[email protected] في مثل هذا اليوم التاسع من يوليو من العام 2011 أعلن رسميا عن انفصال جنوب السودان عن شماله مكونا دولته المستقلة بعد حروب دامية استمرت لعشرات السنين ، وفي أعقاب استفتاء شعبي صوت خلاله شعب الجنوب للاستقلال بنسبة تجاوزت التسعين في المئة ، ووسط حشود جماهيرية غفيرة وحضور دولي وأممي مكثف طغى عليه المشهد الأفريقي و الغربي وغاب عن المسرح التمثيل العربي إلا في حدود وتواضع حجم اصطف قادة الدول و الرؤساء بجانب رئيس الدولة الجديدة سلفاكير ميارديت وعزفت الموسيقى السلام الجمهوري السوداني لآخر مرة ، كما عزفت السلام الوطني للدولة الوليدة وانزل علم السودان الموحد من فوق سارية الجنوب ، وارتفع علم دولة جنوب السودان وتم إطلاق 21 طلقة من المدفعية ، وشهد الحضور بساحة مقبرة مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل جون قرنق عرضا عسكريا استعرضت من خلاله دولة الجنوب امكانياتها العسكرية وقدراتها القتالية ، واستمرت احتفالات شعب الجنوب بدولته الجديدة عدة أيام شاهدها ملايين البشر حول العالم من خلال النقل الحي للفضائيات للحدث الذي شاركت فيه وفود مثلت عددا من الأحزاب و المنظمات الشبابية الأفريقية . هكذا ستدور عجلة التاريخ عقودا من الزمن لتحكي الآلة الإعلامية للأجيال القادمة سيناريوهات الاحتفاء بانشطار السودان ، وخيبة أمل السودانيين و فشلهم في المحافظة على دولتهم واحدة موحدة ، حينها لن ترحم تلك الأجيال المتسببين في هذا الجرح السوداني الذي سيظل ينزف إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولن تستثن تلك الأجيال أحدا سواء الموقعين على اتفاقية ( نيفاشا ) التي قادت إلى هذا المصير المحتوم أو المتفرجين عليها من قادة الأحزاب التي تدعي المعرضة و الذين أدعوا عدم إشراكهم في تقرير مصير وحدة السودان و لم ينالوا شرف المشاركة في تشريح الجسد السوداني الهزيل بسبب الحروب و الصراعات و المكايدات السياسية ، أو أولئك الذين وقفوا على قارعة الطريق ينظرون بسلبية متناهية وغير مبررة لما ستسفر عنه الفترة الانتقالية التي دامت ست سنوات ولم تنجز الوحدة الجاذبة التي اتضح أنها كانت خدعة كبرى لتمرير مخطط الانفصال الذي بات نافذا وواضحا لكل صاحب بصيرة منذ توقيع اتفاقية ( نيفاشا ) في العام 2005 والتي نصت صراحة على حق تقرير المصير للجنوبيين . و قدمت حكومة الشمال على طبق من ذهب هدية الانفصال لشعب الجنوب وتركت الكرة في ملعبه ليقرر بعد طول عناء مع الحروب و التهميش فماذا يتوقع أن يكون قراره ؟ ، وتبرعت حكومة المؤتمر الوطني نيابة عن أهل السودان قاطبة بإمكانية التخلي عن جزء عزيز من الوطن مقابل وعود أمريكية وغربية زائفة لم تجن ثمارها حتى الآن ، حيث لم يتم رفع أسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ولا يزال الحظر الاقتصادي قائما و لم تعمل الولاياتالمتحدةالأمريكية على حث مؤسسات التمويل العالمية للتعامل مع السودان ، ولم تجتهد في تمكين السودان من الانخراط من جديد في المجتمع الدولي ورفع القيود المفروضة عليه . ولكن في المقابل أغدقت الولاياتالمتحدة عطاياها للجنوب ، ولم تدخر أمريكيا وحلفاؤها وسعا في سبيل توطيد أركان الدولة الجديدة ، و تنتظر منذ وقت طويل مثل هذا اليوم لتبدأ في تنفيذ خططها الموضوعة مسبقا لحشد الدعم المادي و التأييد السياسي لدولة جنوب السودان . ولن يرحم التاريخ الذين فرطوا في وحدة السودان من القائمين على الأمر و المتنفذين في الحكم ، ولا الذين تقاعسوا عن أداء مهامهم وواجباتهم الوطنية من أحزاب وكيانات ومنظمات مجتمع مدني ، ماذا فعلوا جميعا لإفشال مخطط تقسيم السودان ؟ ماذا فعل قادة الأحزاب السياسية خاصة التي توسم زورها وبهتانا بالمعارضة وجماهيرها التي تدعي أنها تغطي عين الشمس؟ هل عبرت منظمات المجتمع المدني عن رفضها لهذا المخطط الذي استهدف وحدة السودان ونسيجه الاجتماعي وتراثه الثقافي وتميزه الاثني و العرقي ؟ كيف كان رد فعل الشارع السوداني العريض صانع الثورات و الانتفاضات الشعبية العارمة ؟ هل خرج عن بكرة أبيه ليقول لا للانفصال ويقف في وجه مروجي الفتنة العنصرية البغيضة ويرد كيد الفئة القليلة التي حملت لواء البغض و الكراهية ؟ بالطبع كل هذا لم يحدث لذلك فاليتحمل الجميع مسؤوليتهم في ذهاب الوطن كله أو بعضه وإن اختلفت المسؤولية بحسب الموقع ومكانته من قلب الحدث . نعم اليوم تم الإعلان رسميا عن الدولة رقم 193 في الأممالمتحدة ، واحتفل السمار الذين جاءوا من كل صوب وحدب ليضعوا بصمتهم على مستقبل دولة جنوب السودان منذ البداية ، وشربوا نخب التآمر على الوطن الذي كان يعتبر قبل اليوم قارة بكل المقاييس ، ورقصوا على أشلائه الممزقة وجراحة التي لا تزال تنزف في أبيي و جنوب كرد فان و النيل الأزرق ، ابتهجوا عندما أسدل الستار عن الخريطة الجديدة للدولتين و التي بدا فيها السودان الشمالي مبتورا بفعل فاعل لم يحسن البتر لذلك جاءت مشوهة ، هنئوا بعضهم بعضا بنجاح مخططهم الذي نسأل الله أن لا يكون بداية للمزيد من التقسيم و التجزئة . في الواقع و الجغرافيا أنفصل الجنوب عن الشمال وأصبحت هناك دولتان لكل منهما دستورها وحكومتها وجيشها وغيرها من المقومات ، ولكن هناك إرث إنساني وثقافي و تراثي لم يقبل القسمة على أثنين ، واستعصى على واضعي أجندة وبروتوكولات الانفصال ومهندسي قسمة الثروة و السلطة ، وسيبقى هذا الرباط النبيل الذي امتد لعقود من الزمن ممسكا بعرى التواصل الاجتماعي و الإنساني و الثقافي بين شعب الدولتين ، وسيظل الشماليون و الجنوبيون شعبا واحدا في دولتين افترضتهما ضرورة المصالح الضيقة و العصبيات الزائفة . و لدعاة الفرقة و الشتات و الذين يعتقدون أن المشاكل بين الشمال و الجنوب ستحل جميعها بعد الانفصال نقول لهم بغير ذلك ، حيث لا تزال العديد من القضايا الجوهرية معلقة وستكون خميرة عكننة متى ما دعت الظروف و المصالح لذلك . ولأولئك الذين يعولون كثيرا على نتائج مفاوضات أديس أبابا الأخيرة بين المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية وتوقيعهما للاتفاق الإطاري الذي نص على تدابير معينة لمعالجة المسائل المتعلقة بولايتي جنوب كر دفان و النيل الأزرق نقول أيضا إن ذلك جاء في اللحظات الأخيرة قبل الإعلان عن قيام دولة الجنوب للحد من تأثير صدمة الانفصال على الشعب السوداني وذر الرماد في العيون لتخطي هذه المحنة واللحظة التاريخية الحرجة التي يمر بها السودان ، وإعطاء الأمل بأن أبواب التواصل ما زالت مفتوحة وقد يحدث اختراق في العلاقات بين الشريكين في أي لحظة ، و بالرغم من الانتقادات الحادة التي جوبه بها الاتفاق الإطاري من قبل قيادات نافذة في المؤتمر الوطني إلا أن مثل هذه الحيل و الحبكات لم تعد تنطوي على أحد . لا شك أن من حق الجنوبيين أن يقرروا مصيرهم ، وفي ذات الوقت من حق الوطن علينا جميعا في الشمال و الجنوب أن نصون وحدته ونحمي ترابه ونعزز مكانته ، ويجئ انفصال الجنوب وتجزئة السودان في هذا الظرف على غير هدى و لا يتوافق مع حركة التاريخ ، و يسبح عكس التيار لأننا نعيش في وقت تتوحد فيه الأمم و الشعوب ، وتنشط التكتلات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، وتقوى التجمعات الأممية لمواجهة تحديات القرن الحادي و العشرين وما أكثرها ، حيث جلها تتعلق بمستقبل الإنسان وحقه في الحياة و العيش الكريم ، كما أن من شأن هذه الخطوة غير محسوبة العواقب أن تفتح شهية الحركات الانفصالية في ولايات السودان الأخرى وتؤدي للمزيد من التجزئة و التقسيم حمانا الله .