إِ"ذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"، (170) البقرة. خلصت في الحلقة الاولى من سلسلة ( من زمن مؤتمر الخريجين: طالعني الخلاء) الى تثبيت مقولة ( من شابه اباه فما ظلم)، وكيف ان العلاقات والعمل السياسي الحديث في السودان ( الشمالي، باستثناء جنوبه) قد بنيت على تركة مؤتمر الخريجين- رحم داء تسلط الذاتي والشخصي على العام- وكل ما حملته من جينات الصراعات الشخصية وعلو الذاتي على الموضوعي، وكيف أحيل العمل السياسي والمشاريع الوطنية الطامحة حتي الان، إلى رفض للواقع والغرق في الصراعات والترف الفكري والخيال والمؤامرات، في وقت لم يكن يحتمل سوى العمل والمقاومة والبناء. ودعوت في نهاية الحلقة الاولى من السلسلة، مستنداً على مقولة (من كان بلا خطيئة فاليرمها بحجر) إلى السمو قليلاً من ذواتنا وهوى رغباتنا الشخصية، نحو الموضوعية في نقدنا وصراعنا وبناءنا وتأسيسنا للسلام والديمقراطية، فالحقبة الوحيدة في تاريخنا السياسي التي تعرضت لنقد لاذع، موضوعي وغير موضوعي،هي فترة حكم الخليفة عبدالله التعايشي، حيث مازال احفاده يطاردهم ذلك النقد، بشتيمته تارة، وعدم اهليتهم واحقيتهم في حكم وقيادة البلد الحدادي مدادي مرات اخر، لنطوي تلك التواريخ ونوئد تلك الضغائن والاوهام الذاتية، وصراعات نخبنا الشخصية، لنضعها وراء عدم تقدمنا منذ خروج المستعمر، متسائلا: هل تكون ثورة ديسمبر الظافرة هي تمام بدر استقلالنا؟ منذ ان وقعت عيناي على مشاهدة التلفاز في طفولتي،كل مرة في الأول من يناير من كل عام يبث التلفزيون الرسمي مشاهد اثارت تساؤلات طفولتي وحتي اليوم، وهي مشهد مغادرةاخر قطار يحمل ما تبقى من جنود وموظفي الاستعمار البريطاني وهم يغادرون السودان عائدين الي وطنهم، حتى هنا والمشهد عادي،لكن ما ظل يثير فضولي هو مشهد وداع السودانيين لهم بالمناديل والركض خلف القطار، ولا استبعد ان يكون هنا كدمع هتون قد ذرف في وداع حبيب لحبيبته او صديق/ة لصديقه/تها أو حتى جيران لجيرانهم أو سمها ما شئت، ولكنها ليست بعلاقة مُستَعمر بمُستعمِر او مُضطهِد بمُضطهَد؟ ومن يدري، فلا نستبعد تنظيم امسيات وحفلات الوداع للموظفين المستعمرين من قبل قيادات المجتمع المديني والسياسي المخملي حينها؟ هل يمكن وصف هذه المشاهد بأن السودان لم يكن مُستعمَرة في يوم من الايام؟ واقتبس هنا من الاستاذ شوقي بدري نقله من كتاب" خبايا واسرار في السياسة السودانية" للأستاذ بشير محمد سعيد، وإشارته لوثائق الخارجية البريطانية، بأن السودان لم يكن مستعمرة بريطانية ولهذا لم يتبع لوزارة المستعمرات البريطانية بل كان تحت اشراف الخارجية، بعد سقوط الثورة المهدية ومنهج كفاحها المسلح ودخول الاستعمار في العام 1898، وكذلك بعد فشل ثورة 1924 المسلحة ايضاً،اخذت العمليات السياسية وقيادة التغيير وسط النخب في السودان تتبنى منحا جديدا، من حيث الادوات ومناهج التغيير في الشمال النيلي والوسط. ويمكن تلخيص هذا المنحى الجديد القول إنها جنحت للتغير السياسي السلمي والزهد أو استنكاف التغيير المسلح أوالعنيف، على عكس ما كان يحدث في دول أخرى في معاركها ضد الاستعمار، منها كينيا - حركة الماو الماو- والتي خاضت حرب عصابات طويلة وعنيفة ضد المستعمرالبريطاني، راح ضحيته عشرات الالاف من جنود الانجليز ومن الكينيين ممن حاربوا إلى جانب المستعمر، أو حتى ممن وقفوا في الحياد، خاضت كذلك جبهة التحرير الجزائرية حروب مسلحة طويل في الصحراء والمدن الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي وقدمت التضحيات الكبيرة فيها، وغيرها من أمثلة الكفاح المسلح في أفريقيا والعالم العربي والتي قادت الى تجارب سياسية مختلفة، فما الذي طراء بعد الثورة المهدية والجهادية وثورة 24 لنجنح نحو التغيير السياسي السلمي، والزهد أوالإستنكاف عن التغيير والكفاح المسلح؟ ماهي الصفقة؟ ماهي الجينات؟ وما هي الثمرات؟ لأسباب عديدة،نحت قيادات المجتمع السياسي من الشمال النيلي والوسط وجماهيرهم الى استحسان العلاقة السلمية مع الاستعمار،على خلاف تجارب المهدية والجهادية وثورة 24،ويحدثنا التاريخ أن تلك القيادات والأسر كان انحيازها للمهدية مجبرة أو بعد أن لاحت ملامح انتصار المهدية، فمحمد أحمد المهدي حينما شرع في دعوته للثورة لم يجد الاستجابة الكبرى في الشمال أو الوسط بمقدار ما وجده من دعم بعدعبوره النهر وتوجه غربا.فقد كانت نصرة المهدية وفتوحاتها بدعم جماهير ما يعرف الان في السودان بمناطق الهامش، او المهمشينمن الغرب الكبير- كردفان و دارفور- و بشكل اكبر وسط القبائل الرعوية المتنقلة، وبتأييد أقل بكثير وسط المجموعات الزراعية والمستقرة،مثل قاطني الشمال النيلي والوسط،وهذا يفسر كذلك صعود الخليفة عبدالله كقائد أول بجانب المهدي وكخليفة له بعد رحيله، وهو ما لم يضعه الأشراف و اولاد البحر في الحسبان حينما طالبوا بالخلافة على أساس آل البيت، ومن ثم أشعلوا نار التمرد السلبي ضد الخليفة عبدالله وجنوده في الشمال والوسط. والسؤال الميتافيزيقي- خارج الجغرافيا والتاريخ- هنا: هل قال الخليفة لآل المهدي(لما تعملوا لكم جيش يحرس البلد تعالوا اتكلموا، وارسل الصادق الي الحبس؟)،أما السؤال المهاجر من التاريخ ليعيد طرح نفسه الأن مع قوات الدعم السريع:هل طغى الخليفة اولاً فنال عداء اولاد البحر؟ أم أن اولاد البحر بادروا بالعداء ففقدوا ثقة الخليفة، وحدس ما حدث؟ تم الاحجام ومقاطعة المهدية من قبل قيادات وقاطني الشمال النيلي والوسط في حقبتين هامتين، الاولي حينما رفضت الفكرة المهدية من قبل رجال الدين والمشايخ قادة المجتمعات،فاتجه المهدي غرباً وتحولت الفكرة الي ثورة،ثورة مسلحة وناجحة ضد الحكم التركي.الاحجام والمقاطعة الثانية حدثت بعد وفاة وغياب محمد احمدالمهدي،فجاهربالعداء نفس القادة ضد خليفة المهدي، الخليفة عبدالله التعايشي، فيما هو معروف حتي اليوم بصراع اولاد الغرب واولاد البحر، فرجحت الكفة لمن يملك الجيش ويملك الحق في وجه من تواروا خلف الجينات الوراثية والثقافية،و آثروا الاستقرار وعدم الدفاع عن المهدية، فكانت هزيمة وسقوط المهدية في الشمال والوسط، للتحالف النسبي لقادة تلك المناطق مع جيوش الغازي البريطاني- المصري، تلك هي جينات صورة التلفاز في الاول من يناير من كل عام في وداع المُستعمِر، فقد استقبل اولاد البحر الاستعمار بغبطة- معلنة ومسسترة، استقبال المخلص للركون للاستقرار والسلم، فاي استقرار وسلم! فقد كان من الواضح أن منهج وأدوات التغيير لدى قيادات الشمال النيلي والوسط هو ما يحقق لهم الاستقرار والركون إلى التغيير البطئ بما يحفظ لهم الامتيازات والمكتسبات التاريخية. وباستثناء حركة اللواء الابيض،وهي حركة عسكرية من داخل مؤسسة الجيش الانجليزي،يصلح وصفها بالانقلاب العسكري، وليست حركة جماهيرية مسلحة، كما حدث في مناطق اخرى كثورة السلطان عجبنا في مناطق النيمينغ في جنوب كردفان/جبال النوبة في العام 1917 وثورة النوير في شرق اعالي النيل خلال عامي 1927 -1928،فلم تجد حركة اللواء الابيض التأييد الشعبي أو من القيادات المدنية الاجتماعية السياسية في الخرطوم،لأسباب مختلفة حسب موقف ومصلحة كل قيادي،قد تكن غالبية قيادات الشمال النيلي والوسط تلك لم تتعافى بعد من جروح المهدية،المنتصرة حينها على ذواتهم وأوهام شخصياتهم، وكانت تخاف من تكرار التجربة بقيادة جديدة من ابناء ليسوا من صلبهم،ولا يريدون بالزج بابنائها في صراع عسكري غير متكافي وغير معروف النتائج، بالاضافة الى عدم الرغبة،بالتاكيد، في رهن الاستقرار النسبي والامتيازات التي جلبها الاستعمار بالولوج في مغامرة غير معلومة الجينات الوراثية-الثقافية. منذ تلك التجربة، ثبت بوضوح أن حقبة الثلاثينات دشنت حقبة جديدة للعمل والعلاقات والقيادة السياسة،عمادها الاحجام والمقاطعة والشيطنة للكفاح المسلح، حقبة "طالعني الخلا " كما جاء في عنوان هذه السلسلة، وهي حقبة مستمرة حتى اليوم- مؤتمر الخرجين. حُقنت الحياة السياسية السودانية بمصل وفكرة مؤتمر الخريجين ( لا يعرف في اي معمل) في منتصف الثلاثينات بالأنشطة الثقافية والاجتماعية، وبدأت الدعوة لتجمع الخريجين في مقال لخضر حمد في جريدة السودان في العام 1935، ثم ابرز الفكرة ونادى بالاتحاد الفكري لاندية الخريجين احمد خير المحامي في محاضرة له بنادي الخريجين بود مدني في العام 1937، وعرضت الفكرة على لجنة نادى الخريجين بام درمان برئاسة إسماعيل الأزهري،والذي لم يتحمس للفكرة في بادي الامر، الى ان تمت الموافقة على مؤتمر عام للخريجين، اصدر بموجبه السكرتير الاداري للاستعمار الثنائي البريطاني- المصري منشوراً مؤيداً وداعياً لقيام مؤتمر الخريجين. ميلاد مؤتمر الخريجين- رحم تسلط الذاتي على الموضوعي، والشخصي على العام- جاء مدشناً لفصل جديد تعيش سطوره حياتنا وحركتنا السياسية حتي اليوم، جوهره تسوية الصراع ونزع جذوة نار التحرر والانعتاق ويقظة مبادئ المساواة والعدالة، ومستقراها في سياسية ما هو متاح وممكن، سياسة إشباع الامتيازات والأهواء الذاتية، والمحافظة على الإستقرار النسبي، اياً كانت الازمات خارج حاظنة تلك الامتيازات، ولنا في تجربة حاضنتنا السياسية الحرية والتغيير الماثلة اسوة سيئة! في الحلقة الثالثة من سلسلة ( من زمن مؤتمر الخريجين: طالعني الخلاء) سنبحث عن جينات كائن مؤتمر الخريجين، وجودها من عدمه وتقاطعاتها، في نشوء وتطور وما آلت اليه حركات الكفاح السياسي المسلح.