قبل سنوات مع تردي أحوال المعايش فى السودان بعث لي شقيقي الأصغر إسماعيل رسالة شكوى مؤثرة اختتمها بقوله "هنيئاً لكم تنعمون بجنة الدنيا نسأل الله لنا ولكم النعيم الدائم بجنة الآخرة". تذكرت تلك الكلمات ونحن صبيحة اليوم فى إجتماع طبي إستراتيجي يديره رئيس الأقسام الباطنية وممثل الإدارة لمواجهة أفواج المرضى المتوقعون بإصابة مرض فيروس الكورونا ( COVID). جناح كامل بالمستشفى خصص ليكون غرفة عمليات طارئة نجتمع فيها مرتين كل يوم (التاسعة صباحاً والثانية ظهرًا ) لمواجهة خطورة المسألة وبغرض الحرص على توفر طاقم الأطباء صغاراً كانوا أم كباراً وأيضاً جاهزية توفير البديل فى حالة أي طاريء يحدث لأي طبيب أثناء أداء واجبه خاصة العدوى بالفيروس. وأثناء تركيز كبير الأطباء فى حديثه على خطورة الموقف وكيف تحاول سياسة الحكومة والصحة القومية أن تنجح الدولة كلها لتخطي هذه الكارثة بتوفير ما يلزم من معدات وكوادر طبية وتدريب خاص. فجأة أخذته لحظة صمت و إذا به يبدي تخوفه ليس من هجمة الفيروس نفسه والتي قد حدثت بالفعل بل الخوف الماثل من جراء تداعيات إفرازات الفيروس التي بدأت تظهر بتعطل نشاط الحياة اليومية فقال ليست الأسواق خالية فقط من مناديل التواليت بل الخطر المهدد للإنسان عدم توفر المواد الغذائية وأهمها الخضراوات والحليب واللحوم رغم أنني لا إكثر ﻣﻦ أكل اللحم فقد فشلت مساء الأمس أن أحصل على ما أريد من حليب وخضروات ووجدت كل الرفوف فارغة ومواد الطعام المثلجة فارغة. قال نحن أمة يغلب على سكانها كبار السن والأطفال وكلهم لا يستطيعون مقاومة الجوع ونقصان الحليب سرحت بذهني وسافرت وتخيلت نفسي أزور قرية تقع على ضفاف نهر النيل أو من القري الكثيرة المتناثرة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوبا فى بقاع السودان "الوافر ضراعه". وجدت الناس ينعمون بنوم هاديء تحت السماء فى براحات حيشان واسعة من دون حاجة إلى مكيفات أو حبوب منومة ويصبحون على خير نشطين حامدين شاكرين ربهم وعند كل فجر يبكرون بسعي وعزيمة قوية قوامها التوكل على الله وصدق النفس وحرصها على كسب حلال يسند بيتاً بل وعند آخرين أكثر من بيت واحد إما بواجب المسؤلية أو تكافلاً لوجه الله أو حسب ما يقتضيه واجب الجيرة وعادات أهل السودان الخيرين. فأهل القرى والحمد لله قد حفظهم من أمراض نمط حياة المدن ومن الإعتماد على تعاطي عقاقير الوقاية من حدوث أمراض القلب ( مثلاً وغيرها) وعلى العكس الريف يتحفنا بكل جميل فى مجال كل ضروب الفنون من فولكلور وشعر وغناء وعلى خيرات أهل الريف تعيش وتحيا وتنمو المدن. إنتهى ذلك الإجتماع وانقضى يوم الجمعة بسلام فذهبت فى طريقي إلى المنزل لأشتري بعض الإحتياجات المنزلية وأهمها الخضراوات والحليب ونوع معين من الخبز أحرص على شرائه كل يوم من ماركس آند سبينسر حتى أن الخباز صار يعرفني حق المعرفة ويبالغ فى الترحاب . تذكرت خوف كبير الأطباء من جوع قد يهدد الأمة وأمامي أشاهد رفوف الخضراوات والفواكه وثلاجات الخضر والأسماك كلها فارغة وبقي رف الحليب فقط فيه بضع قارورات ومن الحجم الكبير فقط ونوع واحد من التركيز . أما الخباز قد قابلني وعلى وجهه خوف فقال لي " كأننا نعيش أزمة التسوق موسم أيام الكريسماس ". قال لي بالأسف كل الخبز انتهى أنت أتيت متأخراً. لم أجد أكثر من ما تبقى من الحليب الطازج وقنينة زبادي وآخر قطعة من البيتزا النباتية ( لحسن الحظ). لا يوجد دجاج ولا بيض أو لحوم ولا معلبات أو بقوليات ولا رز ولا عدس خرجت وأنا أعلم السبب لأن الكثير من المواد الغذائية تدخل إلى إنجلترا من دول المجموعة الأوربية يتم ترحيلها عبر الشاحنات والبرادات الكبيرة . ناهيك من ذلك بل كثير من الخضر تستورد حتى من مصر خاصة البصل الأخضر ، لكن من مصائب وباء الكورونا أنه تسبب في خلق أزمة الترحيل جواً وبراً وهكذا قد خلق هلعاً جعل الناس يهجمون على الأسواق ويقضون على الأخضر واليابس كهجوم الجراد على النبات والشجر. لكن يبقى السؤال " كيف تتأثر الحياة إذا استمر هذا الحال لشهور عديدة تأتي؟" أخي الحبيب إسماعيل لا أنساك والوطن وغيرك، هكذا تظن أننا نعيش فى جنة الدنيا وانت لا تدري كيف وأين تكون جنة كل إنسان فهاك مثلاً؛ "أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني " هكذا كان الشاعر (*) قد عاش دهراً من عمره فى جنة عشق فصاغ جم نشوة حبه وسعادته بدرر كلام جاء وظل داءا ودواءاً للملايين من البشر. واليوم وقد بلغ الجشع بالناس وعدم الطمأنينة لضعف الإيمان وعدم الصدق والامانة، صاروا يفسدون فى الأرض وصار الكثير من المسؤلين فى بلادنا وغيرها يتصرفون في ممتلكات الوطن والأفراد كأنها ملك لهم بل لا يخشون الله فيبيعون الوطن كله وحتى أبناءه، إني لذلك أخشى ما أخشى واليوم نعيش كارثة عالمية أن ينطبق علينا ما معناه فى سورة القلم : " إذ يقول الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة القلم:17-33]." قيل أن السيد ترامب دعى الناس ليصلون لرب السماء ليدرأ الوباء! ربنا يستر. أهنئك أخى إسماعيل فأنت الحمد لله ( وغيرك كثير) الذي تهنأ بالعيش فى جنة حبك " الأهل والأسرة الصغيرة والوطن" تمتع بالصبح ما دمت فيه فللأسف كل نعيم الدنيا لا يدوم (*) رحم الله الشاعر السوداني الفذ الأستاذ المعلم الهادي آدم والله نسأل أن يكرمه بجنة الفردوس، عرضها السموات والأرض ، مع الأنبياء والصالحين عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.