الهروب من الذئب الذي لم يأكل يوسف في متاهات "نسيان ما لم يحدث" أحادية المصدر وثنائية التناول في ثلاثية القراءة النقدية لرواية عيسى الحلو أحمد حسب الله الحاج "نحن بحاجة إلى التاريخ بأكمله، ليس لكي نعود إليه، ولكن لنرى إن كان بمقدورنا أن نهرب منه." خوزيه أورتيغا غاسيت (1) لقد وصلت أخيراً إلى ما وعدت به: كتابة ثلاثية نقدية عن رواية عيسى الحلو "نسيان ما لم يحدث". وهي قراءة لا تضع اعتباراً إلا لسلطان النقد .... بدأتها ب"البحث عن الذئب الذي لم يأكل يوسف وأنهيها بمحاولة "الهرب من الذئب الذي لم يأكل يوسف... " والذئب الذي نركض ونلهث ونطارده، ويطاردنا هو بدوره في متاهات "نسيان ما لم يحدث" هو التاريخ الذي ينشغل به عيسى الحلو على عدة مستويات في متاهات الرواية وتخومها. فهو مشغول به كفلسفة عندما يقول: "حينما يعلو الواقع المباشر حيناً ويتدنى التخييل.. ينهض علم التأريخ.. ويتسفل شأن الفنون.. والأفكار والآداب.." (ص 105). ومشغول به كذلك كسرد، وأيضاً كخطاب. (2) ومنذ البداية أود توضيح أنه على الرغم من اهتمامي، كما كان في الجزئين السابقين هو نص "نسيان ما لم يحدث" فإنني سأتعرض في قراءتي هذي لمقابلة أجراها مع عيسى الحلو الشاعر محمد نجيب محمد علي تحمل عنوان "حدد العمر مسارات خطيرة جداً في الكتابة/ السرديات الكبرى سدت الطرق أمام الكتابة الجديدة" على صفحات مجلة كليك برس الإلكترونية، لأنها تتضمن إشارات حبلى بالدلالات عن التاريخ وعن أشياء أخرى ذات صلة قريبة أو بعيدة به. والمقابلة كما سنرى لاحقاً، مثل جميع الكتابات الجيدة، تثير من الأسئلة قدراً أكبر مما تنجح في الإجابة عليه. (3) ومع تعدد محاور الحديث عن التاريخ وتعقيداته في "نسيان ما لم يحدث"، فإن الحديث عن الرواية لا يستطيب دون التعرض للنقد والتعريض بالنقاد الذين أنا منهم. أقول هذا وأكاد أكون على يقين من أنه في وجدان ثقافتنا هذا أ نه إذا كان الشاعر هو ابن الأدب المدلل، والروائي والقاص هما من أبناء العمومة والخؤولة المقربين، فإن الناقد هو النغل الذي يعرفه الجميع ولا يعترف به أحد. ورفقاً بنا معشر النقاد ارتأيت استدعاء كلمات تندد بالنقد والناقد دون أن تغلظ عليه شديداً في القول. هذا مع الإقرار بأن كلمات تيودور روزفيلت التي اخترتها ليست عن الناقد الفكري أو الأدبي أو الفني، وإنما عن الذي يرتضي بديلاً عن الفعل أن ينتقد ويعيب وهو ينظر شزراً إلى إخفاقات الذي يحاول فيصيب حيناً ويخطئ مرة أخرى: "ليس الناقد هو المهم، ليس ذلك الذي يشير إلى كيف أن الرجل القوي قد تعثر، أو حيث كان بإمكان فاعل الأشياء أن يفعلها بشكل أفضل. الفضل يعود للرجل الموجود بالفعل في الساحة، الذي يغطي وجهه التراب والعرق والدم، الذي يناضل ببسالة، الذي يخطئ ويقصر مراراً وتكرارا: لأنه ليس هنالك جهد بدون أخطاء وعيوب. الذي يسعى فعلا لكي يفعل وهو يشعر يالحماسة الكبرى والتفاني الكبير، الذي يبذل نفسه في قضية تبيلة، من يعرف في النهاية متعة الإنجاز الكبير، ومن في أسوأ الأحوال، إذا فشل، على الأقل يفشل بينما كان يحاول بجسارة حتى لا يكون مكانه أبداً بين تلك النفوس الباردة والخنوعة التي لم تتذوق نصراً أو تتجرع هزيمة." وما أقل الذين يفعلون، وما أكثر الذين يكتشفون النقص والنقصور فيما يفعلونه. (4) وعودة إلى التاريخ ليس بوسعي غير أن أقول إن تعامل عيسى الحلو معه في "نسيان ما لم يحدث" يتصف بتعقيدات يكشف عنها السرد وحديث عيسى الحلو عنه. ويدفعنا هذا للتعامل مع تجلياته على عدة مستويات من بينها الفصل والتفريق بين تاريخين هما العام والوجودي الخاص: "يمتلئ رأس أمين النوراني بالصور. صور تأتي من بعيد .. من أمكنة وأزمنة مجهولة. من الخيال ومن التاريخ. وهنا يحتدم الصراع. وتقاتل ذاكرة أمين النوراني قتالا شرسا هذا التاريخ العام الذي يسعى بقوة لمحو تاريخ أمين النوراني الوجودي الخاص. وتجيء الصور من الخيال والوهم والنسيان مكسوة بغبار الأزمنة." (ص13) (5) وتقودني المقولة أعلاه إلى التنويه والتنبيه والتحذير من أن هذه الثنائية في التعاطي مع التاريخ في "نسيان ما لم يحدث" عميقة ومتجذرة وذات مغازٍ ودلالات تفرض عليّ العودة إليها أكثر من مرة في سياق هذه القراءة. ومع القبول في هذا المنعطف بوجود قتال شرس قي ذاكرة أمين النوراني بين تاريخين، فإن خصوصية التعامل مع التاريخ تأتي ومعها مشاكلها "الخاصة" بها عندما تعنمد عملية استرجاع التاريخ على الذاكرة، كما يتضح في حديث إحدى شخصيات الرواية عندما تقول "الذاكرة هي وعاء التأريخ العام والتأريخ الخاص .." (ص17). ولكن الذاكرة لا يُعتد بها كثيراً في رصد التاريخ، ولا يعول عليها إلا قليلاً عند استعادته. وإن كان هذا الحال يصدق على العديد من مجالات البحث، فإنه يكتسب في الإطار السردي السوداني مذاقاً خاصاً أخشى القول إنه ليس طيباً في كثير من الأحيان. ومن الدراسات التي تسلط الضوء على هذا المذاق المُستعاد دراسة إلينا فيزاديني التي تحمل عنوان "الذكريات المتنازع عليها، التبعية والدولة في التواريخ الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في شمال شرق إفريقيا"، وأيضا دراستها "جواسيس وأسرار وقصة تنتظر أن تُحكى: ذكريات 1924، الثورة والتعنصر في التاريخ السوداني." ولعلي لا أخرج عن السياق هنا عندما أقول إن فيزاديني تزعم أن الخيانة تتسلل من بين جنبات التاريخ السياسي السوداني، وهذا أيضا تتلمسه وتفضحه بعض روايات "نسيان ما لم يحدث" التي تزعم أن "طعم الهزيمة (في كرري) خرّب الضمير السوداني كله .. فأصاب الداء الأجيال جيلاً بعد جيل! وطلب خليفة المهدي من رجالات الدولة أن يستعدوا للهجرة .. استعدادا لمواصلة القتال .. ولكن رسول الخليفة كان قد وجد رجالات الدولة قد ذهبوا لسراي كتشنر لإعلان الطاعة والولاء!" (ص 41). " (6) كما تظهر بين متاهات السرد ثنائية تاريخية أخرى عندما يقول السرد "ولكن رسول الخليفة كان قد وجد رجالات الدولة قد ذهبوا لسراي كتشنر"، و"تتوغل الجياد وتخترق حزام الدفاعات والستر(في كرري)"، و"أبحرت (البواخر) باتجاه الخرطوم التي استولت عليها جيوش كتشنر." وهذه الثنائية تنهض طارحة تعارضاً واضحاً بين القراءة المعتمدة للتاريخية وقراءة أخرى يتبع فيها عيسى الحلو بشكل عام، وبطريق مقصود أو غير مقصود، ما ينادي به بروفيسور إيه إتش كار في دراسته "ما هو التاريخ"، والذي يبسط فيها اعتراضه على القيم الليبرالية السائدة حيال التاريخ والحقائق والعلوم والأخلاق، وبخاصة الأحكام التي يطلقها الأفراد وتتبناها الجماعات عن أحداث التاريخ. وقد عارض بروفيسوركار في دراسته بشكل أساسي مقولة سي بي إسكوت الشهيرة "التعليق حُر ولكن الوقائع مُقدسة"Opinion is free, but facts are sacred والتي تعتبر حجر الزاوية في الدراسات الإنسانية بشكلٍ عام في كل مكان. ويعترض كار على هذه القاعدة الليبرالية زاعما أن "التعليق ليس حراً والوقائع ليست مقدسة." ويزعم بروفيسور كار أن غاية ما يفعله المؤرخ هو أن يختار الحقائق التي تروقه من بين عدد أكبر من الحقائق التي تتوفر له ثم يقوم بتفسيرها وإعلاء شأنها من منظور أيديولوجي، قد يتعرف عليه ويعترف به وقد لا يفعل، على حساب حقائق أخرى تتمتع بذات القدر من الصلاحية، ولكنه اختار أن يتجاهلها بسبب المنظور الأيديلوجي الذي يصيب رؤيته هنا بالغبش. ولا بد لي من التنويه هنا إلى أن هنالك أيضاً معطيات الحقيقة الجمالية والحقيقة التاريخية و"فرضية "التاريخ المغلوط" والتي من شأنها أن تضيف أبعاداً إضافية إلى هذا الجدل، وكني لا أريد الخوض فيها هنا. (7) وهنالك ثتائية أخرى تتبدى عندما تقول شخصية أخرى من شخصيات الرواية: "هي إذا أرواح تحلق.. تأتي من بعيد .. أكاد أسمع رفيف وأزيز الأجنحة!! إتها أعمال كالسحر .. يأتون من بعيد من موقعة كرري! ومن لينينغراد.. ومن ضربة أبراج واشنطن في سبتمبر .. ومن تهديد دولة صغيرة تافهة لأعظم قوة ترسانة هيدروجينية في العصر الحديث! .. وها نحن نرى ونلمس أجساد يأتون إلينا في الخرطوم الآن من كل الأزمنة ومن كل فج وصوب.. من دولة المهدي ومن مروي القديمة .. لقد جاءنا الجاسوس العالمي المعاصر من أمريكا اللاتينية .. وابن لادن من زمان الصحابة الأول! وهكذا!!!" (ص 17). والثنائية التي نحن معها الآن هي ثنائية الصحيح والخطأ التي قد تتسلل تفاصيلها عبر عُتمة - أو إعشاء وهج - السرد غير الموثوق به، والتي يعتمد قبولها أو رفضها على فطنة القارئ الذي قد يتبين وقد لا يتبين أنه لم تكن هنالك ضربة على أبراج واشنطن، وإنما كانت هي أبراج نيويورك للتجارة العالمية ، وأن العالمي الذي جاءنا من أمريكا اللاتينية (كارلوس) لم يكن جاسوساً، وإنما ثوري احترف النضال، أو إرهابي على أسوأ الفروض، وأن ابن لادن لم يأتنا من زمان الصحابة الأول وإنما جاءنا عبر وكالة المخابرات المركزية من أضغاث أحلام أو أو هام التطرف الإسلامي. كما قد يتبين القارئ، أو على الأرجح قد لا يتبين، ما هي الدولة الصغيرة التافهة التي تهدد أعظم قوة ترسانة هيدروجينية في العصر الحديث، وهكذا، وهكذا، وهكذا! (8) وقد آن الأوان لكي أتوقف هنا عند ثنائية قد تبدو غير ذات دلالة كبرى، ولكني أراها بالغة الأهمية، وهي ثنائية التاريخ والتأريخ. فعيسى الحلو يستخدم كلمة "التأريخ" بالهمز الساكن، والذي هو المصدر من أرَّخَ يؤرِّخُ تأريخًاً أي كتب تاريخًا ودوَّنَ تقييداً عن زمان محدد، أو مكان معين، أو حدث بعينه ثمان مرات. أما التاريخ بالمد من غير همز كاسم للعِلْم بالأزمنَة والأمكنَة والأيام والأحداث، والذي يُطلَقُ عَلَما على مصدر مثل تاريخ الطبري وتاريخ ابن خلدون وتاريخ السودان فهو يستخدمه ثمان مرات أيضاً. ولا أظن أن عيسى الحلو قد توخى استخداماً متعادلاً للتاريخ والتأريخ، ولكن قد يكون! ففي حين يستخدم عيسى الحلو مصطلح التاريخ بمعناه العام عندما يقول "ولكن هذا التشابه الذي نجده يطبع بعض أحداث التاريخ .. أهو كما نقول (إن التاريخ يعيد نفسه؟؟)" (ص47) فهو يستخدم تأريخ عندما يتحدث عن كرري وأم دبيكرات وخليفة المهدي والخليفة علي ود حلو. وهذا يعود في تقديري، كما ألمحت سابقاً، إلى أن عيسى الحلو حتى عندما يتحدث في المقابلة التي نوّهت إليها عن "نسيان ما لم يحدث" "كذاكرة للأصوات المفصلية في تاريخ السودان القديم والحديث، وهو تاريخ زاخر بما حدث وما لم يحدث وبنسيان بعض أحداثه"، فإنه ينوء بثقل وطأة تاريخ، بعضه، إن لم يكن كله، هو إرث شخصي عليه أن ينهض بثقله كل صباح. "كان الليل يهبط وكانت كرري قد دمرت تماماً. وانسحبت البواخر النيلية المحاربة. تراجعت من الشاطئ إلى وسط النيل... وكان خليفة المهدي وأعوانه على مشارف ضاحية أم دبيكرات وهم على ظهور الخيل .. أجسادهم منهكة حيث قضوا ثلاث ليالي في الطريق من أم درمان إلى هنا... ونزل أصحاب المهدي من ظهور الخيول .. وفرشوا الفروات على الأرض وأخذوا يصلون.. وفجأة حصدتهم رشاشات الجند!! ومع الأيام أصبحت أم دبيكرات مزاراً للثوار وأيقونة وذكرى عزيزة لوطن استلبه المستعمر... وهي موطن قبيلة دغيم التي ينتمي إليها الخليفة علي ود حلو الذي دفن مع الخليفة عبد الله التعايشي والصديق الإمام المهدي." (ص 51-52) فالتاريخ هنا تأريخ، والفقد هنا شخصي، والفجيعة ماثلة، والحزن ملموس، والوجع محسوس، وعيسى الحلو لا يكاد يمضي منه قليلاً حتى يعود إليه: "وتجيء أزمنة الوطن .. يجيئ البلد .. تجيء كرري بواخر نيلية داخنة، مبحرة فوق عرض النهر .. مدافعها موجهة نحو العمق .. جهة الغرب .. جيوش على ظهور الجياد تزحف شرقاً نحو النهر .. وهنالك محاربون مدججون بالبنادق .. والدراويش المهدويون رافعين سيوفهم التي تلمع تحت ضوء الضحى الباهر والغبار المتصاعد تحت حوافر الخيل وهي تخوض ساحات الوغى.. تتوغل الجياد وتخترق حزام الدفاعات والستر وتتساقط العمائم تارة والطرابيش والقبعات تارة أخرى وتتساقط الجثث من الجانبين. وتصرخ الحرب كلها شرقاً وغرباً .. سيوفاً وحراباً ومدافع وكلاشنكوف وبنادق. وتتساقط الجثث .." (ص 40-41) (9) وهنا لا بد لي من القول إن "نسيان ما لم يحدث" نص ينتحل نفسه. فهذا المجتزأ المقتبس أعلاه يعاود الظهور، ولا يكرر نفسه تماما. فبدلاً عن " يجيئ البلد ..تجيئ كرري" نجد "يجيئ السودان .. أزمنة إثر أزمنة"، وتضاف الطبنجات إلى البنادق، وَضوء الضحى الباهر" تحول إلى " أضواء الضحى الباهرة"، وبدلاً عن "وتتساقط الجثث من الجانبين" نجد "وتتساقط جثث الغزاة.." وهنالك أيضاً "وعندما مالت الشمس للمغيب كانت السهول تحت جبال كرري قد امتلأت بجثث أنصار المهدي التي حلقت فوقها الغربان." التي تأني أكثر من مرة! وهذه جميعاً انتحالات، أو إن شئت استعارات. لأنه كما يقول بي بي كينق "لا أعتقد أن هنالك من يسرق شيئاً، جميعنا يستعير." ولكن، مثلما هو الحال في كثير من الأحيان،يأتينا إيقور استرافينسكي مناقضاً ذلك بقوله: "الفنانون الصغار يستعيرون، ولكن الكبار يسرقون." ومن بين تلميحات الاستعارة وتصريحات السرقة أود التأكيد على أنني لا أولي مسألة "انتحال النص لنفسه" اعتباراً كبيراً إلا في حدود أن الدهشه أصابتني وأنا أرى عيسى الحلو يشعر باحتياجه ليفرط في قول شيئ في حين أن الاستراتيجيه الغالبة لكتاباته القصصية والروائية هي جعل السرد يقول عنده لفظاً أقل مما يقوله عند غيره. ولا أتردد هنا للحظة واحدة عن قول إن عيسى الحلو ينحو في هذا منحى أحد "أساتذته"، إرنست هيمنغوي الذي كتب في "موت في الظهيرة": إذا كان كاتب النثر يعرف كفاية عما يكتب عنه، فقد يحذف الأشياء التي يعرفها، وإذا كان الكاتب يكتب بما يكفي من الحقيقة، فسيكون بمقدور القارئ أن يشعر بقوة بتلك الأشياء كما لو أن الكاتب قد صرّح بها. إن وقار حركة جبل الجليد العائم يرجع إلى كون ثُمنه فقط هو الذي يظهر فوق سطح الماء." وعيسى الحلو يعرف هذا جيدا كاستراتيجية للكتابة. ولهذا يمكن القول إن الحذف المتعمد، في كثير من الأحيان، هو الطاقة الكامنة وراء الوقار المتوتر في كتابات عيسى الحلو. (10) ويحكي السرد في "نسيان ما لم يحدث": "وقد كان أمين في سرده للحكايات يحاكي الحيل الذذكية في تلك الحبكات القوية في السرديات الأسطورية والقصائد الملحمية الكبرى. وكان النقاش بين الأصدقاء يحتد حول السرديات المهمة على طول مجرى التاريخ الإنساني.. تلك الحيل التي تجيء عند الكبار .. كافكا .. وفيرجيلوهوميروس وهمنجواي وبرخيس." ولكن ليس هو فقط أمين النوراني الذي يفعل ذلك نيابة عن الحلو، إذ أن الحلو نفسه يعود ليفعل ذلك عمداً وقصداً وأصالة عن نفسه. ففي بوحه في "حدد العمر مسارات خطيرة جداً في الكتابة" يقول عيسى الحلو: "هنالك كتاب ينطلقون من الأفكار أنا من بين هؤلاء، في القصة العالمية أرى بوضوح في ذلك ميلان كونديرا والبرتو مورافيا، وأيضاً هنالك جون بول سارتر الذي كتب رواياته بدافع تبسيط الفكر الوجودي فلسفياً." وعلى الرغم من أن "الخفة غير المحتملة للوجود" تُذكر في تناقض مدلول كلماتها بتناقض مدلولات "نسيان ما لم يحدث" فلو كانت هنالك رواية تبدو من الخارج بسبب عنوانها وكأنها ستشارك "نسيان ما لم يحدث" في بعض ملامحها ثم لا تفعل فهي تلك. ولو كان هنالك روائي يختلف تماما في تعامله مع الرواية عن عيسى الحلو فهو ميلان كونديرا. فعلى الرغم من أن كونديرا يشبه عيسى الحلو في بعض المناحي، فإنه يختلف عنه أيضا بشكل واضح في عدد منها. فكونديرا مثل الحلو ممارس متميز للنقد، ومثله أيضاً معادٍ للأيدولوجية، ولكن في الوقت الذي آثر فيه كونديرا الصمت والتوقف والإنزواء، فلحسن حظنا لم يفعل عيسى الحلو شيئاً من ذلك. (11) وكما قلت فإن مقابلة "حدد العمر مسارات خطيرة جداً في الكتابة/ السرديات الكبرى سدت الطرق أمام الكتابة الجديدة" مثل جميع الكتابات الجيدة، تثير من الأسئلة قدراً أكبر مما تنجح في الإجابة عليه. ومن هذا المدخل هنالك أشياء اتفق مع عيسى الحلو فيها مثل "أن القصة القصيرة فقدت قارئها". وهذه ملاحظة لماحة مدركة وذكية. فعالمياً ازدهرت القصة القصيرة مع ازدهار الصحافة وظهور المجلات. وفي سودان اليوم الذي يشهد اضمحلال الصحافة تفقد القصة القصيرة قارئها. وهنالك أشياء أظل فيها على الحياد مع الحلو مثل وقفته المطولة على أطلال الشكلانية وتجاهله لما جاء بعدها مثل البنيوية وما بعد البنيوية وأركيولوجية فوكو واستشراق سعيد وهجنة هومي بابا والخطاب ما بعد الكولونيالي. وهنالك أشياء أخرى أختلف فيها معه تماما، وعلى رأسها تسليمه على "أن الطيب صالح سقف الرواية"، وهو موقف، كما يقول محمد نجيب محمد علي، تراجع عنه الحلو قليلاً، ثم عاد وأكد "أن الطيب صالح هو سقف الرواية." والذي أراه هو أن الطيب صالح ليس سقفاً للرواية السودانية أو أي رواية أخرى. وهذا ليس موقفاً من الطيب صالح، إذ أنه ينطبق على غيره. فإيفو أندريتش ليس سقفا للأدب السلافي، ونيكوس كازانتزاكيس ليس سقفاً للأدب الإغريقي، وليس كذلك سلمان رشدي للأدب الأنجلوأمريكي، أو باولو كويلو للأدب البرازيلي، أو نايبول للأدب الكاريبي، أو غابرائيل غارسيا ماركيز للأدب الناطق بالأسبانية. يكلمات أخرى ليس للأدب مقياس يقاس به Yardstick أو معيار يتم تقييمه على أساسه Benchmark. فالإبداع باب مفتوح على مصراعيه يقود إلى ساحة تطل مباشرة على السماء. وهو جهد لا يحدده مكان ولا يطوقه زمان ولا يملي عليه إرادة كائن من كان. أما القول بأن "السرديات الكبرى سدت الطرق أمام الكتابة الجديدة" فهو قول لا تسنده وقائع تاريخ الأدب في أي مكان. فإبداعات دستيوفسكي لم تمنع ظهور باسترناك، وروائع توماس مان لم تحول دون ظهورغونتر غراس، ومرويات يوكيو ميشيما لم تحجر ظهور هاروكي موراكامي، وإنجازات فوكنر الروائية لم تحول دون ظهور جاك كيرواك (12) ولجاك كيرواك، صاحب "أحدهم طار فوق عُش الوقواق"، رأي بديع في هذا الشأن طرحه في مقال شهير له تحت عنوان "هل يُصنع الكتاب أم يولدون؟" موجود ضمن كتابه "العطف، خداع الذات والأبدية الذهبية." ويبدأ كيرواك بحثه بالنظر إلى كلمة "العبقري" التي لعبت دورا كبيراً في تشكيل مفهوم الثقافة الإبداعية، فيقول: العبقرية لا تعني الغرابة أو الانحراف أو الموهبة المفرطة. فهي مشتقة في اللغة الإتجليزية من الكلمة اللاتينية gignere (تلد). ويضيف أن العبقري في الأدب هو الشخص الذي ينشئ شيئاً لم يكن معروفاً من قبل. وفي هذا الإطارلا أحد غير ملفيل يمكن أن يكتب "موبي ديك"، ولا حتى ويتمان أو شكسبير كان بإمكان أي منهما أن يفعل ذلك. ولا أحد سوى ويتمان قادر على أن يكتب "أوراق العشب". لقد وُلِد ويتمان ليكتب "أوراق العشب"، ووُلِد ملفيل لكتابة "موبي ديك. (13) وعلى ساحة الأدب السوداني لو لم يكتب محمد عبد الحي "العودة إلى ستار" لما كتبها أحد، ولو لم يكتب محمد المكي إبراهيم "بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت" لما كتبها غيره، ولو لم يكتب محمد الفيتوري "معزوفة لدرويش متجول" لظلت غائبة تماماً في رحم الغيب. فهذه الأعمال هي نتاج عبقرياتهم وحدهم لا شريك لهم فيها ولا مانح أو مانع. وفي الرواية لم يكن بمقدور أحد أن يكتب "السواد المر" غير الروائي القاص الشاعرالناقد المترجم وصانع الأفلام محمد سليمان الفكي الشاذلي، ولا حتى صديقه الطيب صالح. كما أنه لم يكن لأحد أن يكتب "أطياف هنري ويلكم" غير العبقري الفوضوي الخلّاق مهند الدابي. والحال هو ذات الحال مع "نسيان ما لم يحدث" بنواقصها المحدودة وبروعتها اللامتناهية. لا سقف هنا يحجب أو يظل، ولا نافذة يطل منها من يطل، ولا درج يرتقيه عازم على الصعود، أو حبل يتدلى به راغب في النزول وإنما هي عبقريات تفري فريها حتى يرتوي الناس منها ويضربوا بعطن. (14) وكما أن هنالك تاريخ وتأريخ، فهنالك أيضاً في "متاهات نسيان ما لم يحدث" الهرب من شيئ والهروب إلى شيئ آخر. وهذه ليست محاولة للتلاعب باللغة، وإنما هي اختلاف في المداخل والروئ والتصورات تتضح معالمه عند النظر إلى منطلق خوزيه أورتيغا غاسيت الذي يرى أننا "بحاجة إلى التاريخ بأكمله، ليس لكي نعود إليه، ولكن لنرى إن كان بمقدورنا أن نهرب منه" وبين منطلقات وقراءات آخرى مؤسسة على تجارب معرفية مختلفة قادت إلى تبني مواقف مغايرة من بينها قراءة فرانك جيري الذي يقول: "لا يمكنك الهروب من التاريخ حتى ولو أردت ذلك، فأنت بحاجة لكي تعرف جيداً من أين أتيت، وأن تدرك تماماً كيف أن كل شيئ قد تمّ على هذا النحو أو ذاك." ويمضي معه في هذا التوجه اليكس هيلي، مؤلف ملحمة "الجذور"، الذي يكاد حلقه أن يغص بمذاق كل تلك المرارات التي تجرعها الأفارقة الذين حملتهم رحلة الاسترقاق عبر الأطلنطي إلى حقول التبغ والقطن والسكر والذل والمهانة في الكاريبي والجنوب الأمريكي، ولهذا فهو أكثر إحساساً بمغبة تجاهل دروس التاريخ وعبره عندما يقول: "ما لم نتعلم من التاريخ فسيكون قدرنا أن نعيده. وهذا لم يعد مجرد اجتهادات أكاديمية، وإنما قد يتضمن مصير عالمنا وقدرنا كبشر." أما عيسى الحلو، المُلِم بذلك جميعه، فإنه يعيش في "نسيان ما لم يحدث" حالتي الهرب (كفعل غير مشروع)، من التاريخ والهروب إليه (كفعل مشروع وأكثر ايجابية). فعلى مستوى "الهرب من" يقول السرد: "وطوال كل هذ القرن المنصرم، ورغم تكرار هذه الفواجع في التأريخ الوطني وإن اختلطت أشكال هذه الفواجع إلا أن القوم لم يتعلموا شيئاً من هذه الهزائم! .. كانوا ينسون كأن شيئاً لم يحدث!! ... وهكذا يشتغل النسيان.. نسيان ما لم يحدث أصلاً في فضاءات الذهول والنوم الأسود. ويمشي الناس على الأرض وهم نيام .. يحيطهم الليل من كل جانب! وهم لا يدرون... حتى أصبح وعي العالم هو نوع من الهروب من الواقع." (ص 35-36) (15) وعلى مستوى "الهروب إلى" يقول السرد:"وهكذا انتهى ذلك العهد الوطني الذاخر بالتضحيات وغيب في غياهب التاريخ ... انطوى الناس صمتاً وتوجساً وخوفاً من الزمن الذي أصبحوا لا يأمنونه ولا يستريحون إليه. لقد قتلت في قلوبهم هذه النبضات التي تمجد ذكرى المهدي الإمام. وانتظروا حتى أتاهم استقلال السودان فعاودوا رواية تلك السير..وأخذوا يتعرفون على أنفسهم كأناس حقيقيين من جديد!" (ص 52). ويلاحظ القارئ أنني أكتفي بتقديم كلمات عيسى الحلو كما هي من غير أي محاولة لتقديم أي نوع من أنواع التفسير، لأني على قناعة بأن التفسير، كما تقول سوزان سونتاج، (16) وفي ذات المقابلة عندما تحدث عيسى الحلو عن توجيهه بعض اللوم لأبناء جيله لأنهم لم يأخذوا أنفسهم "بالشدة فتضخمت عندهم أحيانا "الذات الكتابية" سأله محمد نجيب "ألا تجد في ذلك تواضع الكاتب منك؟" فرد عليه الحلو"يقولون لي ذلك، وأنك متواضع كأنما في ذلك خلل في استقامة الأمور، وأنا أرى أن الكاتب كلما عاش التواضع قرأ العالم وما حوله ونفسه قراءة ذاتية جيدة لا ترتبط بنرجسية ولا تضخم الأشياء..." والحلو يقول، وإن لم يكن يقول فإته يقبل بفضيلة التواضع. والذي أراه أن ذلك غاية في حقيقة الأمر غايية في الغرور. ولا أقول هذا من باب اللوم أو التعيير، وإنما أقوله من منطلق المحبة والتقدير.فالروائي بحاجة إلى ذلك الزهو الداخلي الذي يجعله، كما يقول جيمس جويس في "صورة للفنان في شبابه": "أن نعيش، وأن نخطئ، ونسقط، وننتصر، ونبدع الحياة من الحياة. ظهر له ملاك وحشي، ملاك الشباب والجمال الفاني، مبعوث من محافل الحياة الرائعة، ليلقي أمامه مفتوحة في لحظة نشوة أبواب كل طرق الخطأ والمجد. وما إلى ذلك وما إليه وما إليه وما إليه!" ولأن المتحدث هنا هو جويس لا أستطبع التوقف عن إيراد ما قاله في لغته الأصلية حتى يرى القارئ شتان ما بين الترجمة مهما حاولت وذلك الإبداع اللغوي الذي لا يجارى: "To live, to err, to fall, to triumph, to recreate life out of life. A wild angel appeared to him, the angel of mortal youth and beauty, an envoy from the fair courts of life, to throw open before him in an instant of ecstasy the gates of all the ways of error and glory. On and on and on and on!" (17) وأنا أقترب من .. على يقين من أنني قد أزعجت أستاذي عيسى الحلو بالعديد من الأحكام التي لا أخضع فيها إلا لما أعتقده من جماليات الأدب وما أقتنع به من حقائقه. والعلاقة بين الجمال والحقيقة في الأدب والفن علاقة لا انفصام لها. وفي هذا يقول دبليو أتش أودن "ينشأ الفن من رغبتنا في كل من الجمال والحقيقة ومعرفتنا أنهما لا يتطابقان"، ولكننا نسعى لكي يتطابقان. أو كما قال فيليب لاركن "تبدأ كل قصيدة على أنها إما حقيقية وإما أنها جميلة. ثم نحاول أن تجعل القصيدة الحقيقية تبدو جميلة، وأن تبدو الجميلة حقيقية." ولهذا قد يريحه قليلاً أنني قررت منذ البداية أن تكون قراءتي لرواية "نسيان ما لم يحدث" ثلاثية، وليست خماسية أو سباعية. ومع هذا لا بد لي من الإعتراف بأنني قد وجدت متعة بالغة في التجوال بين متاهات "نسيان ما لم يحدث" باحثاً عن "الذئب الذي لم يأكل يوسف"، مستانئساً به وقتاً، وهاربا منه عند نهاية التجوال بعد أن عوى مراراً بنداءات الذاكرة والنسيان والخيال والوهم والإمكان والاستحالة وأخيراً التاريخ. (18) أخيراً، لقد ظل عيسى الحلو عمراً في ساحة الأدب يكر ولا يفر، يراجع تارة وتارة يبدع، يقول ولا يقذع، ينصح ولا يروع، ويطمئن ولا يفزع، ويزود عن كل ثغر للأدب، وينافح عن كل موقع. يفعل ذلك وهو "يطاعِنُ خَيلاً مِن فَوارِسِها الدَهر"، ويترك في عوالم القصة والرواية والنقد "دَوِيّاً كأنّما تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشرُ." ولهذا كلما رأيت صورته مبتسماً على الغلاف الداخلي "لنسيان ما لم يحدث" وجدتني أردد كلمات الفريد لورد تنيسون: "Though much is taken, much abides; and though/ We are not now that strength which in old days/ Moved earth and heaven; that which we are, we are;/ One equal temper of heroic hearts,/ Made weak by time and fate, but strong in will/ To strive, to seek, to find, and not to yield." "وعلى الرغم من أن الكثير قد ذهب، إلا أن الكثير يثابر؛ ومع أننا لم نعد نمتلك قوة الأيام الخوالي التي تحرك الأرض والسماء، فلا زلنا نحن كما كنا نحن، ذات المزاج المعادل للقلوب الجسورة، التي ألحق الزمن والقدر بها الضعف، ولكن الإرادة لا تزال قادرة على أن تناضل، وتسعي وتبحث وتَجِد، وأبداً لا تذعن." عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.