش لان تفكك الجيش فى اى بلد يعنى تفكك الدولة .. ان استمرار صمت الشعب كان سيعنى وقوع البلاد فى حمامات دم ، وسيكون الضحايا هم الشعب نفسه وأبناؤه ، أي إنه كان سيدفع الثمن من أبنائه ومن حاضره ومستقبله . ففي حالة عدم الحسم واستمرار القلاقل والشائعات والمناورات والمؤامرات سينهار الاقتصاد وستستشرى المجاعات والكوارث الاقتصادية وينعدم الأمن ، و تتجهز البلاد لحروب أهلية وحمامات دم . ان كسر حاجز الخوف والذل والاستكانة ووقوف الشعب بشكل حاسم مع الجيش أدى إلى تقصير أمد المعاناة وحسم الغزو الجنوبي فى وقت قصير .
الكلمة كانت للشعب وعندما تصبح الكلمة للشعب تتقزم الأنظمة وعندها لن يستطيع العالم اى يقول اى شيء لان الكلمة كانت للشعب . لم تكن القضية قضية نفط بل قضية كرامة اُنتهكت بجنازير الدبابات ولم يكن من الممكن إلا أن تستعاد عبر فوهات مدافع الدبابات. نحن نعرفهم من مبدأ Know Thine Enemy لكننا لا نخشاهم و لا نستخف بهم. لقد استعدنا أرضنا ولكننا لم ننتقم بعد بتدمير منشأتهم النفطية فى الجنوب بنفس الطريقة التي دمروا بها منشآت النفط والطاقة فى هجليج ...... هذه المرة لم ندمر منشاتهم النفطية وذلك لاعتبارات تتعلق بعلاقات الخرطوم ببكين و لكن لن تسلم الجرة فى كل مرة ، وما أسهل القيام بالمعاملة بالمثل فنحن لا نؤمن بمقولة من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر ، مع من يجهل ويتكبر ، بل بمقولة " ألا يجهلن احدٌ علينا فنجهلَ فوقَ جهل الجاهلينا "!! لأنه كما قال احدنا " تعرضنا للظلم وفسر سكوتنا بانه ضعف ولو سكتنا أكثر من كده ما معروف يطلعوا وين ؟؟ .
اعتقد بان جنوب السودان زُرع على عجل من قبل بريطانيا لكى ينمو فى رحم السودان وليس فى رحم أوغندا أو كينيا لنصبح ( Mother by Proxy) . ولمعرفة الأسباب فان ذلك يحتاج إلى دراسة متخصصة فى الوثائق البريطانية القديمة . ذلك الجنين الذى زرع فى رحم السودان ظل مغلقا ومعزولا بسبب سياسات بريطانية أشبه بالسياسات التي مارسها البيض فى جنوب إفريقيا و التي عرفت بسياسة الفصل العنصري Apartheid والتي كانت فى ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب حيث كان ظاهر سياسة الفصل العنصري هو ما عرف بسياسة policy the separate development. وقد أدت تلك السياسة لقيام الجنوبيين لاحقا بارتكاب أول عملية تطهير عرقي فى إفريقيا عام 1955 قبل استقلال السودان عندما قام الجنوبيون بذبح المدنيين الشماليين فى الجنوب . الجنوب يزخر بالعنصرية والكراهية ليس فقط ضد "الجلابة" بل ضد بعضهم البعض ، ولكن العداء للشمال كان يستخدم دوما لصرف الأنظار عن أجواء الاستعلاء و الكراهية المتبادلة بين القبائل الجنوبية !!.
المهم فى الأمر الآن هو أن الدوائر الغربية تنصب مصيدة للسودان عبر الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي . يجب ألا نعطيهم الفرصة وان نعمل على توسيع قاعدة الحكومة الحالية بضم كافة الأحزاب ذات الوزن فى السودان إلى حين إجراء انتخابات جديدة لكى نتمكن من إدارة الأزمة على طاولة المفاوضات وتحت طاولة المفاوضات وان نلعب بكل الأوراق المتاحة لنا . القضية الرئيسية للغرب حاليا هي انه يريد انقاذ الجنوب بسرعة بالتوصل إلى حل يعيد ضخ نفط الجنوب عبر الشمال مع الإبقاء على الملفات الأخرى كما هي عليه . السودان يجب أن يدرك انه ليس لديه الكثير ليخسره بتهديده بفرض عقوبات جديدة ، ففتح الأنبوب لتصدير نفط الجنوب عبر الشمال يجب أن يلى حل كافة القضايا الأمنية والحدودية و بشكل نهائي وكامل ، و إلا فيجب أن يبحث الغرب عن مكان آخر يصدر منه جنوب السودان نفطه والى أن يتم ذلك فى غضون سنتين أو ثلاث فسوف تجرى مياه كثيرة تحت الجسر فى جنوب السودان وفى المنطقة وفى العالم وستكون كفيلة بان تحدث الكثير من التغييرات. وعلى الشمال أن يعد العدة لعملية عض أصابع مؤلمة وان يصبر " إن تكونوا تألمون فأنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون ".
السودان مر بظروف اكثر صعوبة وقسوة وكان أكثر ضعفا مما هو عليه الآن، حيث كان محاصرا بأنظمة معادية - سرا أو جهرا- ابتداء من نظام مبارك إلى القذافي إلى كينيا و أوغندا و أثيوبيا وأريتريا. و لكنه تجاوز كل ذلك بفضل وعى الجبهة الداخلية التي تتحزب للسودان فقط عند الشدائد. حزب الحكومة ليس هو السودان ، كما ان السودان ليس هو حزب الحكومة والا لما استولوا على السلطة بانقلاب عسكري. الجبهة الداخلية هي الأساس ولم يحدث اى اختراق لقلب الأراضي السودانية إلا بأحصنة طروادة سودانية لذا يجب سد كافة الفجوات بداية بتدعيم قدرات الجيش العسكرية للدفاع عن البلاد و العمل على وضع آليه ثابتة لتداول حقيقي للسلطة بإجراء انتخابات ديموقراطية نزيهة و اطلاق الحريات الصحفية ، فالسودان اكبر من الجميع ويسع الجميع ويجب عدم اختزاله فى طائفة دينية أو جماعة عرقية أو سياسية ، فالدين لله و الوطن للجميع و لا يجب ان يستأثر اى طرف ا وان يحتكر السلطة لأنها قابلة للإدمان ، و الإدمان يؤدى لفساد البشر وإفسادهم ، حتى ولو كانوا من الصالحين فى ظل انعدام الحرية والشفافية والمحاسبة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.