الدرس الذي اخترته لهذا المقال، يوضح أهمية اتخاذ الموقف الصحيح، في مواجهة كل الصعاب والخلافات السياسية، خاصة في بلد مثل وطننا السودان، بكل ما يتميز بع من تنوع وتعدد وتعقيدات. وأن النظر للإطار الاوسع والأكبر هو المنهج الصحيح لاتخاذ الموقف الصائب. نتج عن انتصار ثورة أكتوبر الشعبية (1964) تكوين حكومة سر الختم الخليفة، ونالت جبهة الهيئات (قائدة الثورة) أغلبية المقاعد. تحركت الأحزاب التقليدية، بعد فترة زمنية قصيرة، وضغطت على رئيس الوزراء، لتقديم استقالته. ليتم تكوين حكومة سر الختم الخليفة الثانية بعد ابعاد ممثلي جبهة الهيئات. وأصبحت الأحزاب التقليدية هي صاحبة الأغلبية في الحكومة الجديدة. وبسرعة تم وضع قانون للانتخابات. وسأورد بعض من نقد الحزب الشيوعي لقانون الانتخابات وقراءته للظروف السياسية المعقدة آنذاك، ورغم كل ذلك قرر خوض الانتخابات. الفقرات التي سأعرضها هي جزء من تقرير لجنة الانتخابات المركزية للحزب الشيوعي السوداني (المصدر كتاب انتخابات 1965 على ضوء الأرقام الصادر عن دار الفكر الاشتراكي، 10 يونيو 1965): " كيف دارت المعركة؟ حفلت فترة التسجيل بالكثير من التوتر السياسي، قبل اسقاط حكومة 21 أكتوبر وبعده. وسرت التكهنات حول احتمال تأجيل الانتخابات. وبشكل عام أدت متابعة الأحداث السياسية وخاصة وسط الجماهير المتقدمة، الى عدم الالتفات بالجدية المطلوبة لمعركة التسجيل. أوكل القسم الأعظم من التسجيل للسلطات المحلية، وخاصة سلطات الإدارة الأهلية. وقد أدى ذلك إلى عزوف أعداد غفيرة من الجماهير عنه، لسخطها على تلك الدارات. ما هي أسباب اعراض الجماهير عن الاقتراع؟ ينقسم الذين لم يصوتوا الى نوعين: فهناك المقاطعة المنظمة بقيادة حزب الشعب الديمقراطي. ومع ان الحزب الشيوعي يرى انها غير سليمة (التشديد مني) الا انه يرى فيها جوانب أخرى تستحق الاعتبار. فقد جرت المقاطعة تحت شعارات ثورية ترفض طريق التدخل الأجنبي وتفتيت وحدة البلاد والعودة لأوضاع ما قبل نوفمبر 1958. وهناك نوع آخر امتنع عن التصويت، بدون مقاطعة معبرا أيضا عن سأمه من مهزلة الانتخابات وعن اعتراضه على السير بالبلاد في الطريق القديم. وانخفاض نسبة التصويت يعود أيضا الى العجلة المريبة التي أجريت بها الانتخابات، والطريقة التي أجريت بها، مما جعل أقساما عديدة من الجماهير تشكك في الهيئة المنتخبة وتعزف عن المشاركة في انتخاباتها. لكل هذه الأسباب بلغت نسبة الذين أدلوا بأصواتهم 24 % من جملة الذين يحق لهم التصويت. لقد أوضح الحزب الشيوعي منذ البداية أن اجراء الانتخابات بتلك الطريقة سيؤدي الى قيام هيئة محرومة من السند الجماهيري القوي. ولكن التجمع الرجعي (والذي يضم حزب الامة والجناح الرجعي في الحزب الوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي) رفض كل المقترحات التي تقدم بها الحزب الشيوعي حول مد الفترة الانتقال عامين (من 21 مارس 1965 حتى 31 مارس 1967) بميثاق وطني جديد يكفل استقرار البلاد واستتباب الامن في الجنوب وحل مشكلته بما يخدم وحدة البلاد، كما يكفل تصفية مخلفات الحكم العسكري وتثبيت أسس الديمقراطية. وبذلك كان من الممكن خلق الجو المناسب وتوفير كل الضمانات لإجراء انتخابات سليمة تؤدي الى قيام جمعية تأسيسية تمثل إرادة الشعب وتتمتع بالصلاحية لوضع دستور ديمقراطي. (التشديد مني) ولكن الرجعيين استغلوا رجحان كفتهم في الوزارة الانتقالية الثانية وفرضوا الانتخابات بالشكل الذي جرت به. جرت الانتخابات تحت القانون الرجعي الذي كان معمولا به قبل 17 نوفمبر. ويحوي القانون كثيرا من البنود التي تحد من إظهار التعبير الحر عن إرادة الشعب. ولكننا نريد أن نركز هنا بصفة على توزيع الدوائر في ظل ذلك القانون. نلاحظ ان هذا التقسيم يخصص دوائر أكثر للمناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الأهلية التي يعتمد عليها حزب الامة في وقت لم تتم فيه تصفية الإدارة الاهلية وتطهير جهاز الدولة. انه يعطي وزنا اقل للمناطق التي تحملت عبء النضال ضد الاستعمار وضد الدكتاتورية العسكرية. انه يعتمد على إحصاء 1955-1956 كأساس لتقسيم الدوائر رغم التحولات الكبيرة التي طرأت على توزيع السكان حيث تضخمت المدن على حساب الأرياف الخلاصة: ان اجراء الانتخابات تحت قانون عام 1958 يعني العودة الى ديمقراطية ما قبل 17 نوفمبر والتي اثبتت عجزها عن افساح المجال للتعبير عن إرادة الشعب، وفي ظروف ما بعد الثورة تصبح أكثر عجزاً عن التعبير عن التحولات الكبيرة التي طرأت على بلادنا." (انتهت المقتطفات من التقرير) ما قيمة هذا الموقف الآن: تم اسقاط حكومة ثورة أكتوبر التي كونتها جبهة الهيئات (قائدة الثورة) الحرب لا تزال مشتعلة في الجنوب مما يخرجه من الانتخابات طرح حزب الشعب الديمقراطي (حليف الحزب الشيوعي آنذاك) اقتراح لمقاطعة الانتخابات ولكن الحزب الشيوعي رفض مبدأ المقاطعة، مما أدى بحزب الشعب الديمقراطي ليقاطع وحده تم الاعتماد على قانون الانتخابات القديم وهو ملئ بالنواقص والثغرات رفضت الأحزاب التقليدية مد الفترة الانتقالية حتى تتحقق اهداف الثورة ويحدث استقرار في البلاد باستتباب الامن في الجنوب، وتصفية مخلفات الحكم العسكري. رغم ايراد تقرير الحزب الشيوعي للانتقادات أعلاه، ورغم الانتكاسة التي تعرضت لها ثورة أكتوبر، التي رفعت شعار لا زعامة للقدامى، رغم كل ذلك قرر الحزب الشيوعي المشاركة في الانتخابات. وهو الموقف الصحيح آنذاك ولا يزال صحيحا الآن. الخاتمة: ما نريد التركيز عليه، ونوجه الرسالة للحزب الشيوعي وكل مكونات قحت بان ننظر للإطار الأكبر والمكونات المعقدة للواقع السوداني، وان نتخذ من القرارات ما يدفع بعملية النهوض الثوري للأمام، وان نراجع دوريا مواقفنا لنتحسس مواقع اقدامنا، ولنقدم قراءة نقدية لما انجزنا وما فشلنا في إنجازه. ونتمسك بحزم بوحدتنا لان خلافاتنا مصدر قوة ومظهر للديمقراطية. فالقضية أكبر منا جميعا لأنها قضية مستقبل وطن. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.