بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الرُّوْزْنَامَة وَالسَّرْدْنَامَة! .. بقلم: جَمَال محمَّد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 15 - 03 - 2021


جَمَال محمَّد إبراهيم
(سفير وروائي ونائب رئيس اتِّحاد الكتَّاب الأسبق)
الإثنين
جِئتُ إلى هَذه الدَّار- دار الرّوْزنَامَة - زائراً، والزّائرُ يَطرقَ بابَ الدَّار حتّى يُؤذَنَ لَهُ. دلَّتني لافِتةٌ حَملتْ إسمّ صاحِب الدّار، فطرقتُ بابَه مُطمئنا أنّي اهتديتُ دوْنَ تردّدٍ إلى صاحبهِ، أخي وصديقي كمال الجزولي. تعليقُ لافتةٍ بإسمِ صاحب الدّار، تقليدٌ سادَ في غابرِ أيّام أم درمان، وشبيهاتها من المُدنِ الأخرَى في مختلفِ أنحاءِ البلاد. شاعتْ لأم درمان صِفَةٌ قديْمةٌ لا أستسيْقها: "كَرش الفيْل"، لكوْنِها الأكثر سُكّاناً مِن بيْن المُدن الثلاث التي تُشكّلَ "العاصِمة المُثلثة"، وتلك الصِّفةُ العددية، تلاشتْ بَل اندثرَتْ تماما، بعد أنْ الهانا التكاثرُ، وَتضاعفَ عَددُ ساكنيها، فتمدّدت شمالاً وجنوْباً وغرباً، حتّى أطراف كُردفان! صارَ لِزاماً تعليق لافتةٍ تحمل اسمَ صاحِبِ الدّارِ، فيتعرّفَ إليه زوَّاره وجيرانُه.
أمّا وقد طرأ على البلاد نظامٌ حكمَ الناس بشرعةِ قراقوش، والذي أحسبه يتململ في قبره البعيد، إنْ شبَّهنا نظامَ حكمِهِ بذلك النِّظام الذي جَثمَ ثلاثينَ عاما على صدوْر، وَعقولِ، وأجسَادِ السودانيين، وأذاقهُم ذُلّ المُلاحَقةِ، والاختطافِ، وَالجلدِ، وتعليقِ الأبرياءِ، وَدقِّ الأسافين في الرؤوسِ، وفي بقيةِ أطراف الجسد، فإنّ العاقل، خلال حقبةِ أولئك الّذين لا نعرف مِن أينَ أتوْا، لن يُعلّقَ لافتةً عليها إسمُهُ، على بابِ دارهِ، فينقضَّ عليهِ جلاوزةُ ذلك النّظام، ليصيّروه شبَحاً يتلذّذونَ بتعذيبهِ في بيوتهم! لا أظنّ قراقوش يقبلَ التشبيهَ، فهْوَ ملاكٌ ذو ضميرٍ، ولا يُقارَن بأبالِِسَةِ وَعلوْجِ "الإنقاذ"، مِمّن نُزِعَتْ عنهُمُ الضمائرُ نزعاً. لا أرَى عاقِلاً يَكْتب إسمَه ويعلقهُ لافتةً على بابِ داره في زَمَنِ "الإنقاذ" .. وحدهُم الموْتي، مَن تُعلّق أسْماؤهُم على شواهِدِهم!
أما صديقي كمال الجزولي فلهُ دارٌ افتراضيةٌ، لا تثريبَ إنْ علّق لافتة مزركشةًً برّاقةً على بابها، بإسم "الرّوْزنامة"، وإنّي معجب كُلّ الإعجابِ بلافتته الزاهية هذي. لا أجزم إنْ كان صديقي قد سَعَى لتمحيْصِ الإسم، أو للتحَرّي عَن أصوله، مُنذَ شروعِه في جمع ونشر روْزناميَّاتهِ في مجلدات، قبلَ زهاء ربع القرن، حيث صدرت منها، حتَّى الآن، المجلد الأوَّل عام 2007، ثمّ المجلد الثاني عام 2013.
كلمة "روزْنامَة" تتركَّب، في الأصلِ الفارسِي، مِن كلمتين: مضافٌ ومضافٌ إليهِ، وتكتب: روْز ناماه، وَيقرأها أهلُ فارس "روْز" وتعني كلمة يوم، و"نامِه" وتعني الصحيْفة، أو الدفتر، أو الكتاب، غيرَ أنّ دخولها على اللغةِ العربيةِ حوَّلهَا كلمةً واحدةً، فتمَّ استعربُها. قياساً على ذلك، إنْ عرَفتَ كِتابَ "الشّاهنامَه" للفِردَوْسِي، سَتجدَ العنوانَ مِنْ كلمتين: مُضافٌ ومُضافٌ إليهِ: شاه نامِه ويُنرجمَ: "كِتابُ عُظماءِ المُلوْك". صارتْ الرّوْزنامَة (بالتاءِ المربوطة ، لا بإمالةِ الميْم، كمَا ينطقها أهلُ فارس) أقربَ إلى مَعنَى "دَفتر اليوميَّات"، أو إنْ شئتَ، سَمّها "اليوميَّات المُدَفترَة" .. ولكلمةِ "دفاتر" مَحبّة خاصّة عندي ، فأنا اعتمدت الكتابة الدفترية نهْجاُ، نَسَجتُ من خيوطهِ وقائعَ وأحداثَ أبطال رواياتي. وأوّلاها «دفاتِر كمبالا»، والتي وقف صديقي كمال صاحب الرّوْزنامَة، مُعجباً بهَا أيّما إعجاب، وَلِي أنْ أروّجُ لها، وأنا في رحابِ روْزنامتِهِ، كون طبعتُها الثانية قيْدَ الإعداد، ولكَ، إن رأيت، أنْ تُسمّي رواياتي "سَرْد نامة".
الثلاثاء
فيْمَا الدُّخان آخِذٌ في التَّصاعد على حدودِنا الشّرقية، دُخاناً حقيقياً لا مَجَازاً، ومليشياتٌ وَمُزارعون أثيوبيون يقاومون الانتشارَ السُّوداني داخل حدودنا اَّلدولية، تثور، على نحوٍّ مُفاجيء، زوْبَعةٌ حولَ مَا ادّعتهُ مُذكِّرةٌ مصرية، حاولتْ أمانةُ الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا أنْ تتنَصّل مِنْ مَسئوليةِ تعميْمِهَا على الدُّولِ الأعضاءِ في الاتحاد. لا يعنيني التحاجُج القانوني، بل أكثر مَا يعنيني هُوَ التزامُنُ المُريْبُ، بينَ سعي أطرافٍ إثيوبيةٍ للتصعيدِ مَع السُّودان حول تبعيَّةِ مَنطقةِ "الفشقة" السُّودانية الحدودية، وبين التعميم المُريْب الذي يشكِّك حوْلَ تبعيةِ "حَلايب" للسُّودان! تتضَارَبَ التصريحاتُ، وتُطلق، مِمّن يتنصَّل، ومِمّن يتنكَّر، ومِمّن يتشاطر! إبّان تلك التقاطعات، يُبادِر الاتحادُ الأفريقيُّ بابتعاثِ مَبعوثِهِ البروْف مُحمّد الحَسَن وِلْد لبّات، وَهوَ القريبُ مِن القيادات السياسية في البلدين ، وما اختيْرَ إلّا لِبذلِهِ المَشهوْدِ بصحْبةِ الوَسَاطةِ الإثيوبيةِ، في إخراجِ التوافُق السُّوداني الذي أنجَبَ مؤسَّسات الفترةِ الإنتقاليّةِ الحاليّة في السُّودان .. بعدَ ولادةٍ قيْصَريّة!
يتساءَل أكثرُ المُراقبين براءَةً عَمّن يَرغَبُ في شَغْلِ أنظارِ السُّودان بملفِ "حلايب" الذي بقيَتْ شكْوَى بلادنا الرَّسميّة حوْله مُعلّقة، بمجلس الأمن، منذ عام 1958، وَتُجدَّد بصورةٍ روتينية في فبراير من كلِّ عام! لكن السُّؤال: من تراه يناور لإنْهاكِ الحكوْمةِ الانتقاليّةِ في الخرطوم، بمَا يُضعف تركيزَها على تسويةِ ملفاتِها الأشَدّ سخونةً، في هذه الآونة، سواءً المَلفّ الحدوْديّ، أوْ مَلفّ "سَدِّ النّهضةِ"، وَهُمَا ملفّان يَغليان فوق نيرانِِ التّصعيْد؟!
السُّودان الذي غيَّبهُ الإسلامَويّوْن الإنقاذيوْن عقوْداً طويْلة عَنْ المُجتمعِ الدّولي في حاجَة ماسة، الآن، لدبلوْمَاسيّةٍ ذكيّةٍ، تتولّى التنسيْقَ داخليّاً، والمُتابعةَ خارجيّاً، لتعيْدَهُ إلى المُجتمعِ الدَّولي، بعيوْنٍ مَفتوْحَة تَرصُد، وَبصوْتٍ واثق يُسمَع، وبحَسْمٍ جادٍ يُهَاب .. لتكوْنُ «المَنصوْرةُ» بنتَ أبيها عَنْ حَقّ!
الأربعاء
لمارس بشرياته بربيعٍ زاهٍ كلَّ عام. على أننا نتذكّر في الثالثِ مِنهُ، عِيْداً خاصاً بنا، تغنَّى لهُ المُطربون: "3 مارس عيد"!
أجَلْ .. تعوْد إلى الذّاكرةِ، في هذا اليوْم، ذِكرَى اتفاقٍ تارِيخيٍّ أوْقَفَ الحَرْبَ الأهليّة الأولى بين شمال السُّودان وَجنوبه، وَهوَ اتفاقٌ يَكاد يبلغ، الآن، حَوافِ النَّسيان، بعد أن شَكّل تجربةً حفظها التّاريخُ الوطنيُّ لمسْعَىً أنهَى قِتالاً أهليّاً دامَ سبعة عشر عاماً. كثيرٌ مِن المُراقِبين يأخذون على ذلك الاتفاقِ أنّهُ خَلا مِن استصحَابِ إرادة الشّعب، فبقيَ فوقياً. أما النظامُ الذي كان مسيْطراً على الشّمال، آنذاك، فقد استسهَل نَقْضَ غزْله، بعدَ أقلَّ مِن عقدٍ مِن الزَّمان، ليصير 3 مارس مأتمَاً .. لا عيْداً! دارتْ الحرب الأهليَّة، إثرَ ذلك، مُجدَّداً، عام 1983. وفي 2005 أوقفَتْ "نيْفاشا" جولة القتال الثانية. غير أنّها، وإنْ استصحَبَتْ إرادة الشّعب هذه المرّة، أقرَّت استفتاءً التبسَتْ حوله نوايا الخرطوم، فأفضَى إلى انفصال الجَّنوب عن الشَّمال، حيث استقلَّ الأوَّل بدولتهِ استقلالاً كامِلاً.
أقفُ طويْلاً على تجرِبةٍ شبيْهةٍ في قارَّة آسيا. فحيْنَ أرَى توْقَ شعبين، في كوريا، لحُلمٍ يوَحّد شطريْهما، وَهُما إلى ساعةِ كِتابتي هذه، في حالِ انفصالٍ عُمْره أكثر مِن سَبعيْنَ عاما، فإنّي أرى حُلم "السُّودان الجديدِ" قابلاً للتشكّلِ، إنْ خلُصَتْ الإرادةُ، واشتدتْ العزائمُ، فقد يلتقي الشتيتان بعدَ الظنِّ، كلّ الظنِّ، ألا تلاقيا .. على قول الشاعر!
أنحَنِي، احتراماً وَتقديرا،ً لرموْزٍ سَعَتْ لتحقيقِ سَلامٍ مُستدام، مُنذ 3 مارس مِن عام 1972، لا زالَ بعضهم بيننا الآن، أطال اللهُ أعمارهُم : الجنرال جوزيف لاقو، ومولانا أبيل ألير، وبعضُ نفرٍ آخرين. رحِمَ الله الرّاحِل مَنصوْر خالد عبدالماجِد، فقد حفظَ لهُ التاريْخُ قدحاً مُعلّى في صياغة "3 مارس".
الخميس
لصَديقنا الصّحفيّ «اللبناني السّوداني» الكبير فؤاد مطر، قصّةٌ تُحكى مَعَ خارطة مُثلّثِ "حلايب"! وصفُ "اللّبنانيِّ السُّودانيِّ" أطلقهَا عليه الرَّاحلُ محمد أحمد مَحجوْب، ولهُ فيْهَا استِحقاقٌ يَجعلني، وقَد اقترَبْتُ منه إبّان فترة عملي سَفيْراً في بيروْت، أميْلُ لقلب تلكَ الصِّفةِ، فأبدِلُ عَقِبَهَا برأسِهَا، فأقول لكَ إنّهُ الصّحفي "السُّودانيِّ اللبناني"، إذ لا أعرف صحفيّاً، في كلِّ بُلدان الشَّرقِ الأوسطِ وشمال أفريقيا، اقتربَ مِن السُّودان، واتّصَلَ بقضاياهُ، وَبسياساتِ أهْلِهِ، ورموْزِه السياسيّة والاجتماعيّة، بمثلمَا فعلَ فؤاد مطر. وربما نشير هنا، بصفة خاصة، إلى كتابه الاستثنائي الذي وَثّق فيهِ لعودة نميري بعد انقلاب 19 يوليو عام 1971م، وَما وقعَ منْ انتقامه من عناصِر الحِزب الشّيوعي السُّوداني، عَنْوَنَهُ بسؤاله الاستفساريّ الشَّهير: "الحِزبُ الشّيوعيّ: نحَروْهُ أمْ انْتحَر"؟! وهو العنوان الذي ترَكَ البابَ، ليسَ موارباً فحسب، بل مُشْرَعاً، لتصْدُر بعدَه شِهاداتٌ وكتابات حول ملابسات تلك الأحداثِ، تواترتْ طيلةَ الأعوامِ التي أعقبَتْ سقوطَ نظامِِ "مايو"!
إستَهلَّ مطر صداقته معَ السُّودان، في عَملهِ الصَّحفي، بتوثيقِهِ لقمَّةِ الّلاءآتِ الثلاث عامَ 1967م. كانتْ تلكَ مَحَطتهُ الأولى في علاقة المَحبّة بينه والسُّودان: البلد والشَّعب والإنسان. وما التقاطه الذكيُّ، لرمزيَّة المشروب السُّوداني المميَّز: "الحِلو .. مُر"، ليبصر، عبرهُ، "ثُنائيّةَ التّنافُر" التي حكمَتْ طبيعة هذا البلد، ورَسَمَتْ تاريخَه، كما جُغرافيتَه، إلّا شاهِداً على عُمقِ معرفته به!
يلتقي النّيلُ الأزرَقُ القادمُ، في اندفاع، مِنْ مُرتفعاتِ إثيوبيا، بالنّيلِ الأبْيَضِ، القادم في تمَهّل، كمَا يمشي الوَجي الوَحِلُ، مِن أعماقِ أفريقيا، فيصيران نهْراً واحِدا هوَ "النّيل" المُنحدِر إلى مِصْر. هذان النهران يشكلان مظهراً لِثنائيّةٍ جغرافيةٍ بيْنَ طبيعةٍ صاخبةٍ، وأخرَى هادئة. وبالمثل نَسجَتْ أقدارُ التاريخ مِن السُّودان بلداً تتحَكّم في مصائرِهِ السياسيّة دولتان، وفق اتفاقية أسمّياها اتفاقية "الحكم الثنائي"، هيَ ثنائيّة التاريخ وتنافره. لعلَّ هذه الثنائيّات المُتنافرة هي التي حدَتْ بالصَّحفي الكبير أن يرَى تجليها في ثنائية المدنيّ والعسكريّ، في حالةِ الفترةِ الانتقاليةِ السُّودانيةِ الماثلة!
إضافةً إلى سلسلةِ كتاباتِه عَن "حلو .. مُرّ السُّودان"، وَضعَ مطر كتاباً، في أبريل 2020، تناوَل فيهِ بالرَّصْدِ والتّحليل المُعمّق، ثورةَ السودانيين على المُتأسْلمين، في التاسع عشر من ديسمبر 2018م، ودكَّ حصون نظامهم، رَسمياً، بسقوْطِ الطاغية البشير، في الحادي عشر من أبريل 2019م. وببصيرتِهِ الصّحفيّة الحصيفة، وضعَ عنواناً لذلك الكتاب: "الحَاكِمُ إذا اسْتَبَدَّ، والشّعبُ إذا انْتفَضْ"؛ واستكتبَ مطر الإمام الرّاحل وشخصي لوضع مقدمتين لهذا الكِتاب الذي صدر عن «الدّار العربية للعلوم» في بيروت. غيرَ أنَّ مثلث "حلايب"، وقفَ عقَبةً دون أنْ تصلّ نسخ الكتابِ، البالغ حجمه 460 صَفحة تقريباً، مِن القطع الكبير، إلى أيدي القُرَّاء في السُّودان؛ فقد صَمَّمَ الناشِرُ غِلافاً مُعبِّراً، برسمِ وَجْهٍ سُودانيٍّ واحِدٍ، بمَلامح مُزْدوجَة، مدنيّة وَعَسكريّة، عكَسَتْ مُعضَلة التشاكُس بينَ مكوِّني ثورةِ السُّودان. لكنه وَضع خارطة كروكية للسُّودان، في فاتحةِ كلِّ فصلٍ مِن فصولِ الكتابِ، أظهرَت مثلثَ "حلايب" خارجََ حُدوْدِه، وذلك، بالطبع، خطأ النّاشِرِاللبناني، وهوَ جسيمٌ عندنا، وإنْ كانَ بحُسْنِ نيّة، وليسَ نتاج مؤامَرة، ومع ذلك حجَبَ دخوْلَ الكِتابِ إلى السودان!
الجمعة
أكمَلَ صديقي الواثِق كِميْر، الأكاديمي والنّاشطُ السِّياسيُّ، سلسلة من المقالات الرّصينة، لغةً وإفصاحاً، خصَّصَها لصُحبته الطويْلة مع الرّاحِل المُقيْم مَنصوْر خَالِد. فضَّلتُ أنْ اكتبَ لهُ شهَادتي عَنْ علاقتي بهما الإثنين، لا عَن الرَّاحِل مَنصوْر وَحْده، وبعثتُ بهَا إليه. وقد حدَّثت فيها، أكثر ما حدّثت، عن صَديقي الواثِق، وَعَنْ حَميميةِ مُرافقته للرّاحِل منصُوْر، وللرَّاحل الشَّهيد د."جون قرنق"، رئيسِ وَمؤسِّسِ «الحرَكة الشَّعبية لِتحريْرِ السُّودان». تميَّزت كتابة الواثق بكونها خرجَتْ من نطاق الكتابات الرثائية الرّاتبة لتتوسَّع في رصْدِ وتوثيقِ تلك المرافقةِ الحَميْمةِ.
كَتبتُ لصَديقي الواثق شهادةً ستظهر في كتابه، أقتطفُ لكَ طرَفاً منها كالآتي: (سَيُحدّثكَ صديقي الواثق كِميْر، هُنا، عَنْ حكاياتِ رِحلتهِ وَمُرافقته لِمَنصوْر في جدّتها وطرَافَتِها، وَبينهُما ثراءُ علاقةِ الفِكْرِ، والالتزام بطَرْحٍ الطمُوْح، مِثلما جمعتهُما وَشيْجة المَحَبّة، معَ الشَّهيدِ الحَاضِرِ جوْن قرنق. يُحَدّثك الواثقُ لا عَن مَحَاضِرِ اجتماعاتٍ وَجَوْلاتٍ تتّصلَ بِأحْوالِ السُّودان فَحَسْب، بَلْ عَن التفَاصيْل الصغيرة : هنالك القفشاتُ والسَّخريات، المُنَاكَفاتُ والمَتاعِب، الضَّحِكُ وَالابْتسَام، الآسياتُ والمُبكيَات، النّفُورُ مِن الجُلبابِ وَالحِرْصُ على اخْتيارِ رَبْطاتِ العُنقِ الأنيْقةِ، الجَاكِتُ الواسِعُ وال "تي شيْرتْ" الأفريقي. "السُّودانُ الجديد"، ذلكَ الّذي جَاء، مَفهُوْماً وَشكْلاً، يَسْتهْدِفَ خلخَلةَ القَديْمِ وإرْسَاءَ الجَديْدِ، لنْ يَكوْن فِكراً مُعلّقاً في الهَواءِ، بَل هوَ أسلوبُ حيَاةٍ جديدة، في وَطنٍ تشَاكسَتْ أطرافُهُ في "مَشَاكوْس"، والتبسَتْ بوْصلتُهُ على بَنيهِ، إلى سَاعةِ جلوْسِِهم في "نيْفاشا". كانتْ كينيا هيَ آخِر المَطافِ، وَقد كادَ الحُلم أنْ يَتنزّل إلى الواقعِ، ليُحيْلَ السُّودانَ جديداً، كمَا حَدّثَ عَنهُ الشّهيْد "قَرنق"، غيرَ أنَّ للقَدرَ كلمته الأخيرة).
شهَادتي ستكوْن ضِمْن كتابِ صديقي الواثق وعنوانه: "رِحلتي مَعَ مَنصُوْر: الخروجُ مِنْ الذّاتِ لمُلاقاةِ الآخَر"، والذِي سيَصدر في الأسَابيْعِ القليلةِ القادِمَة.
السّبْت
ليوم المرأةِ العالميِّ، هذا العام، شعارٌ جديدٌ، هو "خيار التَّحدِّي". وَيوْم المرأة العالمي بدأ باقتراحٍ مِن امرأة عاملة في عام 1910، وسرعان ما اعتمدته شعوبٌ عديدة في أنحاء العالم، وفي عام 1975 تبنّته هيئة الأمم المتحدة يوماً لمُناصرة المرأةِ في استعادة حقوقها، دونَ تمييزٍ عن تلك التي للرَّجل.
لنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن نحتفي بهذا اليوم، إقراراً بالدَّورِ المشهوْدِ الذي لعبته وتلعبه المرأة في الحراك السياسيِّ الذي أسقط أنظمة شمولية كان القمع على كافّةِ المستويات، والاضطهاد الجندريّ بوجهٍ خاص، سِمَة غالبة لها. مثل تلك الأنظمة لا تحفل بأيِّ توجُّهٍ لتعزيز دور المرأة، أوالاحتفاء به. وأعجبُ أنْ يجثم نظامٌ، مثلَ نظام البشير ومحرّضيه الإسلامويين، ثلاثين عاماً على صدر بلادنا، وهم الأكثر هضماً لحقوق المرأة، والأشد ملاحقة للنساء، في بلد كان، قبل حقبة الإنقاذيين، في مقدمة من منحوا المرأة حقوقها، فصارت تشارك الرَّجل في قيادة العمل السِّياسي، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، والقضائي. آخر أمر الإسلامويين الكذبة أن أحلوا مطاردة المرأة في ثيابها، وبسطوا فينا شرعة "قدو قدو" لجلدِ المرأة في السّاحاتِ العامة. ما شهدنا نظاما فاقداً للشَّهامة يسعى لاضهاد المرأة، ويعمد إلى الترصُّد الذميم لإذلالها، غير نظام «الإنقاذ» المُباد!
ثورة ديسمبر 2018، هيَ ثورةُ "الكنداكات" السُّودانيَّات، والثَّامِن من مارس هو عيدهنَّ، وقد أثبتْنَ دوْراً قيادياً في حَراك الثَّورة. أكاد أرى فتاة الثورة السودانية في ثوبها الأبيض، تقف وقوفاً شامخاً، الى جوار "كلارا زيتكن" الأمريكية التي اقترحتْ في عام 1910 أن يكون 8 مارس عيداً دوليَّاً للمرأة، وليسْقُط "قدو قدو"، نهائياً، في مزابل التَّاريخ!
الأحّد
على نَسقِ حَسَن الكَرْمِي، في برنامجِهِ "قولٌ على قول" بإذاعةِ "البي بي سي"، سَألني صديقي الأستاذُ الأديْبُ الفاتح ميْكا، مِن الحلفايا، عنْ سَاعةِ بلديَّةِ أم دُرمان الجِِّداريّة، عَمّن اقترحَ إنشاءَها، ومن أمَرَ بتعليقِها على الواجِهات الأربع لذلكَ البرْج، فأفضَيْتُ إليه بما أعلم.
ولأنّي أم درمانيٌّ مُحبٌّ لمدينتي، ولمعالمها التَّاريخيَّة، فإنّ تلك السَّاعَة عُلِّقَتْ في قمَّة بُرْج بَلديّةِ أم درمان الشّاهق، في أوائل خمْسينات القرنِ العشرين. وكان بُرجُ البَلديّةِ أوّلَ بُرجٍ تمّ تشييده في المدينةِ خِلال الحِقبة الاستعماريّة، وَيبلغ ارتفاعُهُ ما بيْنَ العشرين والثلاثين متراً. لم تعرف المدينةُ أوان ذاك غيرَ ساعةٍ جداريةٍ واحدةٍ في "مَدرسة أم درمان الأميريَّة"، حتَّى لقد أسميت "مدرسة السَّاعة"، وتقع في الجَّانب الشّرقي لِشارِع المَوْردة، قريباً من سوق أم درمان الكبير.
شُيِّدت "الأميرية" تلك عام 1904م، من طابقين. وفي تاريخ لاحِق علقوا السَّاعة على واجهتها المُطلّة على الشّارع العام، بقُطرٍٍ يُقارب المترين. وكانت أوَّل ساعةِ حائطٍ جدارية كُبرى تُعلّق في مَبنىً متوَسِّطِ الارتفاع. وكانَ لتلك السَّاعةِ رنينٌ تطلقهُ على رأس كُلِّ ساعة.
أمّا سَاعَةُ بُرجِ بلديّةِ أم دُرمان فأكْبرُ حَجْمَاً مِن سَاعةِ المَدرسَةِ الأميْريّة، وَتطلّ على المدينةِ مِن أعلَى البُرج، على الاتجاهَاتِ الأربعةِ. وَاضحٌ أنّ تصميمها جاءَ على نَسَقِ ساعةِ لندن الشَّهيْرة "بِيْغ بِنْ". وكان لها رَنيْنٌ على رأسِ السّاعةِ، وكلَّ نِصْفِ ساعةٍ أيْضاً، ويُسمع في مُعظمِ أحياءِ المدينةِ القديمة، مِن "خوْر شمْبات" شمالاً إلى "خوْر اب عنجَة" جَنوباً، وَمِن شاطيء النّيل، عند "الموردة" وَ"اب روف" وَ"بيت المال" وَ"الملازمين" شرقاً، إلى أحياءِ غَرْب أم دُرمان كافَّة.
عُلِّقَت بضع ساعاتٌ جدارية بعد ذلك، وفي تواريْخٍِ قريبة نسبيّاً، كالتي فوق مَبنَى البوستة، في وَسطِ سوْق أم درمان الكبير، والتي عُلِّقَت، لاحقاً، في مدخْلِ جامعة الخُرطوم، وفي مدخلِ جامعةِ أم دُرمان الإسلامية. لكن جميعَ تلك السَّاعات الجداريّة لمْ تجد أدنى اهتمامٍ، أو أيَّة صيَانةٍ تذكر. وفي مكاتب الحكومة، أيضاً، ستجد ساعات حائط مُعلّقة، لكن .. بلا حراك! لا أحد يهتم باستبدال بطاريَّاتها الصغيرة، والتي لا تكلف شيئاً حتَّى لو قام بإبدالها مَنْ يَعملَون في تلك المكاتب من جيوبهم!
لقد جرَى إهمالُ ساعة المَدرسةِ الأميريّةِ، وكذا ساعة بلديّةِ أم درمان، ولم تجد أيٌّ منهما عناية مِن المسئولين، لا في المدرسة، ولا في البلديَّة، طيلةَ عقود تتالتْ. غير أنّ أحد معتمدي مدينة أم درمان نجح، قبل سنوات قليلة، في إجراءِ صيانةٍ عاجلة لساعة البلديَّة، استأنفتْ بعدها تحريكَ شوكتيها، وإن بدون رنين! ثمَّ ما كادت تنقضي أشهرٌ قلائل، حتَّى توقّفتْ من جديدٍ للأسف!
لعلَّ أوَّل مَن فكَّروا في تعليْقِ السَّاعات في الأمْكنةِ العامّةِ - وهم المستعمِرون قصراً - قصدوا إرسالَ رسالةٍ قويّةٍ، للتذكيْرِ بأهمّيّة احترامِ الوَقْتِ. لكن الإهمال الذي لحق بتلك السّاعاتِ الجدارية الكبرى، يعكس قَدراً مُعتبراً مِن تجَاهُلِنا، مع سبقِ إصرارٍ بائن، لقيْمةِ الوقت، وعدم احترامنا له! ذلك أمرٌ شائعَ لدينا، على كلِّ المُستوَيات، ولا تفسّرهُ إلا سلوكيّات الذّهنيّةِ الرَّعويَّةِ التي تَعتمد مَظاهرَ الطبيعةِ، وحركةَ الشَّمْسِ، مِن فَجرٍ، وانتصافِ نهارٍ، وَمغرب يومٍ، موجِباً لضبطِ الوقت!
ما أشدَّ حرصنا جميْعاً على ارتِداءِ ساعاتِ اليَد، ومَا أكثر إهمالنا - وَيا للحَسْرةِ - لسَاعاتِ الحَائط الخاصَّة والعامَّة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.