رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دارفور وتسونامي سقوط الأنظمة الإستبدادية: أفق جديد لمعالجة شاملة .. بقلم: أحمد ضحية
نشر في سودانيل يوم 25 - 03 - 2011

(1) الأزمة الوطنية الشاملة والأزمة في دارفور (راهن الأزمة في دارفور والبعد التاريخي)
"(... واذا كان لعبارة " ليس مرة أخرى " أى معنى في الشئوون الدولية , فعلى العالم أن يتصرف فورا , لإنقاذ سكان دارفور") هذا ما أستهلت به " مجموعة الأزمات الدولية " تقريرها الموسوم ب"الخرطوم تحفر مقابر مواطنيها في دارفور (1)".
ومع ذلك إستمرت هذه "اللحظة الأخرى" التي سبقتها "لحظة رواندا", لتمتد سنوات وسنوات , إلى أن فاجأنا تسونامي الثورات العربية . دون أن يتحرك المجتمع الدولي ,لحل مشكلة السكان المدنيين العزل في دارفور , في مأساتهم الوجودية, التي لم تحدث لأي شعب في التاريخ المعاصر.
ومع ذلك جميعنا نتعاطف الآن مع الشعب الليبي واليمني ,في محنتهما الوجودية الصغيرة مقارنة بمحنة الدارفوريين, كما تعاطفنا ونتعاطف من قبل ومن بعد مع شعوب : تونس و مصر والبحرين , وكل الشعوب السابقة واللاحقة , في سبيل حقوقهم المشروعة ,لأجل إقامة الدولة الديموقراطية الحديثة ,التي يعيش فيها المواطن بكرامة في وطنه,سواء كان راعيا للغنم أو لم يسبق له أن رعى أغنام!..
السؤال هو بعد كل هذه "التعاطفات الإنسانية" : من يتعاطف مع مواطني دارفور؟ من يتعاطف مع هؤلاء الذين تجاوزت محنتهم الآن, أكثر من تسعة سنوات ؟! ..
ما حدث في دارفور لهو أسوأ بكثير ملايين المرات ,عن ما يحدث الآن في ليبيا , بحيث لا يمكن وصف حجم مأساة الدارفوريين ,منذ بدأت الأمم المتحدة تهتم بمأساتهم كمأساة تفوق مأساة "مسيحيي رواندا" فمأساتهم لم تبدأ كمأساة عندما أوردت UN Office for coordination humanitarian affairs IRIN News.org , في صدر عددها الصادر 24/6/2004 "ما أوردته عن المآسي الإنسانية في "قولو" و"كلما" وغيرها من القرى والفرقان والمعسكرات,من إستمرار مليشيات الجنجويد و والأجهزة الأمنية والعسكرية للمؤتمر الوطني(أو الجبهة الإسلاموعربية القوموية), في قتل المدنيين وحرق القرى وإغتصاب النساء!.. وعلى مرأى ومسمع من الصرخات المنتهكة, لآبائهم وأخوانهم وأقاربهم!!...
يبدو أننا في خضم متابعتنا لثورات العالم العربي, نسينا قضايانا المركزية ,كقضية السودان في دارفور ,التي بح صوت منظمة " أطباء بلا حدود " و"أمنستي إنترناشونال" و"منظمة مراقبة حقوق الإنسان", وهي تتحدث عن ممارسات الحكومة الإسلاموية في الخرطوم منذ 2004 ضد الدارفوريين غير العرب ,المهجرين داخليا وخارجيا, في سبيل إستئصالهم, وتواطوء - وإرتكاب -نظام الإنقاذ لجرائم ضد الإنسانية, إقترفتها ميليشياته وأجهزته الأمنية والعسكرية (2)(3) (4) فالمشاهد المأساوية, والبؤس الذي يعيشه اللاجئون والنازحون في دارفور , لهو أكبر في الواقع من كل الكلمات الفادحة .التى حملتها تقارير المنظمات,سواء كانت جزء من مراكز التفكير الغربي أو لم تكن!.
وتنطبق على هذا الوضع الكارثي , تلك النكتة, التى إنطلقت على عهد الرئيس نميري : " قيل أن جهاز أمن نميري , ألقى القبض على رجل يوزع منشورات , ليس عليها أى حرف أو كلمة . وحين سألوه , لماذا خلت منشوراته من أى كتابة , قال الرجل : " وهل يحتاج الأمر إلى بيان ؟!" (5) ولقراءة الأزمة المتصاعدة في دارفور , لابد من وضعها في السياق العام ,للأزمة الوطنية الشاملة في السودان .
يشير عدد من الباحثين , إلى أن السودان , يمثل نموذجا مصغرا من قارة أفريقيا , فقد حظي بموقع وسط , أو متوسط . في أفريقيا ذات العوالم الثقافية المتعددة ( أي أفريقيا / العربية - الأفريقية , أفريقيا /الأفريقية المسلمة - أفريقيا المسيحية - أفريقيا الناطقة بالفرنسية - أفريقيا الناطقة بالإنجليزية, إلخ ... ) وتعكس التغيرات أو التطورات , التي تجري في السودان , ما يحدث في أفريقيا والعالم العربي عموما , أو تأخذ أشباها منها .
ويعكس السودان أفريقياً متناقضات أفريقيا خصوصا , بشكل ما . لكن السودان يتميز بفرادته , وسط الأقطار الأفريقية , بمعنى أنه عربي وأفريقي في الآن نفسه!.
وبينما تقدم التركيبة الداخلية, للسكان السودانيين , نموذجا مصغرا لأفريقيا : طبيعيا وثقافيا وإثنيا , فإن فرادته تواجه ذلك , بهامشيته السياسية المتعددة . بوصفه لا عربي ولا أفريقي .ولا مسلم ولا مسيحي ,(فهو كل ذلك )وهذا يضع السودان داخليا في وضع مربك وحرج جدا !.
إذ ترغب نخبته المسيطرة , التي تنحدر غالبا من الشمال النهري العربي , أن يكون عربيا ومسلما , وترغب نخبته الجنوبية أن يكون أفريقيا, وترغب نخبته الدارفورية في أن تكون علاقته متوازنة, بكل من أفريقيا والعالم العربي. ويرغب مثقفوه الحقيقيون في هذه المتاهة, أن يكون فقط دولة ديموقراطية مدنية حديثة , لديها القدرة على التعامل مع كل هذه المتناقضات, على أساس الديموقراطية والمواطنة ,وفقا لدستور يستمد مبادئه من الروح المدنية,التي ليس لديها هواجس أو ظنون حول الأديان والمذاهب والطوائف, وواقع التعدد والتنوع الثقافي والإثني..
أن هذه الرغبات المتعارضة , تقف في قلب الصراع السياسي , الذي يكمن في مركز تحلل الدولة السودانية (6) ولقد تطورت الأزمة التاريخية لدارفور في هذا السياق , بتضافر العديد من العوامل الأخرى , التى سنتناولها لاحقا .
تشير وقائع الوضع الكارثي في دارفور, إلى أن أنماط العنف ,الذي مورس على المدنيين غير مسبوقة. وهو ما أكدته ممارسات الحكومة الإسلاموعربية في السودان , و التي أجبرت السكان الذين ينتمون , إلي قبائل غير عربية , على مغادرة أراضيهم , وإحلال القبائل العربية محلهم . هذا غيض من فيض, يؤكد ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة عن : خطورة إستمرار هذا النظام على وحدة وإستقرار السودان.
فمنذ تقرير " النيران تشتعل في دارفور : الفظائع المرتكبة في غربي السودان " , الذي وصفت فيه منظمة مراقبة حقوق الإنسان , التدمير المنهجي والغارات الوحشية , لمليشيات الجنجويد ,وأجهزة الإنقاذ, ضد قبائل( الفور والمساليت والزغاوة) (7).. منذها والنيران تشتعل في دارفور أكثر فأكثر, دون تعاطف عربي أو إسلامي , على الرغم من أن منظمة مراقبة حقوق الإنسان, أكدت على التقرير المشار إليه, بتقرير آخرمؤلف من 77 صفحة :( دارفور قد دمرت : التطهير العرقي من قبل قوات الحكومة والمليشيات في غربي السودان ) حيث وصفت في هذا التقرير المجازر , والإعدامات السريعة للمدنيين , وإحراق القرى , والإخلاء بالقوة لقبائل الفور والمساليت والزغاوة من أراضيهم (8) كما عبر صندوق الأمم المتحدة لرعاية الاطفال " اليونسيف" عن قلقه , بشأن وضع آلاف الأطفال المشردين في ذلك الوقت(2004), في إقليم دارفور , الذين يواجهون خطر الأمراض , والإستغلال ونقص الغذاء .
كل هذا العنف الذي ظل يؤكد للعالم, أن هناك عمليات إبادة جماعية ,وجرائم حرب تجري ضد مدنيين.. فقط لأن قدرهم لم يجعلهم عربا!! .. فقط لأنهم أفارقة.. رغم كونهم مسلمين؟!!.
لم يفتح الله إذن لا على القرضاوي ولا على هيئة علماء المسلمين المزعومة ,بإصدار أي نوع من الفتاوي ,حيال ما يجري, كما فعل القرضاوي وهيئة علماء المسلمين ,تجاه الثورة المصرية والليبية , رغم أن الثورة الليبية, وهي ثورة مسلحة !لا تختلف كثيرا عن ثورة شرفاء دارفور ,إلى جانب أنها لم تتعدى سوى الشهرحتى الآن؟!.. مقارنة بثورة دارفور المستمرة لسنوات!!
هذا العنف المريع تم التنبؤ به منذ وقت مبكر , فلقد كان للحرب الأهلية في الجنوب , العديد من التداعيات بالنسبة لكل أقاليم السودان , وأحد أهم النتائج التى ترتبت على ذلك , الإنتشار الواسع النطاق للعنف اللامركزي في الجنوب . وفي الأجزاء الأخرى من القطر . التى تقع خارج النطاق الجغرافي للجنوب؟!! .
حيث تمثل المليشيات القبلية , التي تدعمها الحكومة ضمنا , أداة من أدوات إنتشار العنف اللامركزي , إذ نظرت الحكومة إلى عناصر هذه المليشيات , على أنهم مقاتلون بالوكالة - نيابة عنها- ومن ثم فإن هذه المليشيات , قد صعدت لاحقا , ومنحت وضعا قانونيا في 1989 , من خلال قانون الدفاع الشعبي . فإنتشار المليشيات القبلية في الحرب الأهلية الحالية , لا يحبط فرص التوصل إلى حل سلمي فحسب , وإنما ينفي دور الحكومة كسلطة وحيدة ,تملك قوة الإكراه. في إدارة الشئوون العامة , إذ تؤدي المليشيات القبلية, إلى إستقطاب المجتمع , بشكل أكثر حدة , وبالتالي فقد تزايدت بشكل بارز , إحتمالات التفكك الوطني (10) وفي إقليم دارفور الذي تراكمت عليه , مظالم التهميش . والإقصاء لعهود بعيدة , يتضافر ما هو تاريخي من عوامل الصراع المسلح , مع ما هو آني , ليخلق وضعا كارثيا ,كالذي نشهده اليوم ! ويقف إزاءه المجتمع الدولي بصورة غير أخلاقية , فقط لأن دارفور غير مسيحية وغير منتجة للنفط كليبيا!!...
فاذا كان سودان الوسط تاريخيا ,هو الوريث المعنوي لتركة الزبير باشا رحمة (11) فدارفور مثلها مثل مناطق أخرى في الهامش , بمثابة وريث معنوي , لتركة الرق والإسترقاق في السودان , وبنظرة عجلى إلى ما يعنيه ذلك , يشير محمد إبراهيم نقد – وفقا لمنهجه الماركسي الذي غالبا ما يلوي عنق الحقائق - إلى أن الرقيق مملوك لمالك , وممتلكاته الشخصية إن إمتلك أصلا تؤول للمالك (..) والقن حر , ليس مملوكا لمالك , ولا يباع ولا يشترى , له حقه وولايته على ممتلكاته , فالتحول من الرق إلى القنانة , أو تشكل علاقات القنانة , مستقلة عن علاقات الرق (..) وتضافرت عوامل عدة مباشرة وغير مباشرة , أقواها فاعلية نشوء سوق العمل بأجر(سوق عمل في السودان.قوية؟!) , إلى جانب أثر تجنيد الرقيق في الجيش وتسريحه , ومنع تجارة الرق , وتسجيل الأرقاء , وضغط الحملة العالمية المناهضة للرق , والسياسة الرسمية خفيضة الصوت والصدى , لإدارة الحكم الثنائي بشأن تحرير الرقيق (11) .وفي إستنتاجنا الشخصي لتحليل السيد ماركس أو الرفيق نقد , نجد أن دارفور عانت من كل النظامين " الرق والقنانة ", ما شكل مناطق مظلمة في وجدانها الثقافي تجاه هذا النظام تحديدا.
هذا الإحساس التاريخي المعنوي بالظلم -على الرغم من عدم موضوعيته في الراهن الماثل - إلا أنه يظل عاملا معنويا فعالا, تسترده الذاكرة بين آن وآخر , في أوقات السخط ضد هذا النظام, الذي يمثل مركزية الشمال في أقصى حدود قيمها البدوية المتخلفة.. فيستعيد الوجدان الثقافي ما يستعيده كوقود غير مرئي ,يقف خلف هذه الحرب الضروس, التي عاش الشمال مثلها ,في تجربته مع الجنوب! وهكذا تمتزج جرائم الحاضر بكوارثه , وجرائم الماضي بجرائره , عندما يجابه إنسان المكان .. إنسان الهامش ( موضوع الإسترقاق في الماضي ) , بما يذكره بتلك الحملات التى كان يقوم بها, أسلاف النخب الإسلاموعربية التى تعاقبت على حكم البلاد منذ 1956 ..
تجدر هنا الإشارة إلى شريف حرير, فقد أشار إلى عامل مادي مهم : كيف أن الصراع المحدود على الموارد الطبيعية , يمكن أن يتطور إلى حرب إقليمية , لها صفة شبه دولية .
أن إنتشار الحرب الأهلية في بقاع السودان المختلفة , والرعاية الآيديولوجية والمادية , لمليشيات قبلية محددة , من قبل الحكومة , والمصالح التي أظهرتها كل من ليبيا وتشاد – طبعا المقصود هو ليبيا ما قبل ثورة 17 فبراير 2011وتشاد ماقبل 17 فبراير2011- كقوى إقليمية متعارضة , تمثل الأطر التي تتيح هذا التحول , كما يلقي حرير الضوء على الإنقسامات الآيديولوجية والعرقية , بين العرب وغير العرب , والتي كانت عاملا ثانيا , طيلة الصراع السوداني-السوداني ,مثل الصراع بين الفور والعرب في دارفور . مؤكدا أن مأساة جنوب السودان , من الممكن أن تتكرر في دارفور (12) وفي الواقع قد تكررت, بما هو أبشع مما حدث في جنوب السودان نفسه!.
أيضا.. أن ما أشار إليه حرير يعتبر قراءة تاريخية, فالأحداث أثبتت فيما بعد, أن ما حدث في دارفور, لهو أسوأ بكثير مما حدث في الجنوب, لكن قدر دارفور أنها لا بواكي لها, فهي مسلمة لن يقف معها الغرب المسيحي بالسرعة والفعالية ذاتها, التي يقف بها مع الجنوبيين المسيحيين , كما لن يقف معها العرب ,لأن الدارفوريين الأفارقة ليسوا عربا , فهم مثلهم مثل أكراد سوريا أو أمازيق المغرب العربي,وهو ما أكد عليه عمرو موسى الإسبوع الماضي, في معرض حديثه عن الأزمة الليبية ؟! فقط لكونه مرشح من أزيال النظام السابق , لرئاسة مصر في الفترة المقبلة؟! .. هؤلاء هم العرب, ليصلوا إلى كرسي السلطة , لديهم إستعداد تام , للوصول إليه خلال بحر من دماء المهمشين , الذين لطالما ظلوا يطالبون بحقوقهم الإنسانية المشروعة ,عبر التاريخ الإنساني المعاصر!..
من الجلي أن الحكومات المتعاقبة لم تسع بصورة جادة , لصلب متناقضات الواقع المأزوم في السودان . ما جعل إعادة تدوير الأزمة السودانية التاريخية , أمرا ميكانيكيا , بين فترة وأخرى . فدولة الوسط (أو المركز)أو ما أسماه حرير بمثلث ( الخرطوم - كوستى - سنار ) , التي تقودها النخبة الإسلاموعربية , أنشأت إستعمارا محليا ,بعد خروج المستعمر الإنجليزي في 1956 . وكانت دولة عمادها مجموعة صغيرة من البشر , إتخذت إستراتيجية سياسية قائمة على العنصرية البنائية , وهي تعني إحتكار الممارسة السياسية , وإبعاد الآخر عنها .
فقد أعطى الإستعمار لنفسه الحق ,في إلحاق البلد المستعِمر , بتاريخ البلد المستعَمر , أى أن الإستعمار يلغي التاريخ والثقافة الوطنية , ويؤسس الإستلاب الثقافي , وبذلك فان الإستعمار الداخلي لدولة الوسط , والنخبة الإسلاموعربية , عمل على إلحاق الأطراف , ولأن هذه الأطراف تم إلحاقها , فإن تاريخها وثقافتها قد تم إلغائهما , كمجوعات ذات شخصيات ثقافية مكتملة (13), وتأسيسا على ذلك نجد , أن نظام الجبهة الإسلاموية ,عبر عن منتهى أشواقه الإستعمارية , وشهوة الهيمنة المستمدة , من عقلية الغزو والسلب والنهب البدوية , منذ الفترة الإنتقالية ( بعد إنتفاضة مارس /ابريل 1985) , فعناصره في المجلس الإنتقالي العسكري ( ممثلين في كامل المجلس ورئيس الوزراء , وأغلبية وزارية معه , ذهبوا بإتجاه تصعيد الحرب في الجنوب , وكان رئيس الوزراء الجزولي دفع الله , أكبر عائق أمام الإتجاه السلمي! وفي التحليل النهائي كانت تلك هي رؤية الترابي ,لمعالجة مشاكل السودان!..
الجزولي دفع الله كإبن مطيع للترابي , كما كشفت الأحداث لاحقا .كان بتصلبه ينفذ برنامج الجبهة الإسلاموية القوموية بحذافيره (14) إذ سيطرت عبره , عناصر الجبهة الإسلاموية القوموية , على الترتيبات الإنتقالية , قبولاعن مساندة المطالب الشعبية ,التى دفعت بالجماهير إلى شوارع الخرطوم , والتى نادت بها طوال الإنتفاضة ,التى أسقطت نظام السفاح نميرى , وتتمثل هذه المطالب في (إلغاء قوانين سبتمبر 1983) ومحاكمة عناصر الجبهة الاسلاموية القوموية , المسئولة عن وقوع البلاد في الفوضى , بدلا عن ذلك مضى الفريق سوار الدهب , رئيس المجلس العسكري الإنتقالي , ودكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء الانتقالي, وعمر عبد العاطي النائب العام , إلى الإتجاه الخاطيء بتصعيد الحرب , وهكذا سيطرت الجبهة الاسلاموية القوموية على الأمور , وجمعت بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية , خلال الفترة الإنتقالية (15)...
وشهوة القتل والحرب , التى سيطرت على نظام 30 يونيو 1989 الإسلاموي ,والتي دفعت الكثيرين للتنبؤ , بأن السودان يمضى بإتجاه , الصوملة أو اللبننة . ماهي إلا إمتداد لتلك الفترة,التي ساد قبلها منذ عقد أو أكثر من الزمان ,إرهاص قوي أن السودان , مقبل على سيناريو لبناني , ونفذ عمليا بعض القدر من هذا السيناريو . فأوضاع السودان في أكثر من جزء من جنوبه , وأقاليم أخرى ككردفان ودارفور وجنوب النيل الأزرق , إلخ .. هي لبننة محضة . من حيث حلف المظالم , وإنفلات السلاح , وقد ينسب المعتقدون بالسيناريو اللبناني , الجنون الداعي , إلى كلمة سواء , للخروج بالسودان من وهدته (16) ومع ذلك لم تأبه الجبهة الإسلاموية القوموية , لتحذيرات التجزئة والتفتيت , وحتى الآن بعد أن بدأ واضحا أن الجنوب قد إنفصل ,لا تزال لا تأبه بالإنفصالات المقبلة , إذ لا ترضى الإنقاذ الآن حتى بمجرد (حق الحكم الذاتي لجنوب النيل الأزرق), بل تستمر في ممارساتها العدوانية ضد الطالبات والطلاب المتظاهرين ,لإحداث تغيير يلم شعث الوطن – السودان الكبير - ويقيل عثرته, وتمضي أكثر من ذلك بإغتصاب الطالبات , هذا فضلا عن السياسات العدوانية الإستئصالية الأخرى.
فالجبهة الإسلاموية أخذت تسعى حثيثا , منذ مجيئها إلى السلطة , عبر إنقلاب يونيو 89 , لتطبيق سياسة النخبة الإسلاموعربية , ضد جنوب السودان ودارفور , وجبال النوبة , وجنوب النيل الأزرق .محاولة الإستفادة من أخطاء تجربتها في الجنوب . الذي من جهة يختلف عن الشمال في تركيبه الثقافي والإثني . بينما تشترك دارفور, على سبيل المثال, مع الشمال في الثقافة والعرق إلى حد كبير . ولذلك لم تستطع في البداية إستخدام الآليات ذاتها , التي طالما إستخدمتها ضد الجنوب (أعني التعريب والأسلمة القسريين , الجهاد , إعلان الإقليم دار حرب على طريقة قريش ..) , ومن هنا لجأت إلى لعبة الإستقطاب العرقي (17) للقبائل العربية , إذ أحيت لتعزيز جهودها الحربية في الجنوب , ومناطق التداخل : فكرة المليشيات القبلية , التي شكلت لأول مرة في 1956 , بإسم حراس الوطن . وبدأت الحكومة , مستخدمة النزاعات الدائمة بين المجموعات الرعوية , في تسليح قبائل العرب الرّحل " البدو " , لحماية نفسها ضد هجمات الجيش الشعبي لتحرير السودان - كما زعمت - وقد أدى إستخدام هذه الأسلحة , إلى تأجيج الحروب الإثنية المحلية , وسرقة الماشية , ووصل الأمر إلى مستويات من البشاعة , غير مسبوق في تاريخ الحروب الإثنية التقليدية , ومذبحة ( الضعين 1987) جنوب دارفور , التي سقط فيها ما بين 400-1000 لاجيء من الدينكا , بنيران البقارة العرب , لهي مثال واضح على ذلك .. مثال على السلوكيات السياسية, التي من هذا النوع ,الذي ورثته الجبهة الإسلاموية القوموية, من أرصدتها المتخلفة كالأمة..
لقد كانت تلك اللحظة هي : مثال لدولة غير كفء , لم تقنع بالقمع المركزي , كوسيلة لبقائها , بل رعت العنف اللامركزي , بتقديم الأسلحة والدعم المعنوي , لمجموعات إثنية مقربة , ضد مجموعات أخرى أقل حظوة .
تواجه دارفور اليوم إذن, مصيرا مشابها خلال هذه الفترة المظلمة من تاريخ السودان . وعلاوة على ذلك فقد قاد تحلل مؤسسات الدولة , وتآكل آليات السيطرة , ووسائل الضبط القانونية , إلى فقدان النظام وسط قوات الأمن . وحيث أن قانون الأحكام العرفية , قد أعلن طوال هذه الفترة .
أخذت منذ 87 ترد معلومات عن تجاوزات ضد المدنيين في دارفور . لكن قوات الدولة ترتكب هذه التجاوزات , دون أن تجد عقابا , فقد كانت قضايا المحاكم , تعامل سياسيا . بمعنى ما يطلق عليه توصيف النهب المسلح (18) الأمر الذي تطور بمرور الوقت , إلى مليشيات مسلحة بأجندة مطلبية , في مواجهة الحكومة ومليشياتها العربية .
وبالنتيجة الوضع الكارثي الذي أشرنا له سابقا في بداية هذا المقال . فيما يشبه سياسة الأرض المحروقة , ما يشعل الخوف في السودان كله , على ضياع الأرض الأبوية , ويجعل التنبؤ بالمستقبل غير ممكن (19) وعلى الرغم من سياسة التعتيم والتشويه للحقائق , من قبل النظام الحاكم , وتزامن ذلك مع الصمت العربي الرسمي والمؤسساتي , إلا أنه , ومنذ تقرير السيد موسيس كابيلا , المنسق المقيم السابق, للأمم المتحدة بالخرطوم , بدأت أبعاد الأزمة الإنسانية في دارفور , تتكشف عن حجمها المروع والفظيع (20) وعلى حد تعبير كونداليزا رايس , مستشارة الأمن القومي الامريكي السابقة " أنها كارثة ", في وصفها للأوضاع المأساوية في دارفور (21) ما يبرز إلى السطح الآن وبصورة ملحة ,حقيقة أن هناك إثنيات تعاني من التهديد المستمر بالإبادة الجماعية في دارفور , ما يطرح ما توصلت إليه كثير من الإتجاهات , في قناعة ضرورة أن ينص الدستور الإنتقالي , والدساتير التالية له , بموجب الإتفاق النهائي للسلام بين الشمال والجنوب , على الحق الدائم , لجميع القوميات الموجودة في السودان , في تقرير المصير , متى أرادت ذلك . بإعتباره حقا أساسيا , وضمانا لحقوق الشعوب المهمشة , فذلك هو السبيل الديموقراطي , لخلق وحدة طوعية , وعادلة في السودان (22).
نواصل
هوامش :
(1) IRIN News.Org cun office for coordination humanitarian affairs.
(2) IRIN News .org /report.asp.?report/id=41841&selectregion=east africa.
(3)elhadaf.net/ new-page-68.htm.
(4)hrinfo.net/Mena/hrw/pr040402.shtml.
(5) أنظر: - عبد الله علي ابراهيم. الإرهاق الخلاق . عزة للنشر والتوزيع . 2001 الخرطوم . ص: 39
(6) دكتور : شريف حرير _ تيرجي تفيدت "محرران " - السودان : النهضة أو الإنهيار . ترجمة: مبارك علي ومجدي النعيم . مركز الدراسات السودانية . ص: 11.
(7)hrinfo.net/Mena/hrw/pr04042.shtml.
(8) hrw.org/Arabic press /2004/sedan
0507.htm. (9)news.bbc.co.uk/middle-east-news/newsid-380200/3802131.stm. (10) دكتور شريف حرير ( سابق) -ص: 7.
(11)أ. محمد ابراهيم نقد . علاقات الرق في المحتمع السوداني . دار الثقافة الجديدة . القاهرة . الطبعة الاولى 1995. ص : 151. (12) شريف حرير ( السابق) . ص: 8
(13) ثقافات سودانية . ( كتاب غير دوري ) . المركز السوداني للثقافة والاعلام . العدد الخامس 1999 .ص: 8 .
(14) عبد الرحمن الأمين . ساعة الصفر ." مذبحة ديموقراطية السودان الثالثة : 85- 1989" . أجندة واشنطن . ص: 37 .
(15) شريف حرير ( السابق ) . ص : 14.
(16) دكتور . عبد الله على إبراهيم ( السابق ) . ص: 24.
(17)رواق عربي. ( كتاب غير دوري ) . مقال أ . احمد ضحية " الصراع المسلح في دارفور " .العدد 31 . شتاء 2003 . مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص: 84.
(18)شريف حرير ( السابق ) . ص: 16 .
(19)مقال أ . أحمد ضحية. سواسية ( نشرة دورية ) العدد51-52 .سبتمبر 2003 . مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص: 8 .
(20)rezgar.com /camplasp?id=18.
(21)news.bbc.co.uk/hi/arabic/talkng-point/newsid-3805000/3805871.stm.
(22) سواسية. العدد 55 مارس 2004 مركز القاهرة لحقوق الانسان ص 8 .
Ahmed M. Dhahia [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.