اتصلت بي تلفونيا في أحد الأيام صحفية تطلب التعليق على خبر ورد للصحيفة عن دولة إرتريا الشقيقة. وما أن وضعتُ سماعة التلفون حتى اتصلت مرة أخرى تسألني عن الصفة التي أحب أن تلحق باسمي واقترحت من جانبها "خبير في الشئون الأفريقية". طلبت منها أن تكتب "مهتم بالشأن الأفريقي" إن كان لا بد من إلحاق صفة بالاسم. واعتقادي أنها استجابت لطلبي ، إذ أنني لم أطلع على ما نشر ، فالصحف السودانية لا توافيك عادة بنسخة من العدد الذي يحمل تصريحاتك. بعد نهاية المحادثة فكرتُ ملياً في صفة الخبير التي تكرمت بها علي هذه الصحفية ، فالملاحظ أن معظم من يتحدثون للصحف أو أجهزة الأعلام عندنا يوصفون بالخبرة بالرغم من أن ما يدلون به من أحاديث لا يعكس في الكثير من الحالات حجم الخبرة التي يتحلون بها. تساءلت بيني وبين نفسي عن المعايير المتبعة بواسطة أجهزة الإعلام عند تحديد من هو الخبير ، خاصة بعد أن استمعت في نشرة العاشرة على التلفزيون القومي لأحد الخبراء في الشئون الأفريقية يخلط خلطاً شنيعاً بين السنغال وسيراليون وهو يعلق على زيارة كان يقوم بها رئيس جمهورية السنغال للسودان. وقد تدخل مذيع النشرة فيما أذكر عدة مرات لتصحيح الرجل. وتلجأ الكثير من أجهزة الإعلام للإغداق على ضيوفها بالألقاب السامية لإكساب المادة المقدمة المزيد من المصداقية. وقد سمعت مذيعة تصر على وصف ضيفها بالدكتور بالرغم من أنه لفت انتباهها أكثر من مرة إلى أنه لا يحمل هذه الدرجة العلمية. ولا يظنن أحد أن الأمر يقتصر على أجهزة الإعلام السودانية ، فقد سمعت إذاعة دولية محترمة ، يعتقد البسطاء من أهل السودان أن حديثها لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تستضيف شخصاً من شمال الوادي وصف بأنه "خبير في الشئون الأفريقية" يتحدث بثقة شديدة عن أن مدينة جوبا تقع شمال ملكال وأن السودان خاض حرباً من قبل مع الكونغو الديمقراطية. اعتذرت الإذاعة عندما نقلت لها أخطاء "خبيرها" المزعوم. "الخبير" كما هو معلوم من أسماء الله الحسنى ، ويقول العلماء في شرحه أنه هو العليم بدقائق الأمور ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عن علمه شيء فهو العالم بما كان وما سيكون .وعلم المولى سبحانه وتعالى هو العلم المطلق ، ولا يمكن أن يدانيه بالطبع علم بشر ، ولكن هذا الشرح الذي تفضل به علماؤنا الأجلاء يعطينا بعض المؤشرات التي يمكن أن تعيننا على معرفة ما هو المقصود بلفظة الخبير التي يجب ألا تلصق إلا بمن هو أهل لها. ومن التعريفات التي يوردها المختصون أن الخبير هو "الشخص المعترف بعلمه بواسطة قرنائه من المتخصصين في المجال المعني ومن عامة الجمهور ، وأن الخبير يمثل مصدراً مهماً للحكمة له من المهارات والتقنيات ما يمكنه من الحكم على الموضوع بصورة صحيحة وعادلة". وكانت صفة الخبير تطلق تاريخياً على المفكر الذي يمتلك خبرة طويلة والمتمكن من إصدار الأحكام الصحيحة ، وهما صفتان كما نرى تتوفران في عدد محدود من البشر. ولعل أهم ما يميز الخبير عن غيره من الناس أو حتى غيره من العلماء أنه يكون عادة مطلوباً من المؤسسات وجهات اتخاذ القرار للاستئناس برأيه في الأمور الشائكة والقضايا المعقدة. وبصورة عامة فإن الخبير ، على زماننا هذا ، هو الشخص ذو المعرفة الواسعة والمقدرة التي تقوم على رصيد من التجربة العملية والعلمية وله من المنشورات ما يؤكد علو كعبه في مجال تخصصه. يهتم أهل بعض المهن بوضع تعريف محكم لمن هو الخبير في المجال المعني حتى لا يترك الحبل الغارب ، وهو امر قد يسهل في مهن دون غيرها. كما أن بعض المختصين حاولوا وضع الأسس التي يمكن عن طريقها التفريق بين الخبير وغيره من عامة الناس. ومن بين الخصائص التي اشترط هؤلاء توفرها في الخبير إلمامه بالمعلومات في مجال تخصصه ، ومستوى التعليم العالي ، والمهارات المميزة ، والتدريب الكافي ، والطموح ، وتقدير الأمور بالصورة المناسبة ، والسعي نحو تطوير المقدرات الشخصية ، والحضور الشخصي أو ما يعرف بالكاريزما ، والقدرة على التحليل والوصول للنتائج بسرعة وسهولة ، وقوة العزيمة من أجل تحقيق الأهداف المرسومة ، والثقة بالنفس ، وسهولة التواصل مع الآخرين. ومما لا شك فيه أن الحياة الحديثة تعقدت بصورة كبيرة حتى أضحى العلماء أكثر ميلاً نحو التخصص في مجالات دقيقة واختفى لغير رجعة الخبير الشامل ، لذلك فإن بحث جلائل الأمور يحتاج عادة لتجميع عدد من العلماء والخبراء حتى يمكن تقصي الموضوع من كافة جوانبه. واعتقادي أن لقب الخبير والذي كثيراً ما يقترن بكلمة "الاستراتيجي" ربما دخل قاموس الاعلام السوداني ضمن ما وردنا من "الشقيقة الكبرى" حيث الاهتمام المبالغ فيه بالألقاب العلمية وغيرها والتي يُعتقد أنها تمنح الشخص قيمة إضافية. فعندما كنت أقيم بقاهرة المعز في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي ، لاحظت ولع القوم بالألقاب حتى أن أحد كبار المسئولين بالدولة كان يضع أمام اسمه ستة ألقاب من بينها الاستاذ والدكتور والمحافظ والوزير. نحمد الله أننا لم نصل بعد لهذا المستوى من الهوس بالألقاب ، غير أننا نسير نحوه بخطى حثيثة فالمطالع في لافتات المنازل في أي حي من أحياء الخرطوم والتي كانت في زمانٍ ماضٍ تحمل اسم صاحب الدار مجرداً ، يدرك أنها أصبحت مؤخراً تحمل بالاضافة لذلك الوظيفة واللقب العلمي أحياناً. بل إن كروت الدعوة للزواج والتي كانت تركز على الدعاء للعروسين بالرفاه والسعادة ، والحمد لله الذي جمع بينهما في خير وعلى خير ، أصبحت الآن تحمل الألقاب العديدة فالمهندسة إبنة البروفيسور سيعقد قرانها على الدكتور ابن الفريق أو السفير وكلها مما يُستقى من الكرت الذي أصبح نفسه مجالاً للإبداع الفني والمباهاة. أما المعلومات الضرورية كزمان ومكان المناسبة فقد أصبحت تنزوي في ركن قصي مما يجعلها تضيع على ضعاف النظر من أمثالنا. بل إن الصحف حملت لنا في السنوات الأخيرة الكثير من التهاني لعدد من الدستوريين ورجال الأعمال الذين حصلوا على درجات علمية رفيعة تتراوح بين الماجستير والأستاذية ، وكنت أظن حتى زمان قريب أن هاتين الفئتين من الناس لا تملك من الوقت ما يكفي "لحك الرأس" كما يقولون ، ناهيك عن التفرغ للدراسة والبحث من أجل الحصول على درجة علمية. لا شك ان الاستزادة من العلم والخبرة في كل مجال من مجالات الحياة يعتبر من المحاسن التي يجب أن يعمل من أجلها كل شخص أو مجتمع يسعى نحو التطور والرقي ، ولكن أن يبذل الجهد من أجل الحصول على اللقب فقط فإن ذلك يعتبر منقصة عظيمة ويعني الاهتمام بالمظهر دون المخبر. Mahjoub Basha [[email protected]]