لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيديولوجيا الدين (515-): مفهوم أسلمة المعرفة في واقع التجربة العَمليَّة .. بقلم: د. عثمان عابدين عثمان
نشر في سودانيل يوم 23 - 03 - 2018


أسلمة التربية والتعليم في دولة مايزيا
تأسست 'الجامعة الإسلامية الدولية‘ في كوالا لامبور، ماليزيا، عام 1984 كنتيجة للمداولات والقرارات التي صدرت في أعقاب المؤتمر الأول حول التربية الإسلامية؛ المنعقد في مدينة مكة في عام 1977 [1]. بعد ذلك تم إنشاء 'كلية معرفة الوحي الإسلامي والعلوم الإنسانية‘ والتي فيها تكون كل العلوم الإسلامية إلزامية، بالإضافة إلى موضوع تخصص إختياري من العلوم الغير- إسلامية التي قسمت إلى مواد 'دراسات إنسانية‘ ومواد 'علمية بحته‘. الدراسات الإنسانية أعتبرت معاول وأدوات معرفية لفهم "توعك الأمة الإسلامية" وإنجرافها خلف عالم الوهم والخرافات والدجل، بالإضافة إلى قادرتها إلي الولوج إلي لب العقل الغربي لفهم تحيز ثقافته وتناقضها مع الإسلام . أما الحجج لتبرير قبول المعرفة العلمية - الغربية فكان بدعوي تحقيق تطلعات الإصلاح المعرفي الإسلامي وتشجيع وتسهيل عملية تفاعل الأمة الإسلامية مع منجزات حضارة المجتمعات الحديثة.
في كتابها "الثنائية التعليمية في ماليزيا: الآثار المترتبة على النظرية والممارسة"، إنتقدت بروفيسور روزناني هاشم، الباحثة الإسلامية، الإزدواجية المتناقضة للتعليم الماليزي في إشارة إلى تزامن تطبيق المسارين العلماني والديني. في مجمله، هدف الكتاب إلى تبرير إلغاء كل المكونات الغربية والعلمانية في منهج التربية والتعليم وطرح منهج بديل يرمي إلي أسلمة شاملة للمعارف. وفي ذلك، إقترحت تأسيس نظام تعليمي إسلامي قائم على تعريف واضح لطبيعة المعرفة. في وجهة نظرها، المعرفة توجد حالة علاقة ترابط تعزيز ثنائي مع روح وجسد الإنسان، حيث تزود 'معرفة الوحي‘ (فرض العين) الحاجات 'الروحية‘ للفرد, وتزود 'معرفة الدنيا‘- المعرفة المكتسبة (فرض الكفاية) حاجاته 'المادية‘ والفكرية [2].
لأشك إن محاولة بروفيسور هاشم لتأسيس نظام تعليمي إسلامي يستند إلى تعريف واضح لطبيعة المعرفة مكنها، فيما رأت هي وقدرت، من تحديد شكل العلاقة بين الإيمان والعقل، وتوضيح المنشأ العقائدي وأهمية تناسق المثل والقيم الروحية مع الحاجات المادية للمجتمعات الإسلامية. لشرح وجهة نظرها، ماثلت بروفيسور هاشم تصورها للعلاقة بين الإسلام والمجتمع بعملية تحليق الطائرة الورقية، وقالت في ذلك "...حيث يمثل الخيط 'الإيمان‘ الذي يربط المجتمع بالطائرة الورقية التي تمثل 'العقل‘. في أثناء تحليق الطائرة الورقية دائما ما يكون هناك توترا بين الطائرة الورقية (العقل) والخيط (الإيمان). في حالة وجود توتر عالي بين الخيط والطائرة الورقية ينقطع الخيط، وينتج من ذلك تحَلّيِق الطائرة الورقية من دون وجهة محددة في الفضاء العريض". بهذا الفهم، وبهكذا تماثل، وإذا كان للعقل أن يصل للحقيقية، في رؤية بروفيسور هاشم، علية أن يكون متناغماً ومنسجماً مع إيمانه وعقيدته، وإلا فإنه سيبقى يحلق في سحب عدم اليقين؛ تكتنفه الحيرة، ويضل طريقه في جنبات الكون الفسيح [3].
في تبريرها لإلغاء المسار التعليمي العلماني، رأت بروفيسور هاشم تناقض المعتقدات والقيم المكتسبة من التعليم الغربي والعلماني مع العقيدة الإسلامية. على المدى الطويل، تنبأت دكتور هاشم بتبني أطفال المسلمين لقيم غريبة على أرواحهم وأجسادهم. وذهبت أبعد من ذلك لتلقي اللوم علي نفوذ التعليم الغربي- الليبرالي في عجز مناهج التربية والتعليم الماليزية في التمييز المعرفي علي أساس الجنس وتجاهله للحاجات النوعية التي تعتمد علي نوع المتلقي. قالت في ذلك: "لو كان القرآن والسنة نقطة مرجعية لدينا، لكان تم تأكيد وإبراز وضع المرأة ودورها في إطار المناهج الدراسية؛ شأنها في ذلك شأن الأدوار المتعلقة بالذكر مثل قيامه بدور حمايةً المرأة ومسئوليته كعائل للأسرة." في ورقتها "أسلمة المناهج" لخصت بروفيسور هاشم آرائها على النحو التالي: "آمالنا تكمن في أسلمة المعرفة المعاصرة والمناهج الدراسية، وفي نهاية المطاف نظام التربية والتعليم برمته، والذي سيؤدي إلى صعود شخصية الإنسان المسلم، والذي بدوره سيواصل عملية الأسلمة " [4].
هكذا، وبإستبطان مفهوم شمول معرفة الدين وتهميش دور العقل، وبمفارقة تضاد منطقي واضحه، تتجاهل، أو تسقط مقاربة أسلمة المعرفة العلوم المستقاة من الوجود المادي 'البحت. "فأسلمة المعرفة بهذا المفهوم تعني فكّ الارتباط بين الإنجاز العلمي الحضاري البشري والإحالات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن ناظم منهجي ومعرفي إلهي، قائمٍ على الوحي، وغير وضعي. هذا معناه أسلمة العلوم التّطبيقية والقواعد العلمية بفهم التّماثل بين سنن هذه العلوم وقوانينها، وسنن الوجود وقوانينه، وتوجيه هذه العلوم الوجهة الإسلامية وتوظيفها لتحقيق المقاصد الإلهية". هكذا قارب د. سعيد عبيدي مصطلح أسلمة المعرفة في مقاله "أسلمة المعرفة: المفهوم والمشروع." وأضاف العبيدي بقوله: "فأسلمة المعرفة إذن عملية مقصودة لتوجيه المعرفة بعمومها؛ فكرًا وسلوكًا ونظرًا وتطبيقًا، في ضوء معارف الوحي؛ قرآنًا وسنةً، والاجتهاد في نصوصه بما تقتضيه النّظرة الإلهية للإنسان والسّنن والنّواميس، بحيث توثّق منه مصادر المعرفة وسبل الحصول عليها، أوّلًا؛ وتفسّر فيه الظواهر المتعلّقة بالإنسان والنّفس والكون، ثانيًا؛ لتوظّف المعرفة الناتجة بما يحقّق للمسلم عبوديته المطلقة لله، ومهمة استخلافه للأرض وعمارتها؛ ثالثًا، ولتقدّم الإنسانية المعاصرة مشروعًا حضاريًّا جديدًا لحلّ معضلاتها الفكرية والعقدية والاجتماعية والأخلاقية المستعصيّة، رابعًا." [5].
وفيما سبق يبدو واضحاً أن ألأنساق الفكرية لمشروع النهضة الإسلامي ترى أنّ المعرفة الغربية تتعمد التفريق بين المعارف المستقاة من الوحي والمعارف المستقاة من الوجود وتستند إلي قراءة أحادية تستبعد قراءة الوحي التي بدونها لا يتكامل فهم الوجود والكون. فأسلمة المعرفة بهذا المفهوم تعني إعادة تعريف وتوظيف المعرفة العلمانية ضمن ناظم معرفة قائمٍ على وحي النص المقدس بغرض تحقيق المقاصد الإلهية. ولذلك، للأسباب المتعلقة بطبيعة الدين والعقيدة المذكورة أعلاه، ولأسباب أُخري دنيوية متعلقة بواقع التطبيق العملي، فشل منظري فلسفة الأسلمة في إيجاد المبررات اللاهوتية للتعامل مع الحقائق العلمية المجردة التي تتناقض مع معرفة الإيمان واليقين؛ يحتوي جوهرها علي خصال الريبة وعدم الثبوت، ويستوجب البحث عن طبيعتها الطرح الدائم لأسئلة وجودية تتعلق بأصل الكون ومبدأ الخلق.
نأخذ لصالح بروفيسور هاشم محاولة تأسيسها لمعرفة إسلامية مبنية علي تعريف واضح ومحدد لطبيعة المعرفة والعلم، وذلك بخلاف معاصريها د. سيد محمد نقيب العطاس و د. إسماعيل راجي الفاروقي. ولكنها ذهبت فيما ذهبا إليه في إلقاء كل اللوم، أو بعضه، في قصور الفكر وتخلف المجتمعات الإسلامية على طبيعة المعرفة في الحضارة الغربية. وهنا لنا أن نقول إن إلقاء نائحة اللوم في قصور معرفة الذات علي فعل وثقافة الأخر، يمثل إعترافاً ضمني بأوجه التشابه والتداخل بين منهجي المعرفة المتقابلين؛ موضع المقارنة والتحليل . بالإضافة إلي أن تعليق عوامل القصور والفشل الذاتي علي شماعة حق الآخرين المشروع في السعي للمعرفة يزيح النقاب عن التناقض المفاهيمي، ليس فقط في التصور الغير مقصود لقصور إفادة معرفة ألإسلام للحقيقة، ولكن، أيضا، في كيفية مقاربة فهمها وتفسيرها لأوجه التشابه والإختلاف بين منهجين، يعرفهما في الأصل، تناقضهما المفاهيمي والعضوي الذي تأسَّسَ عليه مفهوم أسلمة المعرفة، في أول المقال والمقام.
فشل 'فلسفة فك الإرتباط النهائي‘، في المسار المزدوج، بين المعرفة الغربية - العلمانية والمعرفة الإسلامية ربما يكون تعبيراً عن التناقض العضوي بين مقاربتي المنهج اللاهوتي والعلماني لجوهر وطبيعة المعرفة 'الثابتة‘ في عالم المطلق واللامحدود، و'المتغيرة‘ في عالم المحسوس والمحدود. أما إذا أخذنا برؤية أن المعرفة تكمن في عملية التغيير الإجتماعي، فسيكون من الصعب حبسها في حدود النص السرمدي أو هوامش الوحي في تفسيرها. بالإضافة إلي أن الفشل في تحديد الفواصل والفوارق الواضحة بين تعريف أسلمة المعرفة والمناهج المتبعة في تحقيقها وتطبيقها، وإيجاد التبرير المنطقي للأثر السالب للمعرفة الغربية على عقيدة وفكر الإسلام، من منطلق مفهوم وحدة الكون والوجود، ربما يكون الدليل الفعلي علي وحدة المعرفة في كل الظروف والأحوال، وبينة إستحالة عزلها وتفريقها علي أساس الدين أو الطبيعة الحيوية للإنسان.
الدولة التركية- من الخلافة إلي الحداثة
بنيامين فورتنا، في أطروحته "التعليم في الدولة العثمانية بين القومية والإسلام والغرب"، لخص بدايات عملية الأسلمة التي إنتظمت أركان الإمبراطورية الثمانية في حينها بقوله: "الدولة العثمانية عهدت لنفسها المهمة المتناقضة في محاولة تكييف نمط التعليم الغربي ليتناسب مع الحوجة المعرفية للدولة العثمانية". وأوضح أنه في حين أن الكثير من المناهج الدراسية في المدارس الحكومية العثمانية تأثرت بنظم التعليم الأوروبية، لكن محتواها ظل في حالة تغيير تدريجي نحو الموضوعات والقيم المتعلقة بالإسلام، بالإضافة للتحول التدريجي لتدريسها باللغة العربية [6].
كانت الإمبراطورية العثمانية دولة ثيوقراطية شكل فيها إنفاذ التعاليم الإسلامية وقوانين الشريعة المحور الأساسي لعملية التربية والتعليم. في عشية الإنتقال من عهد الخلافة إلي الحداثة، في عام 1923، كانت هناك ثلاث مجموعات من المؤسسات التعليمية الرئيسية:' المدرسة‘، حيث يحفظ القرآن ويدرس باللغة العربية؛ 'ألإعدادي‘، بداية المرحلة التعليمية؛ أل-' تنظيمات‘ مرحلة التشكل والنضوج المعرفي، والكليات ومدارس الأقليات القائمة علي نظام التعليم الحديث [7].
الخطوات الأولي في التغير المعاكس لتوجه الأسلمة الذي وصفه بنيامين فورتنا أعلاه، بدأت من عقود عدة من داخل مؤسسات أل-تنظيمات ، وذلك من قبل التغيير الثوري - الجذري الذي حدث في عام 1923. وعلى غرار عملية العلمنة في الدول الغربية التي أشعل وقود تغييرها الجزري ها حركة الإصلاح البروتستانتي، كانت حركة الإصلاح في الدولة العثمانية، أيضا، مدفوعة بتزايد المد الشعوبي في مجتمعات الإمبراطورية الشاسعة، الغير متجانسة، والمتعددة الأديان والثقافات. (مفردة 'تنظيمات‘ عنت حرفياً في اللغة التركية ما عنت كلمة 'تنظيم‘ في اللغة العربية. أما المصطلح المفاهيمي لكلمة 'تنظيم‘ فقد قصد به عملية الإصلاح السياسي والإجتماعي الشامل للإمبراطورية العثمانية التي بدأت في عام 1839 وهدفت، في المقام الأول، لإستيعاب التنوع الثقافي والعرقي في المجتمع العثماني، وذلك من خلال التأكيد علي المواطنة المتساوية، وتعزيز مبدأ الحريات والحقوق المدنية في كل أرجاء الإمبراطورية الواسعة)1.
بدأت عملية الإصلاح بإلغاء السلطنة العثمانية في عام 1922، ثم تلاها إعلان الجمهورية التركية في عام 1923، ومن بعد ذلك تم إلغاء مؤسسات السلطة الدينية المتمثلة في 'مؤسسة الخلافة‘ و'وزارة الشؤون الدينية‘. في عام 1928 تم حذف مادة "دين الدولة هو الإسلام" من الدستور وألغيت محاكم الشريعة الإسلامية. تبع ذلك تعليق الدروس الدينية في المدارس الحكومية وتبني اللغة التركية، بدلاً عن العربية، في الطقوس والشعائر الدينية. ومن ضمن عملية التغيير، تصور أتاتورك أن التحول إلي الكتابة باللغة التركية سيكون بمثابة حل لمشكلة الأمية. في عام 1928 تم الانتهاء من عملية إستبدال وإحلال كتابة اللغة التركية بالأبجدية اللاتينية بدلاً عن العربية.
الجدير بالذكر أن طبيعة أوجه القصور والفشل في إستيعاب التنوع الديني والثقافي في نفس عين ' تنظيمات‘ الدولة الإسلامية قادت إلى طفرة الجيل المتطلع إلى الديمقراطية والحرية - النواة الأولي للتغيير. أما الدافع الأساسي والمحرك لأتاتورك تَمَثَّل في تخليص تركيا من ما سمَّاهُ ' مشكلة الخرافة والجهل‘. في خطابه " كاستامونو"، في عام 1925، قال أتاتورك: " في مواجهة المعرفة والعلوم وإشعاع الحضارات، لا يمكنني أن أقبل في المجتمع التركي المتحضر أناس من البدائية بمكان حيث يبحثون عن المنافع المادية والروحية عند الدراويش ورجال الدين. السعي من أجل الخير هو من سمة من سمات الحضارة وأتمني أن يفهم الشيوخ والدراويش حقيقة كلماتي هذه ويقومون بإغلاق تَكَاياهُم و زواياهم ، وإدراك أن طرق وأساليب الحصول علي المعرفة قد تجاوزت زمنهم وأساليبهم." (التَكِيَّة أوالزاوية في اللغة التركية تعني 'مدرسة دينية إسلامية‘ وهي تقابل مفهوم 'المدرسة الرسمية‘ في اللغة العربية)2.
"الكمالية" مفهوم يحمل صفة ألإسم الأوسط لمصطفى 'كمال‘ أتاتورك ، وهي المصطلح الذي يمثل الإطار النظري و الفلسفي الذي علي ضوءه تم تأسيس الجمهورية التركية وقد تضمن برنامج ألإصلاحات السياسية والإجتماعية والثقافية الشاملة التي ستقود، في نهاية المطاف، إلى إقامة دولة حديثة، علي النمط الغربي، في أثر تفكيك و إزالة الإمبراطورية العثمانية الإسلامية. الموقف من العلم والمعرفة بشكل عام، والتدخل الأيديولوجي المباشر للدولة في إدارة دفة التغيير السياسي والثقافي هو ما جعل الكمالية نهجا للتغيير الجزري نحو الحداثة والعلمنة على نقيض نهج عملية الإنتقال البطيء والمتدرج التي تمت في الدول الغربية. (مصطفى كمال أتاتورك: ضابط في الجيش التركي؛ مؤسس جمهورية تركيا الحديثة، وأول رئيس لها في عام ،1923 حتى وفاته في عام 1938)3. [8].
مصطلح لييسيسم في اللغة التركية الحديثة يقابله مفهوم لايسيتي في اللغة الفرنسية، وهو مصطلح مستعار من مفاهيم إصلاحات ما بعد- الثورة الفرنسية، والذي مثَّل أحد الأركان السّتّ الأساسية "للأيديولوجية الكمالية"، وجد عندنا التفضيل والإهتمام لصلته المباشرة بموضوع المقال الذي يَسْتَکْشف أصول المعرفة في فِکر أيدلوجيا الدين - الإسلامي منها في هذه الحالة. في حدود موطنه الفرنسي، مثل مصطلح لايسيتي السياسة الرسمية التي تحظر تدخل الدين في شؤون الدولة وعرَّف الإطار الدستوري العام الذي من خلاله يمكن توفير حياد الدولة الضروري تجاه الأديان والتنوع العرقي والثقافي. علي الرغم من إتبعاع حركة التغيير الكمالية للنمط الفرنسي للحياد الديني، فقد تم تفسيره، من بعص المراقبين والمحللين، علي انه يعبر عن العقيدة 'اللاأدرية السلبية‘ التي تقر بإستحالة معرفة وجود، أو عدم وجود الإله، في حين رأى الكماليون على انه يهدف إلي تعزيز إستقلال مؤسسات الدولة من الهيمنة الدينية، وفي نفس الوقت، يوفر الحماية للأديان من إنتهاكات الدولة المستبدة. (المعنى الحرفي لمفردة 'عدمي‘ هو 'اللا شيء‘، ومع ذلك، فهي تشير إلى العقيدة التي تفتقر إلى الإيمان في جانب من جوانب الحياة. وقد تعني أيضا، في بعض الأحيان، بعدم إمكانية المعرفة وإستحالة إدراك الوقع الفعلي)5. [8].
بعد إلغاء دولة الخلافة العثمانية الدينية، في عام 1923، تأسست الجمهورية التركية على إطار علماني ديمقراطي. ومن المفارقات أنه قد يبدو أن إلغاء نظام اجتماعي، سياسي، لاهوتي، على نظرة علمانية شاملة يجسد النهج المتطرف لفكرة قيام الدولة الحديثة التي تتسم بالتغيير المتدرج الذي يتماشى مع عملية التغيير المحكوم بعامل الزمان والمكان اللذان يعرفان مراحل الإتساق والإنتقال الإجتماعي إلي الجديد والمختلف. علي كل حال، وبنظرة عامة، نعتقد أن تجربة إنهاء دولة الخلافة العثمانية برؤى ومعاول علمانية، مثلت، في تقديرنا، إنعكاساً عملي لأزمة إنتاج المعرفة وعملية التأقلم مع المتغيرات الإجتماعية والسياسية في مؤسسات دولة السلطة الدينية. وبنظرة مقارنة مع التقدم المعرفي والمادي بين الدول التي تتبني نظم التعليم العلماني والدول التي تتبني نظم التعليم التي تخلط بين العلوم التجريبية و علوم العقيدة والفقه، قد يكون واضحاً للذهن، الترابط العلائقي بين الضمور المعرفي في لمؤسسات الدولة الدينية - المحافظة، من ناحية، وإزدهاره في مؤسسات الدولة الديمقراطية - المتحررة، من الناحية ألأخري.
أما إذا نظرنا لعملية علمنة المعرفة في الدولة التركية الحديثة، كجزء من عملية التحول الكلي، من نظام شمولي ثيوقراطي إلي نظام ديمقراطي علماني، وجب أن لا يفوت علينا عملية الترابط والتعزيز المتبادل بين مفهوم الديمقراطية والعلمانية، علي مستوي التحول السياسي، ومفهوم الفصل بين الدين والدولة علي مستوي السلطة والنفوذ الإجتماعي، من لناحية الأخري. وبنفس المقاربة، يمكننا أن نلاحظ انه في الوقت الذي فيه سعت عملية العلمنة في الدول الغربية والإمبراطورية العثمانية للتحرر من قبضة سلطان ألدين، هدفت عملية العلمنة، في دولة الهند، إلي عملية التغيير السياسي والإجتماعي التي يمكنها من فهم وإستيعاب ومعالجة التباين والتنوع الثقافي والديني، اكثر من كونها فعل مناهض للأديان، أوقصد مباشر لفصل الدين عن الدولة. أفانيش ماوريا، في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه المعنونة: "فهم العلمانية الغربية والهندية: منظور تاريخي"، خلصت إلي أن "لا يزال مفهوم العلمانية في الهند موضع خلاف، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي أدت إلي عدم تضمين تعريف محدد لمعناها في الدستور الهندي"، وقالت "بديناميكة مفهوم عملية العلمنة الذي يتغير بتغيير وعي الفرد و المجتمع". وأشارت كذلك للتسامح العقائدي المترسخ في الثقافة الهندية، ومنذ قديم الزمان، تجاه كل الديانات والثقافات، ولكن أقرت بالجدل الدائر حول الإختلاف بين الممارسة العملية لثقافة العلمنة في الغرب والثقافات الهندية [9].
يتبع في أيدلوجيا لدين (6): مفهوم العلمانية والعلمنة - حياة عموم الكلمة في تعسف وشمول الشكل والمعني
المصادر
[1] Muhamad Ali, Hairul Azlan Annuar, Mucahit Bilici, M. Zakyi Ibrahim, "Makkah Conference Report, 1977: Symposium & Panel Report," American Journal of Islamic Social Sciences, vol. 2, no. 1, 2005.
[2] R. Hashim, Educational Dualism in Malaysia: Implications for Theory and Practice, Oxford University Press, 1996.
[3] R. Hashim, Educational Dualism in Malaysia: Implications for Theory and Practice, 2nd ed., Kuala Lumpur: The Other Press Kuala Lumpur, 2004.
[4] R. Hashim, "Islamization of the Curriculum," 28 February 2012. [Online]. Available: https://www.scribd.com/doc/30673775/Islamization-of-the-Curriculum. [Accessed 18 September 2017].
[5] د. س. عبيدي, "أسلمة المعرفة: المفهوم والمشروع," 4 December 2017. [Online]. Available: http://www.culture.gov.jo/sites/default/files/page49.pdf. [Accessed 25 December 2017].
[6] B. C. Fortna, Imperial Classroom: Islam, the State, and Education in the Late Ottoman Empire, Oxford: Oxford University Press, 2002.
[7] E. Ihsanoglu, "Primary Schools Under Ottomans," [Online]. Available: http://muslimheritage.com/article/primary-schools-under-ottomans. [Accessed 4 September 207].
[8] T. Ataöv, "The Principles of Kemalism".
[9] A. Maurya, "Understanding of the Western and Indian Secularism: A Historical Perspective," Newman Publication, vol. 3, no. 3, 2016.
[10] Rosnani Hashim & Imron Rossidy, "Islamization of Knowledge: A Comparative Analysis of the Conceptions of AI-Attas and AI-Fariiqi," Intellectual Discourse, vol. 8, no. I, 2000.
[11] E. Ihsanoglu, Ottoman Educational and Scholarly-Scientific Institutions, vol. II, E. Ihsanoglu, Ed., Istanbul, 2002, pp. 361-512.
[12] Conrad Hackett & Others, "Religion and Education Around the World," 13 Decenber 2016. [Online]. Available: http://www.pewforum.org/2016/12/13/religion-and-education-around-the-world/. [Accessed 15 Seprember 2017].
[13] P. B. Daver, "Secularism In Turkey," [Online]. Available: http://www.atam.gov.tr/dergi/sayi-11/secularism-in-turkey. [Accessed 4 September 2017].
د. عثمان عابدين عثمان
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
www.facebook.com/oosman51/notes?lst


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.