قرأت ما قاله الأستاذ عبد الرحيم حمدي لجريدة الرأي العام (30 مايو 2009) عن الإدارة الأهلية. ووجدت فيه مصداقاً لقولنا المجانين كتار ولكن شقي الحال يقع في القيد. وشقي الحال الواقع في القيد هو مذكرة المرحوم الشفيع أحمد الشيخ التي كتبها في يناير 1965 من موقعه كوزير شئون مجلس الوزراء في حكومة ثورة أكتوبر 1964 الأولى. وقد دعا فيها إلى حل الإدارة الأهلية في شمال السودان. فحمدي كان واضحاً في أنهم كانوا والشيوعيين سواء بسواء في عداء الإدارة الأهلية بعد ثورة اكتوبر. بل قال إنهم فازوا بدائرة يتيمة في دارفور لوقوفهم ضد تلك الإدارة. وقال إن من "قسسهم" لعداء الإدارة الأهلية هما المرحوم محمد صالح عمر وسليمان أبكر النائب الدارفوري عن جبهة الميثاق الإسلامي. ومن الصعب القول بان تنظيماً ما تبنى خطة في خطر خصومة الإدارة الأهلية محرشاً من عضوين من أميز أعضائه. الحكاية أعمق وعائدة إلى أصول في حركة الخريجين الوطنية ومزاج ريفي ديمقراطي كما سنعرض لذلك لاحقاً. وتنصل حمدي اليوم عن حمدي الأمس. وبالطبع قال إنه لو استقبل من أمره ما استدبر لامتنع عن منازلة الإدارة الأهلية بعد أكتوبر ولقبل بها أساساً في نظم الحكم السودانية. ومع هذا الموقف الصريح من الإسلاميين ضد الإدارة الأهلية فقل من يأخذه عليهم كزعزعة كبرى لموروث البلاد وأعمدتها. بل لن تجد من يؤاخذ الأستاذ على محمود حسنين (في طوره الوطني الاتحادي بعد هجره الإخوان المسلمين) وهو النائب الأعلى صوتاً في مقارعة الإدارة الأهلية. فاللوم على التعجيل "الطائش" بحل الإدارة الأهلية معلق برقبة القشيرين مقطوعين الطاريء ومذكرة شفيعهم سيئة السمعة: مجنونة وقعت في القيد دون المجانين الكثر. لم تكن خصومة الإدارة الأهلية وساوساً شيوعياً أو إخوانياً. كان لمطلب التخلص من الإدارة الأهلية قواعده الاجتماعية في الأرياف نفسها وبين صفوة الخريجين. ولكن تاريخ الناقمين على تلك المؤسسة لم يكتب بعد. وما نقرأه من ذلك التاريخ هو تباكي صفوة الحكم والإداريين التي لا مداخل لها للرعية سوى الإدارة الأهلية. فالريف كتاب مغلق دونها. وجعلت الصفوة من هذه الخيبة دون بلوغ شعبهم (إلا بسلطان أهلي) مأتماً قومياً لشق الجيوب على تضعضع تلك المؤسسة. يالبكاء الجاهلية الأولى. اعتنت مذكرة الشفيع بإبراز أنها دعت لحل الإدارة الأهلية استجابة لمطلب شعبي. ووفقت في بدئها بعرض سريع لمواقع شعبية ضاقت ذرعاً بالإدارة الأهلية وطالبت بحلها. ووفقت المذكرة أيضاً في إعطاء تاريخ موجز لنشأة المؤسسة لتنزع عنها هالة التقليد: "من واقعنا مامن من أكتر يا بلادي". وأصبح مثل هذا الرأي بإن الإدارة الأهلية صنيعة استعمارية من المعلوم بالضروة في علم السياسة الأفريقي والمجتمع. وسنعرض لكتاب الدكتور محمود محمداني "مواطنون ورعايا" (1996)في حلقة قادمة. وهو الكتاب الذي ناقش غربة الإدارة الأهلية عن نظم أفريقيا الإدارية السابقة للاستعمار بصورة غنية حصل بها على جائزة الجمعية الأفريقية الأمريكية لأحسن كتاب عن أفريقيا لعام 1996. قدمت المذكرة لغرضها في بيان أجنبية الإدارة الأهلية في ظل الإنجليز بتاريخ لها عاد بنا إلى عهد الفونج. وهذه حيلة فكرية للقول بإن نظام الإدراة الأهلية لم يكن هو ذاته في كل زمان ومكان. فهو ليس أرثاً مؤبداً كما يزعم كثير ممن نعوا ذهاب هذا النظام واشتهوا عودته ليرتق النسيج الاجتماعي الذي تهرأ من بعده. خلاصة وضع تلك الإدارة في عهد الفونج أنها كانت ديمقراطية من جهة اختيار الجماعة لأميرها على ضوء مؤهلات في الكرم والشجاعة. وأهم قسمات حكمها أن الجماعة هي المرجع يعود لها الزعيم للشورى ولا يمكث إلا بها. وقالت المذكرة إن الأتراك خرقوا هذا السمت الديمقراطي. فقد أدخلوا زعامة القبائل في إطار وحداتهم الإدارية الأكبر وهي المديرية. واستبدلوا الزعماء الذين قاوموهم بمن خضع حتى كان من الأخيرين من أصبح مديراً لمديرية. والخلاصة أن الزعيم القبلي أصبح تابعاً للأتراك منفذاً لسياستهم في ضبط الأمن وجباية الضرائب. ولم تعد مرجعيته القبيلة بل السلطان التركي. أما المهدية فقد أضعفت النظام القبلي الذي تورط زعماؤه في ظلم الأتراك. وأنبنت المهدية على نظام مركزي يمثله محاربون مهدويون في العمالات أو المحافظات. ولم يعد للزعامة القبيلية من دور. ثم توقفت المذكرة عند الإنجليز ونظم حكمهم. فاتبع الإنجليز من بعد المهدية سنة الأتراك في تطويع زعامات القبائل لخدمتهم هم لا أهلهم المزعومين. فقد حكموا البلد بصورة مباشرة حتى 1921 حين قرروا بناء حكم الأرياف على زعامات القبائل. فبدأوا في منح هؤلاء الزعماء سلطات قضائية. ثم مكَّن الإنجليز لهم بعد ثورة 1924. وتوجس الإنجليز شراً من بواكير الحركة الوطنية حتى قال جون مافي، الحاكم العام، في 1927 "إن تنظيم القبيلة ونفوذها وتقاليدها القديمة ما زالت باقية رغم أنها تختلف قوة ونفوذاً من مديرية إلى أخرى ولكنها ستنهار تحت تأثير الأفكار الجديدة وبظهور جيل جديد إلا إذا دٌعمت قبل فوات الأوان". وقد اشتهر عصر الحاكم العام مافي بنشاط تشريعي وسياسي"محموم" لإنقاذ الإدارة الأهلية من حكم الأفكار الجديدة المحمولة بجيل جديد. وتراجع الإنجليز أنفسهم من "غي" مافي الشديد. فلما تصاعدت الحركة الوطنية لم يجد الإنجليز بداً من مسايرة هذا الوعي الجديد بتطوير نظم الحكم المحلي. وتوجت ذلك باستدعاء الدكتور مارشال الذي وضع قانون الحكم المحلي في 1951. ولم يحد القانون من سلطان الإدارة الأهلية مع ذلك. فقد دخلوا تلك المجالس برغم نص في القانون يحرم كل متول مسئولية إدارية وقضائية ومتقاض لأجر من الحكومة (وهذا وضع زعماء الإدارة الأهلية) من الترشيح لمقاعد المجالس المحلية. وبدا أن الإنجليز استخدموا الرخصة المكفولة بالقانون للاستثناء لإدخال الإدارة الأهلية كلها في الحكم المحلي. وخلص التقرير من هذا العرض التاريخي إلى 1) الإدارة الأهلية التي ورثناها عن الإنجليز خلق استعماري،2) يرجع استمرار نفوذها بعد إصدار قوانين الحكم المحلي في 1951 إلى حاجة كل من الإنجليز والأحزاب السياسية لخدماتها، 3) ومع ذلك فنفوذ الإدارة الأهلية إلى محاق تحت تأثير أشكال الاقتصاد النقدي المتسعة والوعي المصاحب لها. ونواصل عرض هذه الوثيقة "الملعونة" في حديث قادم.