شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالفيديو.. وسط حضور مكثف من الجيش.. شيخ الأمين يفتتح مركز طبي لعلاج المواطنين "مجاناً" بمسيده العامر بأم درمان    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منصور خالد بين الإبحار في سماوات المعارف، والهبوط إلى أرض واقعٍ عقباته كئاد .. بقلم: د. ياسر محمد علي
نشر في سودانيل يوم 06 - 05 - 2020


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
حزنت مثل كثيرين غيري لرحيل الدكتور منصور خالد، عليه رحمة الله. وعلى الرغم من أن كل المقربين منه كانوا يستشعرون دنو الأجل، بُعيد مجيئه من لندن، إلا أن فقد رجلٍ في قامته ليس بالأمر الهين، وهو لاشك نبأ فاجع لكل محبيه وعارفي فضله.
وحزني على رحيله ليس فقط لأنه أحد أعظم من تولى حقيبة الخارجية، وغيرها من المواقع الرفيعة الأخرى، داخل وخارج البلاد، بجانب إسهاماته المميزة في عالم الأدب والفكر والسياسية، وإنما لمعرفةٍ شخصية بالرجل، إمتدت لزهاء الخمسة عشر عاماً، جعلتني أكنّ له في قلبي كثيرٌ من المحبة والود والإحترام.
لذا، أجد نفسي مثقلة بحزنٍ عميق على رحيله، لأنه من قلة يثق المرء في رأيها ونصحها. وقد قال هو في رثاء صديقٍ له، أن الكتابة هي الأكسير الذي يقي النفس من الإنفجار. والمرء حينما يرثي من له في القلب محبة وتقدير، إنما يعزّي نفسه ليخفف عنها مصيبة الفقد. لذا، فإن الكتابة فيها مُتنفّس وراحةٌ للنفس من غمة الحزن الذي يعتريها. وهذا مادفعني للكتابة عن منصور خالد، الذي هو الآن بين يدي رحيمٌ غفّار.
يقيني أن منصور شخصية ضخمة، يصعب لشخص واحد الإحاطة بجوانبها المتعددة، مهما بلغت درجة القربى بها. فهو من جيلٍٍ لن يتكرر، لما تلقوه من تعليمٍ رفيع، ولما نالوه من خبراتٍٍ واسعة ومتنوعة في الحياة، يندر أن تجد في الأجيال اللاحقة من يدانيها. كما أنه يتميز على معظم أبناء جيله بسعة المعارف، وإتساع دوائر علاقاته، وغزارة الإنتاج الفكري والأدبي. لذا فقد كان طبيعياً أن يتميّز وينبري بين كل مثقفي السودان ونخبه السياسية، كشجرةٍ شامخة، عميقة الجذور، يانعة الإخضرار، كثيرة الثمار.
دوماً يقال بأننا قومٌ شفاهيون، ذلك لأن الكتابة الجادة أمرٌ عسير، إذ تحتاج لعزمٍ وإرادة وتفرّغ. وكثيراً مايحول نمط حياتنا الاجتماعية دون تفرّغ من هم جديرون بتوثيق تجربتهم. وفي هذا السياق، كنت دائم التذكير لسفيرنا الراحل، العم أحمد عبد الحليم، عندما يصفو ويحدثنا عن ذكرياتٍ شتى، فيها منعطفاتٍ مهمة في تاريخ بلادنا، بأن يكتب مذكراته. وكان دوماً يتعذّر بإنعدام الوقت في القاهرة. وأشهد بأنه كان فيها دائم الإنشغال. فقد كان واسع الإنتشار في كل فضاءات النشاط الدبلوماسي، ومع النخب السياسية وأهل الأدب والإعلام في مصر. وقد أتاحت لنا مجالسته وضيوفه تعلّم الكثير ومعرفة الكثيرين، خاصة في دعوات العشاء التي كان يقيمها بإنتظام. فقد كان، عليه رحمة الله، رجلاً موطأ الأكناف، يحتفي بضيوفه ويكرم وفادتهم، ولايكاد داره يخلو منهم. وكانوا أصنافاً من أهل العلم والأدب، بعضهم من أصدقاءه القدامى، وكثير من الرسميين الذين كان يصر على إستضافتهم. وكان الجميع يستمتع بمجالسته، فقد كان مثقفاً موسوعياً في تاريخ السودان وثقافات أهله، ومتحدثاً لايُمل حديثه.
وكان من بين ضيوفه الدائمين في معظم تلك الليالي العم علي التوم، وهو من الزراعيين المشهود لهم بالعلم والكفاءة في البلاد وخارجها، وكان مقيماً في القاهرة. ودوماً كانت آراءه ومواقفه السياسية تختلف مع آراء أحمد عبد الحليم. وكم كنا نسعد "بمناقرته" لصديقه اللدود، بعد أن ينصرف الضيوف، وتصبح الجلسة سودانية "دكاكينية".
كان أحمد عبد الحليم، كإسمه فيه من الحلم الكثير، ربما لنزعته الصوفية. إذ كان ينأى عن الإنخراط في الجدل السياسي. وكان دوماً ميالاً لسرد قصصٍ من التراث الشعبي مُترعة بالطرافة والحِكم والعِبر، عن السياسيين ونظّار القبائل، خاصة في مجلس الشعب والإتحاد الإشتراكي.
وثقت هذه الملتقيات من صلتي بالعم على التوم، عليه رحمة الله. خاصة عندما علم أن صديقه وزميله في كلية الزراعة بجامعة الخرطوم، الدكتور علي إسماعيل مدني هو خالي. وقد كانا -رحمهما الله- ثوريين. كلٌ على شاكلته. فكان يقول لي بطريقته المحببة "خالك دا مانصيح، ساب الفاو [FAO- منظمة الأغذية والزراعة] ليعمل مزارعاً في بُتري"؟!
كان د. علي إسماعيل من كبار الخبراء في المنظمة، وكان قد قدِم إليها من جامعة الخرطوم التي عرفته طالباً نجيباً وأستاذاً مميزاً.
كان العم على التوم ناقداً لمجريات الأحداث في السودان، جريئاً في آراءه، لدرجة لاتخلو من حدة أحياناً. وكان قارئاً نهماً، يكثر من التعليق على صفحات الكتب التي يقرأها. ولاحظت أنه وأحمد عبد الحليم ومنصور خالد، يكتبون بخط الرقعة البديع. وكان العم أحمد لايكتب بغير قلم الحبر السائل، الذي مازال كثير من الزملاء يفضلون إستخدامه، ربما تأسّياً بؤلئك الأساتذة، كما أنه مفضّل لمعظم من يحسنون ويحبون الخط العربي.
كان يزورنا في السفارة من حينٍٍ لآخر، وكان دوماً يمر على مكتبي، بعد أن يفرغ من زيارة صديقه السفير أحمد عبد الحليم، الذي كان مكتبي قريباً منه. وكان يقول لي أنه يزورني بِِراً بخالي علي إسماعيل. فأترك كل مافي يدي لأسعد بمجالسته. وكان عندما يتحدث عن آراءه السياسية والإخفاقات التي إعتورت مسيرة الحكم في السودان، منذ الإستقلال، تتمنى أن يمتد الحديث لساعات!
كنت دوماً ألح عليه بأن يكتب مذكراته، لأهمية ذلك للتاريخ وللأجيال. وأخبرني أنه عاكفٌ على كتابتها. وأنه قد أنجز منها ثمانمائة صفحة بخط اليد. وأن فيها "بستفة" لكثيرين. لذا، فكان يتمنى أن يتمها وينشرها في حياته، حتى يتصدى لهم، ولكن عاجلته المنية، رحمه الله، قبل أن يكملها.
سفارتنا بالقاهرة، كما هو معلوم، تعتبر من أكبر السفارات، لأهمية وتشعّب علاقتنا بمصر، التي تضم أكبر وجود سوداني، مقيم وزائر، فضلاً عن زيارات وفود الرسميين التي لايكاد ينقطع سيلها. وكان لزاماً على الدبلوماسيين في السفارة، أن يشاركوا بالتناوب في برنامج إستقبال ووداع الوزراء والدستوريين وكبار الشخصيات، برفقة السفير أو بمفردهم، فضلاً عن مرافقتهم في لقاءاتهم الرسمية. وكنت، كغيري من الزملاء، أقوم بتلك المهم الروتينية، التي كان من محاسنها أنها تتيح للمرء فرصة للتعرف عن قرب على تلكم الشخصيات، التي بينها من تستلطف إستقباله ووداعه في المطار، بل وإكرام وفادته، وتستفيد خبرةً وعلماً بمرافقته؛ وفيهم من تحمد الله حينما يغادر، وتسأله أن لايجمعك به ثانيةً، وتتصنع الأعذار بتكليف غيرك، إن طُلب منك إستقباله في زيارةٍ أخرى!
وعن راحلنا العظيم، حقيقة أجد نفسي ممتناً للسفير عبد المنعم مبروك، السفير في القاهرة آنذاك، الذي كلفني في صيف 2005، لأكون في إستقبال ومرافقة الدكتور منصور خالد، رئيس مجلس إدارة شركة الصمغ العربي حينذاك، الذي كان قادماً من الخرطوم في طريقه لإحدى الدول الأوربية. وحقيقة سعدت في قرارة نفسي بذلك التكليف لأكثر من سبب. وتمنيت أن يتيح لي فرصة للتعرف عن كثب على شخصية قرأت لها وعنها، وسمعت الكثير؛ ولعلها تتيح لي إجاباتٍ على أسألة تدور في الذهن حول بعض آراءه ومواقفه.
كنت في إستقباله بالمطار وبرفقتي أحد موظفي العلاقات العامة بالسفارة. وتوجهنا، حسب رغبته إلى فندق إنتركونتيننتال بمصر الجديد، وكان هذا الفندق هو نزله الدائم في زياراته القصيرة للقاهرة. وفي مدخل الفندق، وجدنا مديره في إنتظارنا، هاشاً باشاً مرحباً بمقدم الدكتور. ورافقناه جميعاً للجناح الذي خُصص له. وقبل أن نغادر جناحه، عبّرت له عن سعادتي أن أكون في إستقباله، وعن إستعدادي لترتيب أي لقاءٍ مع مسئولين مصريين، ومرافقته إليه، إذا رغب، على الرغم من قصر الزيارة. وهو من الشخصيات التي تشعر بأريحية في التعامل معها، لما تتسم به من اللطف والتواضع. فسألني أن كنت قد ذهبت من قبل لسوق الموسكي (وهو أحد أشهر وأكبر الأسواق الشعبية في القاهرة القديمة، ويعود تاريخ تأسيسه إلى عز الدين موسك، أحد الأمراء في عهد صلاح الدين الأيوبي)، وحقيقة تفاجأت بالسؤال. وبالطبع أجبته بالنفي، وأنني فقط سمعت عنه، ولكنني لم أفكر يوماً في الذهاب إليه. فضحك وقال لي: ربما تكون هذه فرصة للتعرف على جانب من القاهرة، لايعرفه كثير من الدبلوماسيين، وذكر أنه يود شراء بعض الأشياء، ولابأس أن أرافقه.
ذهبنا في ذات المساء لسوق الموسكي. وكان واضحاً لي أنه يعرف المكان الذي يريده، حيث ذهبنا مباشرة لمتجر يبيع الأثاث التقليدي المطعّم بالصدف..المنافسة الشديدة بين المصريين، جعلت بينهم قدرٍٍ عالٍٍ من التخصصية والمنافسة والتجويد، خاصة في الحرف اليدوية والصناعات التقليدية. وكان ذلك المتجر بمثابة متحفٍ صغير، مليء بقطع أثاث خشبية، مشغولة ببراعة متناهية، ومرصعة بالصدف اللؤلؤي اللون في شكلٍ بديع. كان الرجل يتحرك بتؤدة بين قطع الأثاث التي يكتظ بها المتجر. فيتأمل بعضها، ويقلب أخريات بعين خبيرٍ فاحصة. وكان صاحب المتجر يقف بالقرب منه ويحدثه عن كل قطعة يتوجه إليها بنظره. إذ عرف -بفراسة البائعين- أن زائره هذا زبون متميّز. وبالفعل لم يخيب الدكتور ظنه. حيث إشترى منه عدداً من القطع الجميلة، ودفع له المبلغ الذي طلبه، دون أن يفاصل في السعر، كما هي عادة المشترين في تلكم الأسواق. كانت تجربة فريدة، لم ألمسها في كثير من الشخصيات التي كُلفت بمرافقتها خلال زياراتها للقاهرة. ولاحظت فيه ولعاً بإقتناء التحف الجميلة، وفي هذا دلالة على ذوقه الرفيع، كما تبيّن لي لاحقاً.
توالت زياراته العابرة للقاهرة، وكنت أعلم بمجيئه مباشرة من مدير مكتبه أو سكرتيره الخاص. وتفادياً للحرج، كنت أطلب منهم إرسال برقية رسمية بذلك، عبر وزارة الخارجية. وكنت قبلها أبلّغ السفير بأنني تلقيت إتصالاً من مكتب د. منصور بقدومه للقاهرة، فيتم تكليفي بمرافقته، التي كنت أسعد بها، لما فيها من إضافاتٍ معرفية ملهمة.
توليت مهام القسم القنصلي، بعد أن نُقل زميلي السفير فضل عبد الله إلى جدة. وكان من بين القضايا التي تابعتها عن كثب، قضية رجل الأعمال السوداني المعروف حسن قنجاري، شفاه الله. وكانت له قصة نجاح جديرة بأن تُروى يوماً ما، لما فيها من عبر ودروس. فقد كان أحد الرواد في تصدير وتصنيع اللحوم في السودان، وأحد أنجح المستثمرين في مجال النقل الجوي عبر شركته المعروفة: "Trans Arabian Air Transport".
دخل العم قنجاري، قسراً، في خلاف مع وزير الزراعة المصري الأسبق، د. يوسف والي. وكان قنجاري قد تعاقد مع الحكومة المصرية للإستثمار في مشروع غرب النوبارية الزراعي، وأنفق في سبيل ذلك أموالاً مقدرة. غير أن والي ولأسباب لايمكن تبريرها، كان دوماً يسعى للتدخل في طريقة إدارة المشروع، الأمر الذي رفضه وتصدى له بحسم العم قنجاري، وهو رجل الأعمال المحنّك. وبالطبع لم يعجب الأمر يوسف والي، الذي تولى حقيبة الزراعة في مصر لربع قرن، فدبّر له مكيدة، وذهبوا بالأمر للقضاء، فأصدرت محكمة، غير مختصة جغرافياً، حكماً جائراً عليه بالسجن لعشر سنوات، نقضته لاحقاً محكم النقض، لأنه كان حكماً معيب. ولكن صدر القرار بعد فترة من الإنتظار والمعاناة. طرقنا خلالها كل الأبواب لإستعجال عرض القضية على محكمة النقض.
في هذا السياق، ذكر لي العم قنجاري أنه قد تواصل مع صديقه الحميم منصور خالد، وأنني سوف أحكي له التفاصيل في زيارة القادمة لمصر، ليسعى في الأمر مع المعنيين في مصر.
العم حسن قنجاري، بجانب أنه رجل أعمال من طرازٍ فريد، نبلاً ومروءةً، كان أيضاً واسع الإطلاع وعلى قدرٍ عالٍ من الثقافة، وفضلاً على ذلك كان من المقربين للراحلين الرئيس إسماعيل الأزهري والشريف حسين يوسف الهندي، حيث كان بمثابة "الصندوق الأسود"، لما يحمل من الأسرار والقصص المثيرة عن السياسة السودانية. وقد ذكر لي أنه حمل مراراً رسائل الشريف للرئيس نميري. وكان الأخير حريصاً على لقاء الشريف بوساطة مصرية، غير أن الشريف لم يكن يثق في الرئيس السادات، لذا لم يتم اللقاء. وكم كنت أتمنى أن يقوم بتوثيق تجربته الزاخرة، وكان يؤكد لي أنه سيقدم على ذلك، حالما تيسرت الظروف.
حضر منصور للقاهرة، وكعادته في زيارة قصيرة، وحكيت له تفاصيل قصة قنجاري. فقال لي أنه سيرتب لقاءاً مع أحد كبار ضباط المخابرات، وعلىّ أن أحكي ذات التفاصيل..كان اللقاء في جلسة مسائية لطيفة بفندق الإنتركونتيننتال، مع اللواء أسامة عوف مسئول ملف السودان بالمخابرات المصرية. وكان واضحاً أن اللواء أسامة يعرف قدر الرجل، حيث كان يتعامل معه بإحترامٍ وتوقيرٍ كبيرين. وللأسف لم تسفر جهود اللواء عن حل، إلى أن أُزيح يوسف والي من وزارة الزراعة. وكان واضحاً بأنه صاحب نفوذٍ كبير، ولكنه لم يكن محبوباً. إذ إبتهج الناس بقرار إزاحته، الذي تناولته كثير من الصحف المصرية بإرتياحٍ كبير، حيث إقترن إسمه بالتطبيع مع إسرائيل، وبإدخال بذورٍ مسرطنة للبلاد.
كما يقولون: رب صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد. ففي يونيو 2006، كان منصور في طريقه للخرطوم عبر القاهرة، قادماً من جولة أوربية. وبينما كنا في طريقنا ظهراً إلى المطار، أبلغني موظف العلاقات العامة الذي سبقنا إليه، لإكمال إجراءات السفر، بأن الرحلة ستتأخر لثلاث ساعات. ففرحت في قرارة نفسي بذلك الخبر، بقدر ماتكدّر أستاذنا الدكتور!
فرحت لأنها فرصة ماكانت في الحسبان للجلوس معه. فإقترحت عليه أن يتكرم بقبول دعوتي للغداء بدلاً من الإنتظار الممل في غرفة كبار الزوار في المطار، المعروفة ب27. وقبل الدعوة بلطفه وأريحيته المعهودة. وكنا حينها نمر أمام مطعم أبوشقرة بشارع الميرغني، وهو غير بعيد من مطار القاهرة. فإقترح علىّ أن نذهب له، على الرغم من أنني عرضت عليه خياراتٍ أخرى. ولحسن الحظ كان المطعم شبه خالي. إذ عادةً مايزدحم المصريون في المطاعم ليلاً وفي عطلة نهاية الإسبوع. وهناك مطاعم بها أمكنة للإنتظار، إذا لم يكن لديك حجزٌ مسبق!
إستأذنت منه أن ينضم إلينا صديقي جمال الخبير، وذكرت له أنه رجل موسوعي الثقافة، وستكون فرصة طيبة لو شاركنا الغداء، فرحب بالفكرة. وكان السؤال الذي يلح علي وقتها، هو عن قراره بالوقوف مع الحركة الشعبية في مشروع السودان الجديد. فإستفاض، عليه رحمة الله، في شرح آرائه، وأشار إلى التجربة الهندية في جانبيها السياسي والتنموي. وكيف أن رأس الدولة، بموجب الدستور، دوماً يكون شخصية من الأقليات، خاصة وأنها وظيفة تشريفية، إذ تتركز السلطة التنفيذية في يد رئيس الوزراء. فأبهرني بحديثه المفصّل عن الهند، التي لي بها معرفةٍ طيبة، بحكم دراستي فيها وعملي مسبقاً بسفارتنا في نيودلهي. ولا أنسى أبداً حديثه العميق عن ممسكات الوحدة، وموجبات الإستقرار في السودان، بحسبانها العمود الفقري للتنمية والإزدهار؛ وأن كل ذلك رهين ببناء نظام حكمٍٍ مؤسسي، لايتيح لأحد الإحساس بأنه مهمّش؛ وأن هذا لن يتأتّي مالم تحدث مراجعات حقيقية، عميقة وشاملة لكثيرٍ من الأفكار، على مستوى النخب السياسية وغيرها، ليتمخّض عنها بناء منظومة حكم، تختلف كثيراً عن ما هو كائن.
وحقيقة وجدت نفسي لا أملك إلا أن أوافقه الرأي في كثيرٍ مماذهب إليه. فقد كان حديثه غايةً في العمق والموضوعية. وأيقنت أنه لو تيسر للنخب السياسية -منذ الإستقلال وإلى يومنا هذا- أن تتواضع على كلمةٍ سواء من أجل الوطن، فسيكون في كثيرٍ من آراء منصور نبراساً يُهتدى به، لبناء قواعدٍ راسخة للدولة السودانية. ولكن كان ذلك، في رأيه، بعيد المنال، في ظل عوز الفكر وجدب الخيال؛ هذا فضلاً عن شح الأنفس وأهواءها؛ بجانب متلازمة التمترس المتغطرس خلف الآراء والمصالح المتضائلة، أمام عِظم تحديات الوطن، التي تستوجب أن يتسامى الجميع من أجلها.
وقد لاحظت في حديثه نبرة حزنٍ، مردها -في تقديري- خيبة الأمل في حدوث إصلاحٍ جذري؛ وتبيّن لي لاحقاً بأنه كان يرى مالم يكن لي باديا. ولعله أصاب، حين لخص كل تلكم العلل المزمنة في جملةٍ واحدة، جعلها عنواناً لكتابه: النخبة السودانية وإدمان الفشل. أربع كلماتٍ، ولكنها ستظل لسنواتٍ قادمات، تضج بالمعاني والتساؤلات!
ولكنني لاحظت أنه كان صادقاً مع نفسه فيما يقول، دون مراءة أو إدعاء. وقد ذكر في إحدى مقالاته: بأن الصدق مع النفس والمعرفة، يكسبان المرء جرأةً فكرية، غير الجهل والإنغلاق الفكري، اللذان لايوسعانه إلا الوجل أو يحملانه على الدجل.
إلتحق بنا جمال، وكانت جلسة أشهى من أطباق شواء أبوشقرة الشهيرة. حيث كان الحديث عن الفكر والأدب وأبو الطيب المتنبئ، الذي يعشق منصور أشعاره والإستدلال بها. تماماً كصديقه الراحل الطيب صالح، الذي جمعتنا به وجمال وعمنا السر قدور في داري جلسة أنسٍ لاتُنسى.
وصلنا غرفة كبار الزوار بالمطار وتواصل الحديث، وكنت مستمعاً ومستمتعاً بإنبهار، ووددت لو طال تأخر الطائرة. إذ إنقضت الثلاث ساعات دون أن نشعر بها، ولكنني أيقنت أن الدكتور قد غادر القاهرة دونما كدر.
كلفني مرة أن أجدد له إشتراكه السنوي في عدد من المجلات المصرية، وتبيّن لي أنه كان متابعاً دقيقاً لمجريات الحياة الثقافية والأدبية والسياسية في مصر. وكانت تلك المجلات ترسل مباشرةً لعنوانه في الخرطوم. وأذكر منها: أخبار الأدب، وجهات نظر، الهلال، صباح الخير وروزاليوسف، ومجلة أخرى تُعنى بالكاريكاتير. كان تنوع تلكم المجلات يعبّر عن سعة إطلاعه، وتنوع إهتماماته ومتابعته للقضايا المختلفة، الأمر الذي كان يتبدّى في عمق أحاديثه ودقة ملاحظاته.
حرصت بدوري على متابعة عددٍ منها، بجانب مجلة الكاريكاتير. خاصة وأنني من المحبين لهذا الفن، لقدرته القوية والممتعة في التعبير عن القضايا المختلفة، بطريقة فيها الكثير من العمق والطرافة. إذ بمطالعة الرسومات ومايصاحبها من تعليقاتٍ ساخرة، يمكنك الإلمام بجوانب مهمة لكثير من القضايا السياسية والإجتماعية في مصر. والحقيقة التي لامراء عليها، أن لمصر باعٌ طويل في هذا الفن.
وفي زيارته اللاحقة، قال لي أنه بصدد نقل بعض متعلقاته من شقته في القاهرة إلى الخرطوم، ويريد أن يحفظها عندي ريثما يتم نقلها إلى هناك. سعدت أن أكون موضع ثقته، وأن أعينه في تلكم المهمة. وحقيقة لم أرى في حياتي شخص لديه القدرة على بناء أرشيف شخصي كبير كمنصور خالد، حينما رأيت كمية الكراتين المليئة بالكتب والأوراق والأفلام السينمائية القديمة، المحفوظة في أسطوانات معدنية "Real". ولحسن الحظ كان في داري متسعٌ لحفظها. وكنت أتعجب، أن كيف يتسنى لرجلٍ ظل مُثقلاً بمسئوليات جِسامٍ منذ أمدٍ بعيد، أنٍ يحتفظ بأرشيفٍ هائلٍ كهذا. وأيقنت أنه واحداً من قلة تُحسن التخطيط لحياتها بنظامٍ صارمٍ ودقيق.
وفي تقديري، أن كل من قرأ لمنصور، لايشده فقط إسلوبه السلس ولغته الرفيعة، ولكن يلفت نظره أيضاً طريقته الواضحة في الإستيثاق من صحة المعلومات التي يوردها، مستعيناً في ذلك بالأدلة والأسانيد في جل مايكتب. وهذا يوضح بجلاء أنه يتبع بصرامة مناهج البحث العلمي، كما يؤكد قدرته الفذة على الإستعانة بأرشيفه الشخصي الضخم بطريقة تدعو للإعجاب.
تحدثت معه حول ضرورة حفظ تلكم الأفلام رقمياً، لما في وضعها الحالي من مخاطر لتلفها. وإقترحت عليه ضرورة إنشاء موقع على الإنترنت يحوي كل أنشطته المختلفة، بجانب تلكم الأفلام، حتى يتاح كل ذلك للأجيال اللاحقة والباحثين. وفي تقديري أن تلكم الفكرة لم تكن خافية عليه. ولكنني ذكرتها له من باب التذكير والإشفاق، وقد تقبلها مني بإستحسان.
وكم سعدت حينما ذكر لي أنه يفكر في بناء مسجد في أمدرمان، تُلحق به مكتبة تُصمم على طراز حديث. وكنت أتمنى أن يتم ذلك المشروع في حياته، ليضع عليه لمساته العبقرية. وهنا أرجو أن يتداعى أصدقاءه ومحبيه وعارفي فضله للمساهمة في تنفيذ مشروع المسجد والمكتبة، ليكونا أيقونة في أمدرمان، تخليداً لإسم أحد أبناءها الأفذاذ، وصدقة جارية.
وإن كانت ثمة أمنية أخرى، يقيني أنها تدور في خُلد كثيرين، وهي أن يتم بناء موقع على الإنترنت يحوي كل التراث الفكري والأدبي الضخم، وكامل أرشيف د. منصور خالد، واللقاءات التي جرت معه. وأحسب أن هذا حق للوطن ولكل الأجيال اللاحقة، كما أنه واجب على الذين يقع تحت حرزهم هذا التراث، الذي لاشك أنه ملكاً لكل السودانيين.
وبعد عودتي من القاهرة في أواخر 2008، كنت أزوره من حينٍ لآخر. وعند أول زيارةٍ لفت نظري التصميم المعماري المتفرّد لمنزله، الذي لا أظن أن له نظير في السودان. حيث تتداخل المستويات المختلفة للمبنى في تناغمٍ بديع، بين مسبحٍ صغير على مدخل الڤيلا، وحديقة جميلة التنسيق، لتدلف بعدها إلى صالونٍ فسيح، ذو واجهة زجاجية كبيرة، تطل على الحديقة.
ومن فرط تزاحم الجمال ودقة الترتيب، تود أن تتوقف قليلاً لتتأمل بعض التفاصيل. ولكن لاتملك إلا أن تتبع سكرتيره الخاص ليدلف بك إلى صالونٍ أنيق. فتجد نفسك في متحفٍ فريد من المقتنيات الفنية البديعة، من لوحاتٍ على الجدر وتحفٍ ومنحوتاتٍ، تتوزع بينها بتناسق قطع أثاث تم إنتقاؤه بعناية. وخلاصة القول، إن كل ماحولك ينُم ليس فقط عن ذوقٍ راقٍ وحسب، وإنما عن ذائقة فنية عصية على الوصف. ألارحم الله عبده منصور، الذي عُرف في دنيانا بالتفرد في مظهره ومخبره، بغض النظر عن مواقف الناس حياله.
هذه المقتنيات الثمينة، التي بذل صاحبها في شرائها زمناً مقدراً، تستحق أن تُشكِّل متحفاً بإسمه. وليس في هذا غرابة. فكثيرٌ من رموز الأمم تتحول دُورهم، بعد رحيلهم، لمتاحفٍ عامة، تخليداً لذكراهم وتقديراً لدورهم، وإلهاماً لأجيال المستقبل، التي من حقها أن تعرف النابغين من أبناء هذا الوطن، عسى أن يكون في ذلك دافعاً للإقتداء والتأسّي بهم. ولاشك أن هذا أمرٌ سيسعد به كثيرون إن تيسر. ولسنا بدعاً في ذلك. فقد جعل الإنجليز من بيت كاتبهم الشهير تشارلز دكينز متحفاً، وجعل الفرنسيون من بيت العالمة الفذة مدام كوري مزاراً للجميع، وكذلك فعل الهنود، أن جعلوا من بيت زعيمتهم إنديرا غاندي متحفاً، وأيضاً المصريون إحتفوا بأكثر من رمز بتحويل بيوتهم لمتاحفٍ يزورها الجميع، ومنهم أحمد شوقي وأم كلثوم.
لم تنقطع زياراتي له من حينٍ لآخر. ولكن كانت الزيارة الأمتع برفقة صديقي الأستاذ جمال الخبير. وجمالٌ هذا أُعجوبةٌ في الزمان فريد. إذ يندر أن تجد من يحدثك في الآداب، وفي السياسة والتاريخ، وفي العلوم والقرآن الكريم، حديث الخبراء المختصين، كالأستاذ جمال. ولمنصور إهتمامٌ كبير بالتراث الإسلامي والتصوف، وله في ذلك باعٌ طويل. لذا فقد وجد في حديث الأستاذ جمال عن بعض آيات القرآن الكريم، وسبر أغوار معانيها المذهلة بمسبار العلوم الرياضية والفيزيائية وغيرها، مايشد إنتباهه بالكامل. فجمال حينما يتحدث، يمخر بك في عباب بحور العلم اللامتناهية، ويغوص بك في أعماقها، ثم يحلق بك في فضاءاتٍ شاهقة، بين المجرات، فتتبيّن في ذهولٍ، كم هو عظيمٌ كتاب الله. إمتدت بنا الجلسة لزهاء الساعتين، وبدا لي جلياً أن الدكتور كان في قمة المتعة والإندهاش بما سمع.
قُبيل مغادرتي، سفيراً إلى تنزانيا "2011-2015"، حرصت على لقاء عددٍ مِن مَن لهم معرفة بذلك البلد الهام في الشرق الأفريقي، وختمت تلك اللقاءات بدكتور منصور، الذي سره ذهابي لدار السلام، لما له فيها من معارفٍ وصلات. فحدثني عن نظامها السياسي، وتأثيرها في منطقة شرق أفريقيا، وصلاتنا القديمة بها منذ إستقلالها، ودور السودان المشهود في دعم حركات التحرر الأفريقي عبرها؛ كما حدثني عن جامعة دار السلام العريقة التي تخرج فيها الرئيس اليوغندي موسيفيني، وصديقه جون قرنق؛ وحمّلني تحياته لصديقه د. سالم أحمد سالم. وسالم، كما يعرف معظمنا، هو سياسي ودبلوماسي تنزاني نابه، تولى مناصباً رفيعة في الأمم المتحدة، ثم تولى حقيبة الخارجية، وأصبح رئيساً لوزراء تنزانيا، ثم أميناً عاماً لمنظمة الوحدة الأفريقية لثلاث دوراتٍ متتاليات، في إستثناءٍ غير مسبوق، وكرمته عدة دول بما فيها السودان، الذي منحه وسام النيلين في 2001. وكان عازماً على المشاركة في حفل تكريم منصور خالد، الذي تم في مارس 2016، غير أن علةٍ حلّت به فأقعدته عن المجيء.
وجدت في تنزانيا أصدقاءاً كثر لمنصور، الذي يعرفه جيداً رؤسائها الثلاثة السابقين: الحاج علي حسن مويني، بنجامين مكابا وجاكايا كيكويتي، وعددٍ من وزرائها ورؤساء الوزارة فيها. وتوثقت صلتي بدكتور سالم، الذي يشبه كثير من السودانيين في سحنته وثقافته الزنجبارية. وعبره تفتّحت لي كثيرٌ من الأبواب، التي تمخضت جهودنا الكبيرة عبرها عن قرار تنزانيا بإعادة فتح سفارتها في الخرطوم، حيث كانت مغلقة منذ 1985.
كنت أتردد عليه كلما قدمت من تنزانيا، التي كان يسعد بقهوتها وشاي كلمنجارو الجميل. وبعد أن عدت منها، كنت أسعد أيضاً بزيارته من حينٍ لآخر، فتمتلئ النفس بها بكثيرٍ من الرضا والإلهام.
وفي إحدى زياراتي، وبينما كنت أنتظر قدومه إلى الصالون -بدا لي أنه إنشغل بطارئٍ والإنتظار في صالون منصور أمرٌ لايُمل- كنت أتجول متأملاً اللوحات وغيرها من المقتنيات الفنية البديعة، أتاني سكرتيره ليبلغني بأن الدكتور يرجو أن أحضر إليه في مكتبه، الذي يقع في الطابق الأرضي في مدخل داره. وجدته جالساً وأمامه كمية من الأوراق، ووضح لي أنه كان منهمكاً في الكتابة. كانت جدران مكتبه الخشبي الجميل مغطاة بأرففٍ مكتنزةٍ بعددٍ كبير من الكتب؛ وكانت بينها عدة صورٍ له مع ملوكٍ ورؤساء وشخصياتٍ عالمية، تشعرك بالزهو، أنك أمام رجلٍ جديرٌ بأن تفخر بمعرفته، وحريٌ بأن تحتفي به بلاده.
لاحظت أنه كان يلبس صندلاً ويضع قدمه على وسادة، وقد كان يشكو من علةٍ فيه، وللأسف تم بتر جزءٍ منه لاحقاً. وبلطفه المعهود يلتقيك، بكل الود والأريحية. ولفت نظري أنه كان يكتب بالقلم ولايستخدم الحاسوب. ولاشك أن الكتابة بهذه الطريقة أمرٌ عسيرٌ ومضني. وقد ذكر أحد الإخوة بأن منصور كان عندما يكتب ويستغرق في ذلك، يجلس لساعاتٍ طوال، تتجاوز الخمس أحياناً، دونما حراك. ولعمري، إنه لايقوى على ذلك إلا أولي العزم من الرجال. وقطعاً أن كل من يعرف حجم إنتاجه الفكري والأدبي الضخم، لايملك إلا أن يسلّم له بذلك.
ذكر لي وقتها أنه منشغل بوضع اللمسات النهائية على مذكراته التي ستصدر قريباً في عدة أجزاء. فعبرّت له عن سعادتي البالغة بذلك وتمنيت له التوفيق في إكمالها. وطافت بخاطري ذكرى الراحلين السفير أحمد عبد الحليم والعم علي التوم والعم حسن قنجاري، شفاه الله. إذ كنت أتمنّى أن يقوموا بذات الأمر، ولكن حالت أقدار الله. وكذلك كان د. منصور يمنّي نفسه أن يقوم بتدشين كتاب مذكراته الضخم، وشاءت إرادة الله بغير ذلك.
وقبيل سفره إلى لندن بفترة زرته برفقة الأخ الصديق السفير طارق أبوصالح، الذي بينه والدكتور مودة كبيرة، وكان معنا صديقنا الأستاذ جمال الخبير. كانت جلسة طيبة، مليئة بالمتعة والإدهاش. وكنت أحمل له كتاباً، كان وقتها قد صدر حديثاً في المغرب، وأحدث ضجةً كبرى هناك، وعنوانه: "صحيح البخاري نهاية أسطورة"، للكاتب المغربي رشيد أيلال، ووجدته قد إطلع عليه، الأمر الذي أكد لنا بأنه دوماً يواكب ثمرات المطابع.
ولا أنسى مهاتفتي الأخيرة له للإطمئنان عليه وهو في لندن، حيث أتاني صوته واهناً، ولكنه كان رقيقاً كعادته وسألني عن حالي وعن زوجتي، التي دوماً مايسألني عنها بعطف ومحبة. وكنت أشعر بأنه ينظر إلينا كتلاميذه، بحكم إنتمائنا للمهنة التي حذقها.
وحقيقة حزنت وتأسفت كثيراً، إذ لم يتيسر لي لقاءه عقب عودته من لندن، إلى أن أتانا خبر نعيه في أحد قروبات الواتساب، فكتبت بإقتضاب معزياً الأخ الصديق طارق أبوصالح، ثم إتصلت أول ماإتصلت معزياً، بالأخ الصديق الياس فتح الرحمن، صاحب دار مدارك للنشر، التي تساهم بدأبٍ في نشر المعارف، والذي تعود صلتي به إلى أيام عملي بالقاهرة، وهو من أصدقاء منصور. ثم إتصلت معزياً زوجتي، السفيرة شهيرة حسن وهبي، التي شَرُفت مثلي بتكريم منصور لنا وإستجابته لدعوتنا في دارنا بالقاهرة، وإحتفائه بنا عندما زرناه معاً في داره.
ذهب منصور إلى ربه في أيامٍ طيبات، بعد أن عانى كثيراً في أيامه الأخيرة، وحالت الظروف الصحية الراهنة دون إلتقاء كثير من تلاميذه وأبنائه في الدبلوماسية وغيرهم من عارفي فضله، لكي يعزّوا بعضهم فيه، ويذكروا مآثره. فصار كلٌ منهم يعزّي نفسه فيه على طريقته.
التميّز بين الناس ليس بالأمر اليسير. لذا فالمتميزون دوماً قلة. وأرفعهم قدراً وشرفاً من كان تميّزه بالعلم والأدب. لأنهما لايورثان، ونيلهما فيه مشقة عظيمة على النفس. وبالتالي لاينالهما إلا ذو الهمة من أهل العزائم. وقد رأيت في منصور ذلك. وأنا هنا لا أدعي معرفةً واسعة بالرجل. وكما قلت آنفاً، أنه شخصية ضخمة، يصعب على شخصٍ واحد الإحاطة بجوانبها المتعددة، مهما بلغت درجة القربى بها. ويقيني أن نصيبي بين من زاملوه وعايشوه، هُنيهة، ولكن تعلمت فيها الكثير. لذا، كان وسيظل لها أثرٌ في النفس عميق، وإمتنانٌ كبير للرجل.
لقد بنى منصور لنفسه عالماً حسياً مُترعاً بالجمال. وهو جمالٌ تأخذ بعينيك تفاصيله التي تتبدّى لك في كل ركنٍ من بيته، ليجعل من ذلك معارجاً يسبِر بها سماوات المعارف المختلفة، لتتضمّخ بجمالها المعاني، التي لاينفك يأثرك عَبَقها الفياح في كتاباته. ولكن ما أن يمس قضايا واقعنا بعقباته الكئاد، إلا ونراه شجاعاً في أُطروحاته الناقدة، قوي البيان، ساطع الحجة، محارباً غير هيّاب في الدفاع عنها. الأمر الذي جلب له كثيرٌ من المناوئين، بينهم من كان موضوعياً، وفيهم من إتّسم بالشطط والإعتساف. فحينما تطمح في النفس الخصومة، تجنح بها للإعتساف، الذي هو من سمات البشر التي لايختلف إثنان على ذمّها، خاصة عندما يكون بين أولي الفكر والنُهى. ولكن على النقيض من كثيرين، نجد أن منصور، على الرغم من "كدحه المستنير في دروب محن السياسة السودانية"، لاينفك عن موضوعيته وإلتزامه الكبير بأدب الإختلاف.
ربما يتميّز منصور على كثير من أقرانه، أنه واحدٌ من بين قلةٍ "تحتدم في أنفسهم التناقضات ولكن لايفقدون توازنهم". لذا، تتسم كتاباته دوماً برفعة الإسلوب وعمق التناول في طرح القضايا الحساسة، التي لو تيسر لصفوتنا السياسية تناولها بذات العميق والإدراك، لكان للسودان شأنٌ آخر. ولكن، في تقديري، أن متلازمة العوز النهضوي بين نخب سودان مابعد الإستقلال، في الفكر والإرادة السياسية، هي التي حدت بمنصور أن يتساءل بخيبة أمل غير خافية، حين قال: "على من تقرأ مزاميرك ياداؤود"، في ختام شهادته البليغة عن الحالة السودانية، التي تلاها في الليلة الختامية للإحتفالية الكبرى التي أُقيمت لتكريمه في النادي الدبلوماسي، وأمّها جمعٌ غفير. ولعلها كانت رسالة أخيرة للنخبة، بعد أن أعياه السعي لإحياء العزم فيها، إذ يرى دوماً أنها سادرة في غفلتها!
وقبل الختام، أرجو أن أشير بكثير من الإمتنان والعرفان لموقفٍ ينم عن النبل والأصالة لحكومة جمهورية جنوب السودان ممثلةً في رئيسها، الفريق سيلفاكير ميارديت، الذي نعى الدكتور منصور خالد للأمة السودانية، شمالها وجنوبها، وأعلن الحداد وتنكيس العلم لثلاث أيام. فوددت أن يتداعى القائمون على الأمر في البلدين، والقطاع الخاص وأصدقاءه عبر العالم والجهات المانحة، لإنشاء مؤسسة بإسمه، تُعني بقضايا السلام والتنمية، وأقترح أن تسمى: "Mansour Khalid Foundation for Peace and Development". وذلك لأننا جميعاً نعلم عِظم تحديات قضايا السلام والتنمية في البلدين، الأمر الذي يستوجب من كل الحادبين العمل على تجميع الأفكار وحشد الطاقات للتصدي لها؛ وبداهةً أن هذا سيقوي ويعزز من فرص بناء تحالف إستراتيجي بين البلدين. ونكون بذلك قد أعطينا منصور بعضاً ممايستحق، وهو الذي بذل عمره كله في هذا الشأن.
وبعد، فقد رحل منصور خالد، أحد أبرز أهرامات السودان في السياسة والفكر، وهو رجلٌ يعز نظيره، ولكن مازالت التحديات والتساؤلات التي تناولها في كتاباته الكثيرة باقية، وتحتاج الإجابة عليها إلى حواراتٍ جادة بين النخب السياسية، بمختلف مشاربها، خاصة وأن كل المؤشرات تقول إن العالم مابعد جائحة كورونا ستكتنفه تغيراتٍ هائلة، يمكن أن تضيف للسودان عناصر قوة، إذا ما أحسن إستغلالها، فسيتمكن من إيجاد حلولٍ ناجعات للعقبات الكئاد التي ظلت تلازمه منذ الإستقلال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.