خرجت الولاياتالمتحدة من الحرب الباردة ظافرة على غريمها المنهار الاتحاد السوفيتي ، فوقف رئيسها عندئذ ليعلن على الملأ عن ميلاد النظام الدولي الجديد الذي ستكون فيه واشنطن المحور الأساس الذي يملي سياساته على الآخرين. وبعد سنوات قليلة وضح أن الحلم الأمريكي لن يتحقق فكتب فريد زكريا بمجلة النيوزويك في مايو 2008 أن المواطن الأمريكي يعلم تماماً أن هناك عالم جديد يولد ، غير أنه يخشى من أن الوليد يتشكل بعيداً عن بلاده مما يبرر القلق غير المسبوق الذي أظهرته استطلاعات الرأي في الولاياتالمتحدة عندئذ. لا زال الجدل دائراً في الولاياتالمتحدة بين المتحدثين عن عالم ما بعد أمريكا “post-Americana" وبين من يقولون أن بلادهم لا زالت تملك من القدرات ما يجعل بإمكانها تحديد مصير العالم وأنه سيمر وقت طويل قبل أن يظهر لها منافس على الساحة الدولية، وهو جدل لا ينحصر بالطبع على الولاياتالمتحدة وحدها. مما لا شك فيه أن الولاياتالمتحدة لا زالت هي القوة الأعظم في عالم اليوم وأنها تلعب حتى الآن دوراً لا يضاهى على المستوى الدولي ، غير أن ظهور لاعبين جدد يمتلكون من القوة بمختلف أشكالها ما يتيح لهم فرصة التأثير على السياسة الدولية يعني أن يد الولاياتالمتحدة لم تعد مطلقة تماماً في تشكيل الأحداث العالمية. ومع تناقص دور حلفائها التقليديين في أوربا الغربية فإن الولاياتالمتحدة تجد نفسها مضطرة في الكثير من الأحيان للجوء للأساليب الخشنة لتحقيق أهدافها على المستوى الدولي. ولعل محنة الإدارة الأمريكية تظهر بأوضح ما يكون في القارة الأفريقية ، فهي ترغب في كسب ود الحكومات والشعوب الأفريقية وتدرك أن مصالحها الاقتصادية ومصالح حلفائها تعتمد على استغلال موارد أفريقيا الضخمة التي لا زالت كامنة تحت الأرض وأسواق القارة التي تنمو بسرعة كبيرة. غير أن توجهات واشنطن على الساحة الدولية وميلها نحو اللجوء للقوة العسكرية قد لا تتوافق وتطلعات الشعوب الأفريقية نحو السلام والتنمية. كما تواجه واشنطن منافسة حادة في القارة من جانب عدد من القوى الناهضة وعلى رأسها الصين الشعبية. تقول الاحصائيات الحديثة أن التبادل التجاري الصيني مع أفريقيا قد تجاوز المائة وستين مليار دولار في عام 2011 بينما بلغ حجم التبادل الأمريكي الأفريقي ما يزيد قليلاً عن التسعين ملياراً ، ومن المتوقع أن يتسع الفارق خلال العام الحالي. لذلك فقد أصبحت الصين هدفاً للهجوم من جانب الحكومة في واشنطن وأجهزة الإعلام الأمريكية بسبب ما تحرزه من تفوق في المجال التجاري والاقتصادي ، فوجهت لها الكثير من الاتهامات ومن بينها العمل على استغلال بعض الدول الأفريقية كوسيط لتصدير منتجاتها المحظورة في السوق الأمريكية ، وذلك عبر إقامة المشاريع الصناعية المشتركة لانتاج هذه السلع في أفريقيا مستفيدة من المعاملة التفضيلية التي تحصل عليها الدول الأفريقية في الولاياتالمتحدة. وقد عبرت السيدة كلينتون في آخر جولة لها بالقارة الأفريقية كوزيرة للخارجية الأمريكية منتصف العام الماضي عن هذا القلق عندما ادعت أن الولاياتالمتحدة على عكس دول أخرى تقف مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان حتى وإن كان في ذلك خسارة على الجانب الاقتصادي ، وقد هاجمت وكالة "شينخوا" هذا التصريح ووصفته بالمحاولة الرخيصة لدق اسفين بين الصين والدول الأفريقية. ويظل التنافس السياسي والاقتصادي بين الصين والولاياتالمتحدة مستعراً في القارة الأفريقية بالصورة التي تعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة. استطاعت الصين أن تحرز تقدما هائلاً في القارة بسبب سياستها التي تركز أساساً على المنافع المتبادلة دون وضع شروط سياسية على برامج التعاون مع دول القارة ، أو تبني وصفات المؤسسات المالية الدولية التي ترفضها الشعوب والحكومات في هذه الدول. بدا واضحاً حتى الآن عجز الولاياتالمتحدة عن منافسة الصين وغيرها في السوق الأفريقية ، فلجأت للوسيلة الأخرى المتوفرة لها والتي يمكن أن تحمي بها مصالحها في القارة وهي القوة العسكرية رافعة راية محاربة الإرهاب كذريعة تضمن لها التدخل في العديد من المناطق الأفريقية. بعد إعلان حربها ضد الإرهاب الدولي في أعقاب تفجير برج التجارة في نيويورك ، رأت الإدراة الأمريكية أن وجود عدد من الدول الفاشلة في القارة الأفريقية جعل منها أرضاً صالحة لتفريخ الارهاب مما يستدعي التدخل العسكري من جانب المجتمع الدولي "الولاياتالمتحدة". لذلك فقد قامت الإدارة الامريكية بالإعلان في فبراير 2007 عن إنشاء قيادة عسكرية جديدة للجيس الأمريكي تحت مسمى القيادة الأفريقية المشتركة "آفريكوم" ، وبذلك أصبح للولايات المتحدة وجود عسكري مستقل بالقارة الأفريقية بعد أن كانت في الماضي تقوم بتغطية أفريقيا من قياداتها المنتشرة في عدد من الأقاليم وبصفة خاصة القيادة الوسطى بالشرق الأوسط والقيادة الأوربية ومقرها في المانيا. أعلنت الآفريكوم عند إنشائها في عام 2007 عن تبنيها لعدد من الأهداف السامية مثل ضمان الاستقرار الاقليمي ، وتشجيع التحول الديمقراطي ، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا ، ويركز الجهاز الإعلامي التابع للقيادة على جهودها نحو إعادة تأهيل المدراس وحفر الآبار وغيرها من الأنشطة المدنية في الدول الأفريقية. غير أن الملفت للنظر هو النشاط العسكري للقيادة في مختلف أنحاء القارة مما خلف صورة سالبة لها في أذهان المواطني الأفريقيين ، ولا زالت وبعد ست سنوات من إنشائها عاجزة عن إيجاد مقر دائم في القارة إذ ظلت حتى الآن تصرف أعمالها من مكاتب القيادة الأوربية في المانيا. تزايد بصورة واضحة نشاط الآفريكوم منذ منتصف العام الماضي حيث تقوم بنشر قواتها وتتدخل بصورة أو اخرى في عدد من النقاط الساخنة في القارة مثل الصومال ، وشرق الكونغو ومؤخراً في مالي دعماً للقوات الفرنسية التي قامت بغزو تلك البلاد. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن نيتها في إجراء ما لا يقل عن المائة مناورة عسكرية في 35 دولة أفريقية خلال العام الحالي. وفي تقرير وزعه المكتب الاعلامي للجيش الأمريكي يشيد الجنرال روب بيكر قائد القوة الأمريكية المشتركة بالقرن الأفريقي بالحكومة التنزانية التي ستنفذ هذا العام عشرين عملية مشتركة مع القوات الامريكية بعد أن كانت العمليات المشتركة لا تتجاوز الثلاثة في العام خلال السنوات الماضية. ولا يخفي الجنرال بيكر سعادته بأن نشاط القوات الأمريكية قد ساهم بصورة كبيرة في تحييد الدورين الصيني والكوري الشمالي في تنزانيا التي كانت تربطها بالبلدين علاقات حميمة على حد قوله. من الطبيعي أن يستحوذ التدخل الأمريكي إلى جانب القوات الفرنسية في مالي على اهتمام المراقبين بسبب الطريقة التي تم بها والشكل الذي اتخذه. وقد أبدى الكثيرون تشككهم حول الأمر مشيرين إلى أن التخطيط لهذا الغزو بدأ منذ تدخل قوات حلف الأطلسي في ليبيا قبل عامين من الآن عندما قامت فرنسا بتسليح الطوارق وأبدت تفهمها لقيام دولة خاصة بهم في شمال مالي. بل إن المعلومات تشير إلى أن جماعة أنصار الدين ومن ورائها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب حصلا على مبالغ طائلة وأسلحة من فرنسا في مقابل إطلاق سراح بعض الرهائن الأوربيين الذين تم اختطافهم في وقت سابق ، وهي الأموال والأسلحة التي تستغل حالياً في العمليات التي تقوم بها هذه المنظمات. ويقول البعض أن الكثير من الغموض يحيط بالانقلاب العسكري في مالي قبيل الاعلان عن دولة أزاواد في الشمال ، خاصة وأنه وقع قبل خمسة أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية التي كان يجري الاعداد لها في البلاد والتي كان بالامكان أن تطيح بالرئيس أمادو توري. ويربط هؤلاء المحللين بين هذه التطورات والتخطيط الأمريكي لإبعاد الصين عن المنطقة بعد أن اتضح وجود كميات هائلة من الموارد الطبيعية الاستراتيجية فيها وبصفة خاصة النفط واليورانيوم ، بل يذهب بعضهم إلى أن عدداً من قادة الانقلاب في مالي قد تلقوا دورات تدريبية في الولاياتالمتحدة للإيحاء بأنهم يعملون لصالح واشنطن. ولعل السؤال الذي يطرح حالياً هو هل أصبح العالم على أعتاب حرب باردة جديدة ، إذ أنه من المستبعد أن تقع مواجهة عسكرية مباشرة بين الصين والولاياتالمتحدة في ظل الظروف الحالية. أم أننا أمام دورة أخرى من التدافع نحو أفريقيا كما حدث في نهاية القرن التاسع عشر ، وهو التدافع الذي لن يقتصر هذه المرة على الدول الأوربية. وتتحدث الكثير من التقارير الإخبارية عن سعي الدول الأوربية وخاصة فرنسا للعودة إلى مستعمراتها السابقة بسبب الموارد الضخمة التي توجد بهذه المستعمرات. وتعيد التطورات الحالية للأذهان صورة الأوضاع عند الهجمة الاستعمارية الأوربية على دول العالم الثالث في القرون الماضية عندما كانت الجيوش تأتي دائما في أعقاب الشركات التي كانت تحمل لواء المصالح الاقتصادية للدولة المستعمِرة. وقد تكون عودة الاستعمار بشكله القديم مستبعدة كما أن الاستعمار الجديد المتمثل في سيطرة القوى الاستعمارية على الحكومات الوطنية في مستعمراتها القديمة آخذ في التراجع. ويعود ذلك لسببين أولهما الضعف النسبي للدول الاستعمارية القديمة بعد ظهور العديد من القوى الناهضة في مختلف أنحاء العالم ، والتطور السياسي والاجتماعي الذي شهدته الدولة القومية في أفريقيا نفسها بالرغم من المخاض العسير. لذلك فقد يكون من الصعب الحديث عن إخضاع هذه الدول وشعوبها لأي صورة من صور الاستعمار بشكله القديم ، كما أن ما يعرف بالاستعمار الحديث يواجه مقاومة من جانب مختلف القوى داخل القارة الأفريقية. غير أن القارة الأفريقية قد تشهد الكثير من الاضطرابات بسبب الصراع حول مواردها بين القوى الأخرى مما سينعكس سلباً على أوضاعها السياسية والاقتصادية. Mahjoub Basha [[email protected]] /////////////