نائب رئيس الاتحاد العام يقف على اعمال النظافة باستاد جبل اولياء    البولِيس السِّرِّي    التعادل يؤجل فرحة البرتغال بالتأهل    هل يتسبب سقف الرواتب بهجرة جماعية لنجوم الدوري الإنجليزي الممتاز؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة إيمان الشريف تحيي حفل غنائي بالسودان وتحصل على "نقطة" طائلة من العريس    رئيس مجلس السيادة يعود إلى البلاد بعد زيارة رسمية إلى القاهرة    شاهد بالفيديو.. بعد الوقفة القوية للسودانيين بأوغندا وخارجها.. إستلام جثمان الفنان الراحل علي كايرو من المستشفى بعد سداد مبلغ 6 ألف دولار    شاهد بالفيديو.. بعد الوقفة القوية للسودانيين بأوغندا وخارجها.. إستلام جثمان الفنان الراحل علي كايرو من المستشفى بعد سداد مبلغ 6 ألف دولار    محل اتهام!!    "الصمت الرقمي".. ماذا يقول علماء النفس عن التصفح دون تفاعل؟    شريف الفحيل: تهديد جمال فرفور سبب مغادرتي السودان وتقديمي اللجوء في كندا    رحيل علي «كايرو».. نهاية حكاية فنان أثار الجدل وكسب القلوب    في مشهد مؤثر.. أحمد الصادق يغني لأول مرة مع شقيقه حسين على مسرح    شاهد بالفيديو.. هتفوا (الجماعة طاروا).. سودانيون بالدوحة يخرجون في مسيرات فرح احتفالاً بفوز "قطر" على "الإمارات" وتأهلها لكأس العالم    السودان يدعو العرب لدعم إعادة تعافي القطاع الزراعي في الاجتماع الوزاري المشترك الثالث بالقاهرة    بنك الخرطوم يعيد تشغيل فرع الكلاكلة: إيذانًا بعودة الحياة الاقتصادية    السودان يدعو المجتمع الدولي إلى تحمل مسئولياته تجاه ممارسات المليشيا المتمردة في الفاشر وإدانة جرائمها الوحشية    بوتين: روسيا وسوريا تتمتعان بعلاقات خاصة منذ عقود    القاعدة المريخية تترقب "تعيين التسيير .. وتوقعات بأسماء جديدة    شاهد بالفيديو.. بلة جابر يكشف عن اللاعب "الشفت" في الكرة السودانية    مجازر مليشيا الدعم السريع المروعة في الفاشر ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية    راقبت تعليقاتهم على مواقع التواصل.. إدارة ترامب تفاجئ 6 أجانب    تدمير راجمة صواريخ لمليشيا الدعم السريع المتمردة كانت تقصف المواطنين بالفاشر    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: «كوشيب» مرآة منظومة الإنقاذ في السودان    قبل صدام الكونغو الديمقراطية.. تصريحات صادمة لمدرب منتخب السودان    قادة عسكريون يكشفون أسباب محاولة اغتيال كيكل    الجيش يوجّه ضربة موجعة جديدة للميليشيا    وفاة صحفي سوداني    قرارات مهمة لنادي الهلال السوداني    إبراهيم شقلاوي يكتب: أمن المعلومات واستعادة البيانات    لجنة أمن ولاية نهر النيل: القبض على مطلق النار بمستشفى عطبرة والحادثة عرضية    تعيين محافظ جديد لبنك السودان    ترامب: أميركا مع السيسي دائما    شاهد بالفيديو.. الفنانة هبة جبرة تهاجم الناشطة "ماما كوكي": (تسببتي في طلاقي وخربتي بيتي..ما تعمليني موضوع وتلوكيني لبانة وشريف الفحيل دفعتي)    تقرير الموارد المعدنية: 909 ملايين دولار حصيلة الصادرات    ترامب : أنجزنا المستحيل والدول العربية والإسلامية شركاء في السلام    الفنان علي كايرو يكتب رسالة مؤثرة من سرير المرض: (اتعلمت الدرس وراجعت نفسي وقررت أكون سبب في الخير مش في الأذى وشكراً الشعب السوداني العظيم) والجمهور: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)    قوات الطوف المشترك شرق النيل تدك اوكار الجريمة بدائرة الإختصاص وتوقف (56) أجنبي وعدد من المتهمين    حاج ماجد سوار يكتب: كيف يكتمل تفكيك المليشيا (1)    انا والسياسة الاقتصادية والكورنة    السفارة القطرية: وفاة 3 دبلوماسيين في شرم الشيخ بمصر    وزير المعادن يترأس اجتماع مناقشة الخطة الاستراتيجية لتأمين المعادن ومكافحة التهريب    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    احبط تهريب أخطر شحنة مخدرات    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    حادث مرورى لوفد الشباب والرياضة    عملية أمنية محكمة في السودان تسفر عن ضبطية خطيرة    السودان..محكمة تفصل في البلاغ"2926″    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا أبو الضيف جبتو كيف !! ... بقلم: الفاضل عباس محمد علي- أبو ظبي
نشر في سودانيل يوم 11 - 06 - 2010

لا أعتقد إن هذا المثل مناسب تماماً لما سأقول ، ولكنه لسبب ما قفز إلى ذهني عندما قرأت (المحن ) الأخيرة للعلاّمة شوقي بدري التي يتحدث فيها عن أستاذنا الحبيب هاشم ضيف اللّه ، وبقدر ما سعدت بوفاء هذا المؤرخ الأمدرماني الباذخ وبحرصه الذي لا يفتر على إعطاء كل ذي حق حقه ، بقدر ما عجبت كيف أن أحداً من أبناء الدفعة الأولى لمدني الثانوية لم يبادر بشيء كهذا ، وعجبت كيف أني علي سبيل المثال أبيّض الصحائف هنا وهناك منذ ربع قرن ولم أكتب عن أبي الضيف على الرغم من تأثّرنا به في كل شيء :حب الوطن وكرة القدم والانضباط وعلم الجغرافيا واللّغة الإنجليزية، وعلى الرغم من تتلمذنا على هذا الطود التربوي النادر لأربع سنوات كناظر لمدني الثانوية وعجبت كيف أن السياسة السودانية المهترئة والسيزيفية (ساقية جحا) التي ظلت تدور بنا في حلقة مفرغة منذ خمسة عقود ، ما برحت تشغلنا عن التوثيق لعمالقة مثل أبي الضيف ، وفي التوثيق تثبيت للقدوة الحسنة في أذهان الناشئة وتذكير بمبادئ التعليم الممتاز الذي أرسى دعائمه هاشم ضيف اللّه مع نخبة من المعلمين الأوائل بدءاً بعبد الرحمن علي طه وأخيه عبد الحليم وصهرهما التجاني علي والقدال سعيد القدال-الذي انتدبته وزارة المعارف لحضرموت فدرّس فيها وصار مفتشاً للتعليم ثم وزيراً للتربية ثم رئيساً للوزراء- وجمال محمد أحمد وعبد الله الطيب وأحمد الطيب ومحمد الحسن عبد الله ودهب عبد الجابر وأحمد محمد سعد وأحمد نمر ومحمد التوم التجاني ومكاوي خوجلي وسعد أمير وعبادي ومحمد وأحمد محجوب سليمان شورة ومصطفى أبو شرف وآخرون كثيرون ...ذلك التعليم الذي انتاشته السهام من كل صوب وحدب كما ذكر شوقي بدري ، خاصة السهام المصرية الفتّاكة التي أودت به تماماً في نهاية الأمر على يد محي الدين صابر ورهطه المدسوسين من المخابرات المصرية ، فأصبحت مخرجاته اليوم أجيالاً من أنصاف المتعلمين الوالغين في الأفكار المتطرفة والمشبّعين بحب الذات والتهافت خلف عرض الدنيا بلا طائل ،مع ضمور في الحس الوطني وكثير من الجلافة والجهل باللّغة الإنجليزية والعربية نفسها ... أجيالاً عصفت بمكانتنا بين الدول وهبطت بقيمة الإنسان السوداني وأخرجتنا من المنافسة من اجل الوظائف الإقليمية والدولية وجعلتنا هدفاً للتقريع والسخرية، خاصة فيما يتعلق بفرية الكسل التي أشاعها أشقاؤنا المصريين بمثابة ضغث على إبالة.
ولقد ركز الأخ شوقي على بدايات الأستاذ هاشم بأم درمان حيث كان من مؤسسي نادي الهلال ،ولكن بما أنه كان حقيقة من خريجي كلية غردون المتميّزين فقد انخرط في مهنة التدريس التي سرعان ما أوفدته إلى لندن ثم ليدز ببريطانيا للدراسات التخصصية، وهناك انضم هاشم لفريق ليدز يونايتد لموسم أو موسمين ، وربما كان الأفريقي الوحيد آنذاك بكرة القدم البريطانية؛ وعاد من بعد ذلك لحنتوب حيث درّس مادة الجغرافيا (وقبل ذلك كان يدرس الإنجليزية والفنون الجميلة) ولعب في نادي الاتحاد بود مدني لعدة سنوات، ثم انتقل لمدني الثانوية ناظراً منذ تأسيسها عام 1956 ومنذ أن كانت مجرد خرائط وملفات ،فساهم في بنائها طوبة طوبة وميداناً بعد ميدان، وكان يقيم يومه كله بالمدرسة يشرف على المقاولين والمتعهدين ويدرّس أي مادة يتخلف أستاذها عن الفصل (الصف) ويقوم بتدريب فريق كرة القدم منذ الرابعة عصراً ، ويتواجد بمكتبه أثناء المذاكرة المسائية (6-8م)، وبعد ذلك يمشي راجلاً حتى نادي الاتحاد يومياً ويعود بعد ساعتين تماماً، وكانت المدرسة في طرف ناء من المدينة وتفصلها (عقبة ) موحشة يرتادها قطّاع الطرق بانتظام ، ولقد تصدى أحدهم للأستاذ هاشم حاملاً عكازاً مضبّباً وتتدلى سكينه من أعلا ذراعه الأيسر، فأعطاه هاشم ساعته الرولكس وقال له (هذه الساعة قيمة ، فأرجو ألا تبيعها، بل أرجوك أن تأتي إلي مكتبي صباح الغد لأفديها بما أستطيع من مال)، وبالفعل جاءه الحرامي ومعه الساعة ورفض أن يأخذ فلوساً عليها، فعرض عليه أبو الضيف أن يعمل بالمدرسة وقبل، وأصبح مسؤولاً عن مخزن الأدوات الرياضية لسنين طويلة بمدني الثانوية ، وكان غاية في الاستقامة والدقة والانتظام في العمل.
وعلى مدى الأربع سنوات التي كان أبو الضيف ناظراً للمدرسة كان اليوم يبدأ باجتماع الصباح (الأسمبلي المشهور) وطوال تلك الفترة لم يكرّر أبو الضيف نفسه ولم يقص علينا قصة مرتين كما يفعل كثير من الثرثارين النرجسيين الذين داهمهم الخرف قبل أوانه، ولم يتطرق السأم إلي نفوسنا ونحن نستمع له ...إنما كان على الدوام نهراً متدفقاً ومتجدداً من المعرفة والبلاغة العربية والانجليزية والسخرية البرناردشوية القارصة والحكمة والنكات والنصائح التربوية التي تبقى معك العمر كله . والأسمبلي أداة تربوية رائعة، فهو تمرين يومي في الانضباط والهندام والالتزام بالمواعيد، فمن ذا الذي يجرؤ علي القدوم متأخراً، بعد أن يبدأ أبو الضيف حديثه؟ إذا حدث ذلك فإن أبو الضيف يتوقف حتي يأخذ الفتي مكانه، والمدرسة كلها تتابعه بنظرات كلسع السياط. والأسمبلي عبارة عن إذاعة داخلية صباحية للإعلانات الهامة، ولقاء أسري تواصلي، وقد تناقش فيه كبريات القضايا بحرية وشفافية مع الانضباط ومراعاة الوقت، وإذا رفع أي طالب أصبعه يعطي الفرصة ليدلي بدلوه، مثل ذلك الصديق الذي تحدث عن (العراريق) فيما أورد شوقي بدري، وهو في الحقيقة ترب الصبا وابن سنار البار عمر محمد يوسف، وقد رد أبو الضيف ساخراً بعض الشيء من صيغة الجمع (عراريق)، ولكن ود الحسين أستاذ العربية صحّح الناظر قائلاً إن الجمع صحيح، أما كونه يتحدث عن العراريق وليس القمصان فذلك شيء آخر؛ فكأنك في ديمقراطية أثينا القديمة حيث يجتمع كل سكان المدينة تحت سقف واحد يتشاورون في أمورهم ويتدربون علي مخاطبة الناس.
وكان من نتائج ذلك الوجود الهاشمي المكثف بكل الساحات الأكاديمية والرياضية والثقافية أن المدرسة كانت مركز إشعاع بهر وأطرب وأثري المدينة كلها، ولقد أبلت المدرسة بلاءاً مميّزاً في تلك السنوات وعادت بالكؤوس من كل المنافسات والمناسبات- مثل العيد الفضي لبخت الرضا عام 1958 علي ما أظن- وتفوقت في كرة القدم والسلة وألعاب الميدان والمضمار، وكان من حسن حظها أن أول دفعة من الفاشر الثانوية بدأت في كنفها واستمرت لأربع سنوات لأن المقام طاب للضيف والمضيف، فأبناء الغرب أهل بسطة في الجسم وسيقان تعودت (علي القفز من فوق الزرائب كما قال القبجي) وعلي الركض في الهواء الطلق بالبراري والسافانا الدارفورية، فعمّروا الحياة الرياضية والثقافية بالمدرسة وجلبوا لها الانتصارات في كافة الدورات، كما ألهبوا الحماس لفرق الداخليات بما لا يقل عن هلال/مريخ، وأضافوا الكثير للحركة المسرحية التي ثقفت ورفهت عن طلاب المدرسة وسكان المدينة، وفاضت عروضاً علي مدن أخرى مثل سنار التي شهدت أعمالاً واسكتشات غير عادية قدمتها مدني الثانوية بمسرح السينما وبمسرح شعبي أدهوك أقيم بحديقة الخزان لأهل سنار وضواحيها. فانظر يرعاك الله لهذا التواصل بين المدرسة والمجتمع! وحدثني عن تلك المواهب والعبقريات: أين ذهبت! هل شالها القاش؟
وعندما جاء يوم الحساب بعد أربع سنوات، كانت الدفعة الأولي هي الأولي كذلك بالنسبة للشهادة الثانوية، ووجد كل من فيها (باستثناء واحد أو اثنين) طريقهم للجامعات والمعاهد العليا داخل وخارج البلاد، بدءاً بجامعة الخرطوم، وأثبتت التجربة الهاشمية إن التفوق الرياضي والثقافي قيمة مضافة للتفوق الأكاديمي، تدعمه وترسخه وليست خصماً عليه، وهكذا تخرجت دفعة هاشم ضيف الله بما لا يقل تأهيلاً عن خريجي المدارس الإنجليزية العريقة مثل إيتون وهاروز. ولقد أخبرني الأمين عمر أحمد بزيارته لأبى الضيف في منزله بأم درمان بعد ذلك بأربعة عقود، وكيف أن أبو الضيف أخرج دفتراً قديماً به جميع أسماء الدفعة الأولي وأخذ يستعين بالأمين لتحديث المعلومات الخاصة ببعضهم، أي أنه ظل متابعاً لأخبار طلابه حتي الرمق الأخير. ولم نسمع عن ذلك الرهط الأول إلا كل ما يرفع الرأس ويبيّض الوجه (كما تقول أعراب هذه الأيام)، فليس فيهم من نهب مال الدولة أو أثري بمال السحت (باستثناء واحد أو اثنين)، وليس فيهم من تسلق علي أكتاف الآخرين بلا مؤهل يسنده، أو من شارك في تعذيب السودانيين أو استغل أي نوع من أنواع السلطة لمنفعة شخصية أو أسرية أو قبلية. فياله من جيل كذهب شيبون.
ولا أقول إن الفضل في ذلك يعود للمربي الفاضل أبو الضيف وحده، إنما لرفاقه الأماجد كذلك، مثل الأستاذ أحمد خالد وود الحسين وأحمد صفي الدين ومحي الدين والسيدابي وبديع صليب وحافظ عباس وبولس الصباغ والفونص سيدهم والمستر بيري والمستر روتشستر، الذين لعبوا دورا أساسياً في تمكين طلابهم علمياً وفكرياً ورياضياً، وفي صياغتهم كشخصيات متعددة الملكات ورفيعة الأخلاق وجمة التواضع وشديدة الإرتباط بالتراث والوطن، رغم أن جل الأساتذة من الأجانب. وكان أبو الضيف لأربع سنوات كاملات هو ربان السفينة الماهر المتجرد الذي يعلّم بالقلم كما يعلم بالنموذج وضرب المثل، بدءاً بذلك المظهر البسيط والمنضبط (رداء كاكي وقميص نص كم برباطة عنق وحذاء نظيف علي الدوام) ، إلي جلوسه مع الأساتذة حول طاولتهم بسفرة الطعام لتناول الوجبات مع طلاب الداخليات، وبذلك يقتسم معهم الملح والملاح؛ وبرغم هذا الحضور الدائم لأبي الضيف بين طلابه ظلت هناك مسافة بينهم تسكنها الرهبة والهيبة والإحترام، وكانت مدرسة أبي الضيف التربوية تعتمد علي الضبط والربط والحزم الشامل بدون الحاجة للعصا أو القهر أو الإضطهاد أو الفصل التعسفي أو الملاحقة والتجسس، وكان في نظام (أبو الفصل) وضابط ومشرف الداخلية (التيوتر) إمتداداً ورفداً للأب الحقيقي وتعويضاً عنه في غيابه، كأنك علي الدوام في كنف الأسرة الدافىء.
وبعد تلك الفترة الذهبية الزاهية بمدني عبر هاشم ضيف الله النهر لمعشقوته الأخري حنتوب، وبها أقام لعدة سنوات كانت قصة أخري متواصلة من النجاحات الأكاديمية والتفوق الرياضي والمساهمة الثقافية والفكرية، وحضوراً معطراً بنادي الإتحاد ونادي الجزيرة ودوائر كرة القدم.
وترقي أبو الضيف ونقل لرئاسة الوزارة مساعداً لوكيلها ثم نائباً له. وبعد التقاعد، عمل هاشم لعدة سنوات كرئيس للقسم الرياضي بجريدة الصحافة، ومديراً لمعهد الرياضة، وشارك في تدريب نادي الهلال والأهلي السوداني، وساهم بالعديد من الأحاديث الشيقة المذاعة من هنا امدرمان التي سكب فيها عصارة تجاربه العميقة في التعليم والرياضة، مع تركيز خاص علي سيرة كأس العالم. وظل أبو الضيف متفرغاً للتعليم ولكرة القدم والنقد الرياضي، ولم يغادر بلاده إلا للدراسة في بريطانيا بأواخر الأربعينات، ولقد استنكف عن الإغتراب في الدول المنتجة للنفط ورفض الوظائف التي عرضها عليه اليونسكو والبنك الدولي وهي الجهات التي كان يتفاوض معها بإسم السودان لإستقطاب الدعم والتمويل لكافة المشاريع التربوية، وفضل أن يعيش في بيت عادي متواضع بأمدرمان، شامخ الأنف كسوداني أصيل يذكرك بالشيخ محمد البدوي والشيخ غريب الله والشيخ العبيد ود بدر فرح ود تكتوك وجده الشريف الخاتم وغيرهم من الدر الميامين. لقد فضل هاشم ضيف الله أن يعيش موفور الكرامة، سليم العرض، ومحتفظاً بماء وجهه حتي توفاه الله راضياً مرضياً ببقعة الإمام المهدي. ولا زلت أخجل من نفسي عندما أتذكر أننا خرجنا في مظاهرة تهتف: (يسقط الإنجليز السود!) والمقصود هو أبو الضيف لأنه رفض أن يصدق لنا بالموكب قائلاً إن ذلك غير مسموح به في أثناء الدوام الرسمي، ويمكننا أن نتظاهر يوم الجمعة، ولكننا أصررنا علي رأينا وخرجنا من الفصول، (وأحسب أن ذلك مستمد من روح العطالة والتسيب البدوي المتأصل، فالطبع يغلب التطبع!)
لا أعتقد إن أمثال أبي الضيف يجود بهم الزمان كل يوم، فرغم الهالة والحزم والكاريزما المحيطة به، ورغم أنه يرهب عنتر ونابليون، تجده خفيف الظل وصاحب نكتة وطرفة ، ويتناقل سخرياته ونوادره العربان والركبان. ففي أول تمرين للفريق الأول لكرة القدم (الذي كنت أحضره من خارج الميدان، إذ رغم كلفي بكرة القدم ما كان لي حظ في لعبها) قام سعيد رجب طويل القامة القادم من الرنك بركل الكرة بصورة عمودية نحو السحاب، فصفّر أبو الضيف منهياً التمرين وجاء إلي حيث نجلس خارج الميدان، ولما لحق به أفراد الفريق سألهم: (الكورة جات من السما؟) بتلك النخنخة المحببة والمميزة. وبينما يدفعك أبو الضيف للضحك حتي تستلقي علي قفاك يظل صارماً كأنه تمثال في متحف الشمع، وهو لا يضحك إلا لماماً ولدي الضرورة القصوي.
ألا رحم الله هاشم الشريف ضيف الله، فهو حقاً سليل شرفاء جهابذة، عطروا سماواتنا بنار التقابة التي وجد فيها أبناء شعبنا ملاذاً للعلم و دفئاً في الشتاءات الباردة و أوداً بلا امتنان ......... بالمناسبة، أين هي المدرسة الثانوية (أو الجامعة) هذه الأيام التي تطعمك ثلاث وجبات يومياً لمدة أربع سنوات، و تصرف لك الصابون و الظهرة كل خميس، و تزودك ببطانيتين و ملابس و أحذية الرياضة، و تمول رحلاتك لأمبارونة و أم سنط، وتصرف لك تصاريح السفر في الإجازات، والكتب والكراسات بالمجان، و يستوي في ذلك أبناء الموسورين و الكادحين؟
لقد كان في اختفاء أمثال هاشم من الساحة بداية العد التنازلي لانهيار التعليم، و ليس غريباً أن يعقب ذلك مباشرة انهيار السودان نفسه الذي يمر بأحلك ظروفه منذ السلطنة الزرقاء... فهذه الدولة الحيّة التي بدأ فيها التعليم الحديث منذ عام 1845 على يد عباس باشا و رفاعة رافع الطهطاوي.... تتأهب الآن لتنقسم إلى نصفين، و ربما عدة دويلات متحاربات، و نحن مكتوفي الأيدي كأن الأمر لا يعنينا؛ كيف لا نرد الجميل لبلد علّمنا خير تعليم من الابتدائية حتى البعثات المستطيلة ببريطانيا و أمريكا؟ كيف نلوذ بالصمت و بلادنا تتآكل اقتصادياً و اجتماعياً و أخلاقياً و جغرافياً، و تمضي في طريقها نحو الهاوية؟
على كل حال، موضوعنا هو أبو الضيف، فلنعد له، و ليتكرم أحدهم بفتح بوست نجد فيه مساهمات الدفعة، و ليتحرك محبو مدني و أبي الضيف: أبو بكر ميرغني عشرية وبدر الدين يوسف عامر و الأمين عمر أحمد و عوض عبد القادر وحاج أحمد عمر الشيخ والباشمهندس محمد يوسف و عدلي محمد حسن و عصام البوشي و أحمد المصطفى القبجي و الفاتح الجيلي ....... و غيرهم و غيرهم. و السلام.
fadil Abbas [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.