عثمان ميرغني يكتب: مقال البرهان    وصول 260 ألف جوال من الأسمدة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالجزيرة    النيابة العامة تقيّد بلاغًا جنائيًا ضد ناشري خطاب مُفبرك منسوب لنيابة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه    من أسوار الملاعب    رباعية من أيندهوفن في ملعب أنفيلد تعمق معاناة ليفربول    هاشم الأمين رئيسا لبعثة نادي حي العرب الى كسلا    (خواطر …. سريعة)    الخرطوم تشترط لوقف إطلاق النار وواشنطن تريد هدنة بدون شروط    السودان يهزم لبنان ويتأهل لكأس العرب بقطر    إبراهيم شقلاوي يكتب: الكهرباء وفرص العودة إلى الخرطوم    شاهد بالفيديو.. التيكتوكر المثيرة للجدل سماح عبد الله تسخر من الناشطة رانيا الخضر والمذيعة تغريد الخواض: (أعمارهن فوق الخمسين وأطالبهن بالحشمة بعد هذا العمر)    شاهد بالصورة والفيديو.. بثوب فخم ورقصات مثيرة.. السلطانة تشعل حفل غنائي بالقاهرة على أنغام "منايا ليك ما وقف" والجمهور يتغزل: (كل ما نقول نتوب هدى عربي تغير التوب)    رئيس الوزراء يوجه بترقية وتطوير الأداء بمطار بورتسودان    شاهد.. "بقال" يحاصر القائد الميداني "يأجوج ومأجوج" بأسئلة ساخنة وحرجة: (أذكر السبب الحقيقي لخروجنا من الخرطوم؟ ومن أي كلية تخرج عبد الرحيم دقلو كما زعمت؟)    هل استقال وزير الدفاع؟ غياب مثير للجدل وتكتم رسمي    شاهد بالفيديو.. (حرم وعلي الطلاق) طبيبات سودانيات بإحدى دول الخليج يتصارعن على دفع الحساب داخل المطعم ويخطفن إعجاب وضحكات الجمهور    القيادية بالحرية والتغيير حنان حسن: (أبوي داعم للحرب وهو الان في موقف غلط ودا ما محتاج مجهر او نظرة مرتين وكتار بضغطوا عليه بسبب مواقفي وخياراتي)    النيابة العامة تقيّد بلاغاَ جنائياً ضد ناشري خطاب مُفبرك    تعرف على أكبر هزيمة في تاريخ برشلونة بدوري أبطال أوروبا    فضيحة كندية بشأن خطوة خطيرة في السودان    بيان الصراخ... لماذا تفقد دبلوماسية سلطة ابوظبي المنطق ؟    هل القحاتة عشان لابسين بدل وبتكلموا انجليزي قايلين روحهم احسن من ابو لولو ؟    مصر.. تحذيرات بعد إعلان ترامب حول الإخوان المسلمين    لاعبو المنتخب الوطني يرفضون أداء التمرين بقطر ويعودون للفندق والسبب تأخير "الحافز"    شاهد.. بعبارة "كم شدة كشفت معادن أهلها" صورة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تزين شوارع العاصمة السودانية الخرطوم    لماذا يصعب الإقلاع عن التدخين؟    "نفير الأغاني".. رهان على الفن من أجل السلام    التضخم ..."غول" يحد من قدرة السودانيين على الشراء    بنك الخرطوم: استوفينا جميع المطلوبات لافتتاح فرع للبنك في مصر    السودان.. قرار بحظر نشاط صيد الأسماك وإغلاق لبحيرتين    لجنة عودة المواطنين للعاصمة تتفقد أعمال تأهيل محطات المياه والكهرباء بمحلية الخرطوم    لماذا لا ينبغي التعويل على تصريحات ترامب    شاهد بالصورة والفيديو.. أحدهم وقف أمامه وأنشد قصيدة.. "تمثال" قائد الجيش "البرهان" يثير جدلاً واسعاً وسط تعليقات متباينة ما بين مشيدة ورافضة (الكاهن يستحق أكثر من ذلك ورجعنا لعبادة الأصنام)    أطباء ينصحون بتقوية المناعة قبل دخول الشتاء    تحديث «إكس» يفضح مواقع إنشاء حسابات قادت حملات سلبية ضد السعودية    زراعة الخرطوم ومنظمة الفاو تنفذان حملة تطعيم الماشية بولاية الخرطوم    ادارة مكافحة المخدرات ولاية النيل الابيض تضع حدا لنشاط شبكة إجرامية متخصصة في الإتجار وتهريب الحبوب المخدرة    أكبر هبوط شهري منذ انهيارات الكريبتو في 2022.. لماذا ينهار سوق العملات المشفرة الآن؟    إدارة مباحث كسلا تفكك شبكة إجرامية لتهريب البشر يتزعمها أحد أهم المطلوبين الهاربين من السجن    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    أمريكا تفتح بوابة الرقاقات المتقدّمة أمام G42    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    شاهد.. صور ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان مع علم السودان تتصدر "الترند" على مواقع التواصل والتعليقات تنفجر بالشكر والثناء مع هاشتاق (السودان بقلب بن سلمان)    الطيب صالح ناهض استعلاء السلطة عبر "الكتابة السوداء"    دونالد ترامب يفجّرها حول حرب السودان    فريق ميداني متخصص من إدارة مباحث ولاية كسلا يسدد بلاغ خاص بسرقة عربة بوكس    الطاهر ساتي يكتب: مناخ الجرائم ..!!    الطاهر ساتي يكتب: أو للتواطؤ ..!!    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ونستون شيرشل والعالم الإسلامي: مواجهات مُبكرة .. بقلم: واران دكتر .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 06 - 06 - 2020

Winston Churchill and the Islamic World: Early Encounters
Warren Dockter واران دكتر
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لأجزاء وردت في مقال نشر في ربيع عام 2009م بمجلة "المؤرخ The Historian" عن أولى المعارك التي شهدها الزعيم السياسي البريطاني ونستون شيرشل (1874 – 1965م) في بعض دول العالم الإسلامي.
حصل الكاتب على درجة البكالوريوس في التاريخ والعلوم السياسية من جامعة تنسي الأمريكية، وعلى درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة نوتنغهام البريطانية. وكان بحثه في الدكتوراه عن ونستون شيرشل وعلاقته بالعالم الإسلامي.
للمزيد عن ونستون شيرشل يمكن الاطلاع على سيرته الذاتيه في الموسوعة البريطانية (https://www.britannica.com/biography/Winston-Churchill).
وسبق لنا ترجمة مقدمة كتبها شيرشل لكتاب مترجم للإنجليزية بقلم النمساوي ريتشارد بيرمان عنوانه "مهدي الله" صدر في عام 1932م (https://www.sudaress.com/sudanile/70638)، ومقالات متفرقة أخرى عن معركة كرري.
المترجم
********** ***************
لقد ترك ونستون شيرشل أثرا كبيرا على تاريخ بريطانيا والعالم في القرن العشرين. وكُتب الكثير عنه وعن أدواره في غضون سنوات الحرب العالمية الأولى والثانية. إلا أن علاقاته بالعالم الإسلامي لم تحظ إلا بقليل من الاهتمام البحثي. وهذا تقصير غريب بالنظر إلى موقعه كوزير للمستعمرات كان له دور عظيم في تشكيل الشرق الأوسط، ولاهتمامه بذلك الجزء من العالم إبان الحرب العالمية الثانية. ونحاول في هذا المقال التطرق لعلاقة تشرشل بالإسلام وبالشرق الأوسط في مرحلة باكرة من حياته (1890 – 1908م)، وهو موضوع ظل مهملا عند غالب المؤرخين.
كان أول عمل لتشرشل في العالم الإسلامي هو وظيفة ملازم أول في فوج سلاح الفرسان (الخيّالة Hussars) الرابع على الحدود الهندية مع أفغانستان. وكانت القبائل الأفغانية المسلمة التي تقطن على طول طريق شيترال عبر وادي سوات الذي يمر عبر معبري شقرة/ چکدره وملاكاند تعارض بشدة "سياسة التقدم للأمام Forward Policy" التي تقضي بإعطاء الحق للقوات الإمبريالية في تأمين حدود (المناطق المستعمرة) حتى يتم ضمان الاستقرار الاقتصادي الذي سيتعرض للتهديد من القبائل المسلمة. وكان يقود ثورة القبائل المسلمة في تلك المنطقة الملا سعيد الله، الذي كان يطلق عليه البريطانيون "الفقير المجنون". ووصف تشرتشل الرجل في كتاب له صدر في عام 1897م بأنه "من الهواة المتوحشين، وشديد الإيمان بأنه يمتلك قدرات خارقة، وبأنه مبعوث العناية الإلهية للدعوة لشن حرب جهادية ضد الكفار". وكانت القلعتان البريطانيتان في چکدره وملاكاند تتعرضان لهجوم من قوات القبائل المسلمة في المنطقة، أوقع بعض الخسائر في القوات البريطانية قدرها تشرشل ب 153 فردا. وردا على ذلك الهجوم، بعثت السلطات البريطانية سريعا بالسير بندون بلد على رأس فرقة إنقاذ مهمتها إيقاع أشد أنواع العقاب على رجال تلك القبائل المعتدية، فيما عرف بسياسة القتل دون رحمة (butcher and bolt policy).
وكان تشرتشل متحمسا للدخول في مغامرة جديدة، فطلب أن يُسمح له بالانضمام لتلك الفرقة المتوجهة لوادي سوات، والخدمة العسكرية تحت قيادة السير بندون بلد. وعلى الرغم من أنه لم يحصل على وظيفة رسمية في تلك الفرقة، إلا أنه أُلحق بها باعتباره "مراسل حرب" في عام 1897م. وفي تلك الأيام كتب تشرشل الكثير من التقارير الصحفية، قام لاحقا بجمعها في كتاب صدر بعنوان: "قصة قوة ملاكاند الميدانية: وَاقِعَة في حرب الحدود" ونشره في أواخر عام 1897م. ويمكننا أن نبدأ من تلك الكتابات الأولى في تجميع ما تناثر من أفكار لتشرشل وتفسيراته الباكرة للإسلام ومن يحاربون باسمه.
وتراوحت مقالاته التي كان يبعث بها للصحف الإنجليزية بين الازدراء الصريح للإسلام، مثل قوله: "إن دينهم يمثل أتعس صور التعصب، تتمثل فيه – بصورة متساوية – القسوة والسذاجة واللاأخلاقية وسرعة التصديق دون تبصر"، وبين نوع من الاحترام في الأمور الحربية، مثل قوله: "سوف يكون من الظلم أن ننكر سمعة الشجاعة ومهارة التكتيك وإجادة الرماية التي يتمتع بها - عن حق - شعب وادي مهمند".
غير أن تشرشل، مع تطاول إقامته في أفغانستان، بدأ في مراجعة نفسه في أمر الصحة والشرعية الأخلاقية للحملات التأديبية التي أجازتها سياستي "التقدم للأمام" و "القتل دون رحمة" الامبرياليتين. ووصف تشرشل السياستين بأنهما يتصفان بالإذلال والحط من الكرامة، وانتقدهما بالقول: (إن استخدام كلمات مثل "مد تعزيز نفوذنا" لا يحمل أي معنى سوى ضم تلك الأراضي لممتلكاتنا في نهاية المطاف). وأضاف تشرتشل أيضا: (ورغم أن سياسة "التقدم للأمام" أكسبتنا بعض الأراضي، إلا أنها جلبت لنا معها حربا " أبعدت إمكانية إقامة سلام فيها" إذ أنها "مددت من أراضي حكومة الهند لأبعد من خط حدودها الطبيعية".
ويلاحظ أن تشرشل قد أشار إلى لاأخلاقية سياسة "التقدم للأمام"، ولكنه أوضح أيضا أنها سياسة فاسدة اقتصاديا حيث كتب التالي: "ومن ناحية اقتصادية، فلن تدفع التجارة في الأودية حول الحدود أبدا شلنا واحدا عن كل جنيه تجنيه للحملة العسكرية اللازمة للحفاظ على الأمن في المنطقة".
وتتضح أكثر خيبة أمل تشرشل وتحرره من وهمه السابق في آخر تقرير صحفي بعث به نوشيرا حين كتب: "يؤسفني القول بأني لا أرى أي دليل على استدامة ممكنة في المستوطنات التي أقمناها (في وسط) رجال القبائل .... لقد عاقبناهم ولكننا لم نخضعهم، وجعلنا منهم أعداءً دون أن نتمكن من جعلهم غير مُضَرّين (لنا). فتعصبهم ما زال ثابتا لم يتزحزح، وبربريتهم بقيت على حالها ... وما زال لغز الحدود عصيا على الحل".
******** ********** **********
أما محاولة تشرشل الثانية لاقتحام مغامرة عسكرية جديدة فقد كانت في السودان، حين بُعث اللواء هيربرت كتشنر (سردار الجيش المصري) لاستعادة السودان وعاصمته الخرطوم التي خسرها الحكم التركي – المصري لمحمد أحمد "المهدي" وأنصاره في يناير من عام 1885م. وبعد حوالي نصف عام مات قائدهم متأثرا بمرض التيفوس، وخلفه عبد الله بن محمد (الخليفة)، الذي أقام عاصمته في أم درمان، وغزا إثيوبيا وأحتل غوندار (عاصمة الحبشة قديما. المترجم) وغنِم كل ما فيها، وبذا عزز سلطته على مناطق أعالي النيل.
وأخفق تشرشل مرة أخرى في الحصول على تعيين رسمي في جيش كتشنر، مما أضطره لاستخدام نفوذ أمه في الحصول على موقع في الصفوف الأمامية لذلك الجيش. وأفلحت دسائس الأم في الحصول لولدها على موقع بين صفوف الفرقة 21 لانسر في عام 1899م من دون علم كتشنر. وكان موقعه يتح له فرصة الاشتراك في الهجوم الذي تشنه قوات سلاح الفرسان، وأن يرى بعينيه حدة المعركة وضراوتها، وأن يعمل كمراسل صحفي أيضا. وسجل تشرشل ملاحظاته وتجاربه عن تلك المعارك ونشرها لاحقا في كتاب بعنوان:" حرب النهر" صدر عام 1899م (صدرت للكتاب ترجمة عربية بقلم عبد الله محمد سليمان ومراجعة أحمد محمد سعد عام 1999م، شملت مقدمة ضافية بقلم بروفيسور عبد الله الطيب، وأخرى لعز الدين موسى عام 2002م. وربما هنالك ترجمات أخرى. المترجم)، وهو من الكتب التي دأب المؤرخون على الإشارة إليها عندما يتعلق الأمر بمواقفه من الإسلام لكونه بدا مزدريا به، إذ وصف الإسلام في كتابه بأنه (مفارقة تاريخية حدثت في غيرها وقتها الصحيح"، وأنه "عَطَّلَ وشلَّ السودانيين، رغم أنهم، من ناحية أخرى، أناس يظهرون الكثير من (الصفات الحميدة)".
وعلى الرغم من لهجة تعابيره الدالة على عدائه للإسلام، إلا أنه ظل كريما رحب الصدر حيال أعدائه المهزومين، وحيال الثقافة الإسلامية. وكان كثيرا ما يمدح "شجاعة الدراويش"، فقد علق في كتابه على عبارة "التعصب المجنون" التي أطلقها المنتصرون على أفعال الدراويش ووصفها بأنها" ظلم قاسٍ". وأضاف أيضا: "لماذا نعد ما يعتمل في نفوس المتوحشين البرابرة جنونا، بينما نعده جليلا وساميا عند المتحضرين؟ لذا أتمنى، أن قُدر لبلادنا نفسها أن تتعرض لأيام يسود فيها الشر... أن يكون هنالك بعض منا لا يهمهم أن يعودوا أنفسهم على نظام الوضع الجديد، وأن يروضوا أنفسهم على النجاة بهدوء من كوارثه".
وكان أبلغ دليل على سعة صدر وتعاطف تشرشل مع الدراويش المسلمين في السودان هو إدانته للطرق العدائية التي كان كتشنر يستخدمها خلال الحرب. ففي تلك الأيام أرسل تشرشل لوالدته خطابا في يوم 26 يناير من عام 1899م أكد لها فيه أن "الانتصار في أم درمان كان قد أٌشين بوصمة القتل اللاإنساني للجرحى ... وكتشنر هو المسؤول عن ذلك". بل رفض تشرشل سحب إدانته لطرق كتشنر المفرطة العدائية من الفضاء العام، رغم أنها كانت غير مقبولة سياسيا عند غالب الناس. وأعلن تشرشل عن إصراره على الإبقاء على نقده (لكتشنر) الذي سجله في الجزء الثاني من "حرب النهر"، الطبعة الأولى، صفحتى 211 – 212 م، وجاء فيه:
"... لقد كان ذلك المكان، لأكثر من عقد من الزمان، هو الأكثر حرمة وقدسية عند السودانيين هنا... ولكن – بأوامر من سير هيربرت كتشنر - تم قصف تلك القبة بالمدافع وسويت بالأرض. وتم نبش قبر المهدي وفصل رأسه عن بقية جسده... وألقيت أطرافه في عرض النيل. تلك هي فروسية المنتصرين وشهامتهم!".
وأعانت مظاهر الشجاعة الي أبداها تشرشل، والصِّيتُ الذي أصابه كمراسل حربي في فوزه في انتخابات البرلمان عام 1900م. وبعد خمس سنوات تم تعيينه وكيلا لوزارة المستعمرات، وهي وظيفة كانت تقتضي منه الاعتماد على خبرته في التعامل مع الثقافة الإسلامية التي غدا بها من المفتونين. بل تلقى تشرشل رسالة من الليدي قوينديلين بيرتي صديقته القديمة (وأخت زوجته فيما بعد) في يوم 27 أغسطس 1907م، تتمنى له عودا حميدا من رحلته خارج البلاد، وتناشده وتلتمس منه ألا يعتنق الإسلام. جاء في خطابها له ما مضمونه:
"أرجوك ألا تتحول للاسلام. لقد لاحظت عندك نزعة ولع بالأشياء الشرقية (نزعات باشوية!). صدقني. هذا ما لاحظته مرارا. لا تتضايق مما أقوله لك الآن. لو قدر لك أن تقرب من الإسلام، فسوف يكون تحولك له أسرع وأسهل مما تفترضه. بحق رابطة الدم، ألا تدرك ما أقصده .... يجب عليك أن تقاوم نزعتك تلك".
************ ************ **********
كانت أولى الأعمال التي قام بها تشرشل كوكيل لوزارة المستعمرات هي زيارات غير رسمية للمستعمرات البريطانية، بدأها بزيارة لقبرص التي كانت تحت سيطرة بريطانيا منذ عام 1878م. وقبرص هي نقطة مراقبة بحرية بالغة الأهمية لقناة السويس ولضمان السيطرة البريطانية على البحر الأبيض المتوسط. وقوبل تشرشل في قبرص بمظاهرات عاصفة من سكان الجزيرة الذين يؤيدون الاتحاد مع اليونان. ولم يبد على تشرشل أنه تأثر بتلك العواطف الجياشة ولا بالأعلام المرفوعة حين خاطب المتظاهرين بالقول بأن "بريطانيا العظمى تحترم المشاعر الوطنية عند العرقين (أي الأغاريق والمسلمين)". ومن أجل مزيد من التقريب والتوفيق بين رغبات الأغاريق ومسلمي قبرص وبين مصالح الإمبراطورية البريطانية قرر تشرشل ضخ المزيد من الأموال المستثمرة في الجزيرة لترقية وتنمية حياة ورفاه عنصري السكان بالجزيرة، ولحثهما على الاتفاق فيما بينهما. وبقي تشرشل حازما في رفضه القاطع لعودة قبرص لليونان، إذ أن ذلك سيكون- في رأيه - ضارا بالمسلمين. وكتب في تقرير رسمي أن إعادة قبرص لليونان من شأنه أن "يعرض حياة المسلمين بالجزيرة (وهم يمثلون خُمس السكان، وكانوا دوما مخلصين لبريطانيا) للخطر والتدمير".
وبعد رحلته لقبرص توجه تشرشل لشرق وجنوب أفريقيا. وسجل خواطره وتجاربه في تلك الرحلة في كتاب بعنوان "رحلتي الإفريقية My African Journey" صدر عام 1908م. وسجل تشرشل في ذلك الكتاب بعض أفكاره حول المدنية والبربرية، واستعرض فيه أيضا تاريخ الثقافات الأوروبية والآسيوية والإفريقية، وشمل ذلك الثقافة الإسلامية. وأشاد في كتابه بالدور الذي أداه الدين الإسلامي في تمدين سكان شرق أفريقيا، وأَثْنَى على الإسلام باعتباره "أرفع شأنا من عِبَادَات القبائل المحلية الوَثَنِيَّة".
وساهم تشرشل، من خلال وظيفته كوكيل لوزارة المستعمرات، في رسم سياسة تهدف لزيادة دعم النظام التعليمي بالسودان.
نختم بالقول بأن موقف تشرشل من الإسلام كان أكثر تعقيدا مما يفهمه الناس عادةً. وربما يكون لشخصيات بريطانية مثل هيربرت كتشنر ولورد كيرزون (والي الهند) فهما أعمق للاسلام مما توفر لتشرشل، إلا أن تشرشل كان على الرغم من ذلك يديم التفكر في الإسلام، على خلاف كثير من الساسة البريطانيين والاستراتيجيين العسكريين في العهد الإيدواردي. ومنح ذلك التفكر تشرشل نفاذ بصيرة لا نظير لها للعالم الإسلامي، وساهمت تلك البصيرة النافذة في تشكيل رؤيته الجيوسياسية للعالم بأسره.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.