لو كانت المؤخرات ورودا، لرقص الناس عُراة.. صار من نافلة القول هذه الأيام المتأخرة تداول الحديث عن نجاح غير مسبوق لما يعرف بشركات المنظومة الدفاعية والأمنية المملوكة للجيش والأنظمة الأمنية بالبلاد، بعدما شاع من ادعاءاتٍ بعزمها التقدم بدعم سخيّ للخزينة المركزية. تلك المنظومة التي تمنّعت مدعومة بجنرالات في الجيش عن الإنضواء تحت ولاية وزارة المالية الفيدرالية، طوال عهد الإنقاذ وما بعده، شأنها كشأن غيرها من مؤسسات الحق العام. ربما لأن القائمين عليها قد تراءى لهم أنما بأيديهم من السلاح يسوّق لهم أسباب تمردهم على السلطة المدنية الأعلى في البلاد، لأنها خالية اليدين ولا تتقنُ الكرّ والفرّ وما شاكلهما من القنص والطِعَانِ وفنون العراك. 1/ المحميات الإقتصادية هذه المنظومات وغيرها من المؤسسات التي قام ببنائها النظام المخلوع لتقوية شوكته وبأسه، مستخدما في ذلك حقنات جبارة من الأصول والأموال العامة دون حساب، قد وُلدت عملاقة ومحصنة تماما لدرجة جعلت ولوجها محرماً على المراجع العام للدولة، مما يرفع عقيرة التساؤل والشكوك عن ماهية تأهيل الجهات التي تنعق بنجاح هذه المنظومة الأمنية وتدعي ان وجودها وحمايتها سيكون مفتاحا للعبور الإقتصادي. ماهي المرجعيات والمؤهلات التي تخوّل لتلك الجهات أن تحكم بصورة محايدة ومهنية، ما إذا كانت تلك المنظومة ناجحة بالفعل، أم أنها أرهقها الوهن فعادت كمِنسأةِ سليمان وقد نخرت دابةُ الأرض في عودها. إن القاسم المشترك في معظم، إن لم نقل كل هذه المؤسسات التي كان يتبناها النظام المخلوع أنها قد نشأت كمحميات إقتصادية، بحيث يتمتع معظمها بإعفاءات ضريبية غير محدودة وسارية لآجال غير مسماة، كما أن مدخلاتها من المواد المستوردة عبر الموانئ كحصان طروادة، لا تخضع لأي رسوم أو حتى إجراءات رقابية من سلطات الجمارك في البلاد. فليس لسلطات الجمارك الحق في التدقيق في هذه المدخلات للتحقق من مواصفاتها او كمياتها، فانه من غيرالمتاح لسلطة الجمارك التقاطع مع منقولات تابعة لوزارة الدفاع أو الأجهزة الأمنية العليا مضروب عليها ستار من السرية، وتحظي في الوقت نفسه بالحماية من قمة هرم السلطة السياسية. بل أكثر من ذلك، فإن إعتمادات مالية بلا حدود قد تم حقنها في هذه المؤسسات الإقتصادية المدللة، مما يشي بضخامة الإنفاق الإستثماري من الأموال والممتلكات العامة، التي بذلها النظام فيها. 2/ المعايير والمرجعيات المحاسبية إن ما يدور في الذهن من التساؤلات يتعلق بدءا بطبيعة المعايير المحاسبية التي تحتكم إليها وتتقيد بها الإدارات المالية لتلك المؤسسات العملاقة في غياب المراجع العام. إذ كيف يطّلِعُ القائمون عليها بتقدير تكاليف عملياتهم الإنتاجية في إقتصادٍ كليٍّ ظل يشهد لعقود متتالية، تدهورا مستمرا في القيمة التبادلية لعملته الوطنية حتى كادت أن تتجاوز في تضاؤلها الثلاث خانات الأولى على يمين الفاصلة العشرية من قيمتها ساعة صفر أنقلاب الإنقاذ. هل يقومون باحتساب مخصصات الإهلاك للأصول الثابتة والنقدية إعتمادا على القيمة الدفترية الإسمية، أم ياتُرى أنهم يطبقون مخصصات إهلاك حقيقية أو مُعايرة، بحيث يمكنهم إستبعاد ومعادلة التضاعف الإسمي الظاهري في أرباحهم الإجمالية؟. أم أنهم يحلبون البقرة ويتداعون لحفل الشواء في آنٍ معا. هل يا تري يقومون بفتح حسابات أمانات (بروفيشانال) قابلة للدفع لمخصصات ضريبة الدخل، وضرائب الإنتاج (الإكسايس ديوتي تاكس)، للتميبز ما بين الأرباح الحقيقية للعملية الإنتاجية، وتلك المبالغ الوهمية التي تشكل استحقاقات ضريبية محجوزة بالقوة، عن الخزينة العامة. أم أنهم يراكمون على السنين تلك المخصصات الضريبية، ثم يعودون للإعلان عن تراكمات لأرباح كبيرة ووهمية، لا تعدو كونها أموال عامة تم التعدي عليها وحجزها بالقوة لتدعيم حكايات وأساطير نجاح متوهم. هل يا تري أنهم يقومون بالإحتفاظ بحسابات مخصصة قابلة للدفع للإدارة العامة للجمارك السودانية، أم أنهم يحشدونها هي الأخرى من ضمن مبالغ القرصنة السيادية، وكأنهم يحسبون لنا فيما يحسبون بيوض السحالي والثعابين من تحت ستار العتمة، فيخالطون متعمدين ما بين حساب الحقل والبيدر. 3/ الأسواق المعزولة تساؤلات وشكوك كثيرة تراود المراقب لتلك المؤسسات الوالغة في ثدي النظام لعشرات السنين، في أنها تحظى باحتكار مانعٍ للمنافسة في أسواق منتجاتها التقليدية، دون معايرة للكفاءة ولا للفعالية، مادامت الإدارات التي تقوم بتقديم العروض تكاد أن تكون هي نفسها الإدارات التي توافق على المناقصات وتوقع على أوامر الشراء. بحيث تخلو تلك العرصات تماما من المنافسين أو المراجعين ومدققي الجودة والحسابات وسلامة القرارات الإدارية. ما زال بعضها قائما، وانهار بعضها الآخر كمن يتردى من شاهق، ليخرج من بين الأنقاض أناسٌ كأبناء الحيّات، مليونيرات وأصحاب أملاك وشراكات عبر العالم، أشخاص كانوا مجهولين لم يعرف عالم المال والأعمال لهم ولا لأسرهم ذكرا ماقبل الإنقاذ. أسعار العرض لمنتجات تلك المحميات المالية بإمكانها على الدوام أن تُقدّر لتوائم الصيغة السحرية التي تستوعب الربح المرجو في الوقت الذي تغطي فيه كافة التكاليف (كوست بلاص برايسينغ)، لا أحد يعبأ بتكاليف الإنتاج الباهظة، فإن الكافل الأخير وهو وزارة المالية الإتحادية سيكون لزاما عليها أن تقابل دون قصور الإحتياجات الإستراتيجية للجيش والأجهزة الأمنية، ما دامت جذوة الحرب ما زالت متقدةً في مكان ما.. فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. ليس هناك ما يدعو للقلق، فإن إعتمادات الموازنة لمقابلة الإنفاق الأمني والعسكري لا سقف لها البتة، حتي لو بلغ ذلك ثلثي الموازنة الفدرالية أو حتي إن تجاوزهما. فقد روي عن الدكتاتور المخلوع أنه قال في إحدى خطبه "فليعلم الناس أننا لو أنفقنا كل الموازنة الحكومية في الجيش لما كفيناه حقه". 4/ العائد الإجتماعي والبيئي للمشروعات ربما يصبح كل ماتقدم بلا أهمية تذكر، إذا ما كانت المردودات البيئية والإجتماعية المصاحبة لتلك المنظومات إيجابية لدرجة تجعل وجودها حتميا. فإنه لا جدال البتة في أن بعض مشروعات القطاع العام قد تتعاظم فوائدها ومساهماتها الإجتماعية البيئية للدرجة التي تقلل من أهمية إنجازها علي مستوى حساب الأرباح والخسائر. يتبدى ذلك من خلال مساهماتها في الدفع بفرص توظيف كبيرة لتخفيف عبء العطالة، وكذلك لما ترفد به السوق من الحراك الإقتصادي، حجم مقدر من النشاط التجاري من عمليات الشراء والبيع مما يساهم إيجابا في معدلات النمو في الناتج الإجمالي المحلي، هذا بالإضافة للإثار والمكاسب أو الخسائر البيئية التي يتوقع أن تصاحب المشروع، كمساهمته في توسيع الغطاء الأخضر، وفي مضاعفة أو الحفاظ على الحياة البرية. وأغلب الظن فإن ذلك التقييم في العادة ما تتضمنه الدراسات الأولية لجدوى المشروعات. يحق لنا التساؤل عما إذا ما شملت الدراسات الأولية لتلك المنظومات الدفاعية تقييما لمثل تلك الإعتبارات؟ نرجو أن يكون شيئٌ مثل ذلك قد حدث بالفعل، هذا على الرغم من أن حدسي يدفعني في إتجاه مغاير،) لأن تلك الصناعات ليست صناعات تحويلية (أقريكالشاريلي بيزد مانوفاكشار) بحيث توظف الميزات النسبية للإقتصاد الوطني، كما أنها ليست إمبورت سابيستيتيوشان إندستريس لتحييد الطلب المحلي على الواردات ومن ثمّ تخفيف طائلة العبء على الإحتياطات النقدية من العملات الصعبة لم يكن الدافع شيئا من ذاك القبيل. لم يكن البتة تقديرا لاحتياجات البلاد وجدواها الإقتصادية، إنما تناغما مع هموم الإستراتيجية الأصولية الأممية التي رافقت تحرك الإسلاميين المسلحين في الإستيلاء على السلطة بالقوة في الخرطوم، كواحدة من فقرات الحلم السياسي للحركات الإسلامية حول العالم، حيث كانت أولى الإنشطة إعلان الخرطوم كسماء آمنة ومفتوحة لاستقبال وحماية الأصوليين الإسلاميين المتعطشين للسلطة. أتبع ذلك إعلان إستضافة الخرطوم لمؤتمر إسلامي عالمي حيث تجمع تحت سقفها كل المعارضين للأنظمة العربية ليعلنوا التمرد وشارات الوعيد والعصيان من تحت سماء الخرطوم وتحت حمايتها. بصورة مواقتة لما يحدث من إعلان للمواجهة والتمرد على الصعيد السياسي، كانت الأموال قد بدأت تتسلل للخرطوم لتشارك في إنشاء أول منشأة من نوعها في تاريخ البلاد الإقتصادي، منشأة لم تكن تستهدف مضاعفة الكم الإقتصادي ولا لمقابلة إحتياجات البلاد الملحة في التنمية وتطوير البنى التحتية الفقيرة، إنما لإنشاء منظومة للصناعات الحربية من الآليات المدرعة الثقيلة، وحتى المستهلكات من المؤن والذخائر وعبوات الغاز المسيل للدموع لقمع الإحتجاجات الشعبية. إن أول الخسائر الإجتماعية التي أحدثتها هذه الإستثمارات إنطلاق القلق الدولي بإعتبار البلاد، على مستوى العالم، كواحدة من البقع التي تهدد الإستقرار والسلم الدوليين، وواحدة من محاور الشر التي تغذي الضغائن والحروب الإقليمية، وما يتبع ذلك من النزوح والكوارث الإنسانية. تسبب كل ذلك التحشيد الأصولي في أن قاد أمةً ظل أهلها لسنين عديدة يعانون من الفقر والفاقد التنموي، كيما تعاني من جديد لربع قرن من الزمان من الحصار والعزلة الدولية. إن المردود الإجتماعي والمردود غير المباشر على الإقتصاد الكلي لتلك الإستثمارات على السودان، لا يعدو كونه أكبر كارثة عرفها تاريخ البلاد الحديث فيما بعد الثورة المهدية. 5/ محسنون ذوو أسمال: إنه لمما يدعو للعجب أن يتخذ المانح موقع المتسول، بينما يتحول المتسول ذو الأسمال إلى محسنٍ يعطي الهبات ويمنعها كيف يشاء. فكيف لمؤسسات يفترض أنها تم تمويلها وتشغيلها بواسطة أموال وأصول مملوكة لأمة أرهقها الفقر، أن تصبح من الثراء بحيث تعلن على الملأ أنها تتبرع لشعب نفس تلك الدولة من فقره، بثمن ما يكفيه من الخبز والطحين لأربع سنوات متعاقبات. إن ذلك لا يعدو كونه دليل بائس على أي مدى تعرضت وتتعرض فيه ثروات وأصول هذي البلاد للنهب والإبتزاز المنظمين. إنتهى
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.