تقرير: عادل حسون ربما لا يحبذ أحد استمرار القوى المعارضة بداخل الحدود في ذات التنسيقية التي تضمها، تحالف قوى الإجماع الوطني، سوى الحزب الأكثر تمسكا بالصيغة الموجودة لجبهة المعارضة المدنية العاملة على إسقاط النظام، المؤتمر الشعبي. بوسعنا تعداد حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وقد نحيا جانبا من ذلك الهدف، إذ أن الأخير لا يعمل لإسقاط النظام لأنه متشارك معه في السلطة درءا لخطر تمزق السودان وضياعه إلى الأبد، بينما الأول يسعى لتغييره فقط طوعا أو جبرا وذلك من شفقة على مآل البلاد إلى الهاوية المدمرة كلياً. وحده "الشعبي" من يعمل من مظلة "الإجماع" للإطاحة بغريمه "الوطني". من الأصوات المنفردة أخيرا الدعوة التي أطلقها الكاتب والمحامي كمال الجزولي. إن الشاعر الأديب والباحث والصحافي، يدعو لتطوير العمل المعارض الذي يراه حيا بينما الجبهة القائدة له هي التي ماتت وشبعت موتاً. ألقى في تصريح خاص ليومية "إلكترونية" حجرا في "بركة" الساحة السياسية وقد بدت مرشحة لهياج مياهها موجا من وراءه موج بالتهديد المتبادل بين الحكومة والمعارضة في معركة المائة يوم القادمة والمحددة لإسقاط النظام. الكاتب والناشط الحقوقي وأمين اتحاد الكتاب السودانيين الأستاذ كمال الجزولي، يلقي مزيداً من الضوء على أطروحته التي أثارت الكثير من اللغط مؤخراً. لقد تولى شرح ما طرحه في ندوة "الحل الرشيد" بقاعة "طيبة برس" بالسبت 8 يونيو في تصريحه ل"سودانايل". فما طرح هو نفس ما سبق أن طرحه في ملتقى "حق" – حركة القوى الديمقراطية الجديدة- بمشاركة بعض قادة الإجماع- تحالف المعارضة المكون من الأمة القومي والمؤتمر الشعبي والأحزاب اليسارية- كالسيد الصادق والأستاذة هالة عبد الحليم وإبراهيم الشيخ وعبد العزيز خالد وجمال إدريس وآخرين. الطرح المتجدد أن المعارضة "موقف سياسي وفكري وحركي لمعظم القوى السياسية لا يمكن أن تموت"، لكن "الإجماع الوطني" كشكل لتحالف أحزاب هذه المعارضة هو الذي شبع موتاً. التبرير لذلك قد يبدو قريبا إلى الأذهان. فالتحركات الجماهيرية ضد غلاء الأسعار قبل عام من الآن المبتدرة من شباب الجامعات خذلّت من قبل الأحزاب المعارضة. نذكر السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي الراحل الأستاذ محمد إبراهيم نقد، عند تلبيته لموعد التظاهر المتفق عليه بين "المعارضين" بميدان "أبو جنزير" وسط الخرطوم فتفاجئه الكبير لغياب الجميع والمعبر عنه بذكاء استعارة "عادة" سودانية مرعية لالكتابة بالفحم عبارة "حضرنا ولم نجدكم". من مفكرة اليسار الشيوعي يستدل الجزولي على موت "تحالف المعارضة" بالشقاقات والشتائم والإهانات التي تكاد تسم علاقة مفردات هذا التحالف ببعضها البعض، وربما ليس آخرها وصف المهدي، زعيم أكبر هذه القوى، لحلفائه بأنهم "طرور وكرور .. الخ"، وكذلك "تخوين" الآخرين للمهدي، واتهامهم له بالتقارب مع النظام من خلف ظهرهم. ربما لا يتفق مع ذلك التحليل اليساري الشبيه بالاحتجاج المتأدب لنقد على خذلان رفاقه المعارضين، الحلفاء الآخرين وقد أعلنوا، عزمهم على العمل بجدية خلال أشهر قليلة على إسقاط النظام بتحريك الناس الممتلئة حنقا من فساد وفشل وعجز النخب الحاكمة. من مفكرة "البادية" يستعير الأستاذ الجزولي، الوصف المناسب لواقع الشتائم والشقاق والإهانات المتبادلة بين قوى المعارضة مع الإدعاء في ذات الوقت أن كل شئ يمضي على ما يرام، فيفسر كل ذلك في حقيقته بكونه "حراق روح" ينتاب جميع مفردات "الإجماع" جراء إصرارهم على الاستمرار في البقاء في تحالف لم يعد مناسباً كمنصة توحد حراكاتهم ومشروعاتهم المعارضة. وإلى ذلك يصف الجزولي ذلك بأنه يشبه سلوك "أدروب الولوف" كما في الطرفة الشعبية المشهورة. الأستاذ الجزولي لا يترك الآخرين في مشغلة التفكير عن العمل. فيطرح مكملا فكرته من شرطي الوجود والعدم، فيمضي موضحا أن للتحالفات جدليتها الخاصة، فكل تحالف هو كيان مؤقت يوجد لينتهي، وليس زواجاً كاثوليكياً، أما المحك فهو مدى القدرة على التقاط اللحظة التاريخية الصائبة لقيامه، واللحظة التاريخية الصائبة لانتهائه، والخطأ كل الخطأ في الغفلة عن أي من هتين اللحظتين. ما عازته الأسانيد التاريخية عن العمل المعارض المختار في نجاح موعد بدءه ولحظة فضه. فالأول وفق الجزولي، من النموذج الإيجابي المتمثل في فض التحالف الذي كان قائماً عام 1960 1961م، "في قصد إلى الجبهة الوطنية بعضوية الاتحادي والأمة ضد الحكم العسكري بقيادة الجنرال عبود" مما هيأ لتبلور تحالفات أخرى أكثر ملائمة باتجاه ثورة أكتوبر 1964م. أما الثاني فهو النموذج السلبي المتمثل في استمرار الإبقاء على شكل تحالف "التجمع الوطني الديمقراطي" لفترة طويلة، رغم أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنه مات وشبع موتاً". من المدهش أن الناشط والكاتب د. كمال الجزولي وضع اقتراحا مشابها في تفرده قبل اجراء الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان. كان قد دعا إلى "اتحاد كونفيدرالي" بين السودانين الشمالي والجنوبي عاصمته مدينة أبيى المتنازع عليها يدرأ الحرب المتوقعة بينهما ويحقق الوحدة الشعبية بين السودانيين جميعهم. لقد اهمل طرح الجزولي في تلك المرة ولم يؤبه له. الواقع الذي صار ماضيا قريبا كشف عن عدم حكمة في ذلك التجاهل. فالحرب باتت قريبة والوحدة المرجوة صارت أبعد من السابق بكثير. إن كمال الجزولي، ويعرّف بخلفيته الشيوعية، يقف موقفا جديدا على موقف حزبه المفترض ولا يزال متمسكا بتحالف "الإجماع الوطني" كمنصة لتجميع العمل الجبهوي ضد النظام الفاشل في الحكم. ولذا فإنه يسوق بمعزل عن ذلك الانتماء المقيد للتفكير مقررا أن أحد وجوه الأزمة في بلادنا اليوم إنما يتمثل في "تحالف الإجماع" هذا، حيث أصبحنا نحتاج إلى قرار شجاع بفضه، والبحث عن تحالفات أخرى تستجيب لمقتضيات التغيير، واتجاهات مزاج الجماهير، وعند ذاك فقط نستطيع أن نأمل في استعادة الثقة بجدوى إمكانية الحل السياسي. فمن الخطأ وفقا للجزلي القول بأن مزاج الجماهير منعقد حول "تحالف الإجماع" وما ينادي به من حل سياسي، في الوقت الذي نلاحظ فيه تزايد الاهتمام الشعبي بجبهة الحل المسلح أردنا أم لم نرد. من المبكر الحكم على فرضية كمال الجزولي، السابقة، لكن بالإمكان استحضار نقده للوثيقة التي أعدها في العاصمة الأوغندية كمبالا أنصار العمل المسلح والمسمى بميثاق "الفجر الجديد". لقد عاب المفكر اليساري كمال الجزولي ركاكة الصياغة وضعف الحجة المطروحة في الميثاق حول إعادة هيكلة المؤسسات الرئيسية القضاء والجيش والخدمة المدنية بفرض النجاح في إسقاط النظام. إن الجزولي قدم لرؤية متأنية وليس جريا على تخليط الأمنيات بالوقائع المجردة. لقد اكتسب وجاهة الطرح وموضوعيته حينما لاحظ الخلط المريب لأصحاب الوثيقة الداعية لفجر جديد ووطن لا يعرف "الإنقاذ" حيال قضية "الدين والدولة". فلئن اتفق المعارضون بما في ذلك الحركة الشعبية طيلة سنوات الإنقاذ على دولة مدنية محايدة تجاه الأديان بالفصل الكلي للدين عن النظام السياسي، جاء هؤلاء ببدعة "العلمانية" الصرحاء حلا لتلك القضية المستديمة. بوسع الحاكمين تجاهل "الطرح الرشيد" لكمال الجزولي. قد ينجح الفكر الجديد على الساحة في تغيير واقع التحالف المعارض بإقتناع هؤلاء رجحان الدعوة لتجاوز الصيغة التي ماتت. الأستاذ كمال قال قولته للحاضر من قلب التاريخ على ما بدا وفيما يبدو ما كان منشغلا من أي الوجهتين ستتقبل فكرته. لكن مضيع الفرص هو من سيندم على نهاية الرواق.