وبالطبع سيقول قائل: "وإنت مال أهلك؟....يعني ما دخلك؟" ... وفي الحقيقة ليست لدي إجابة محددة وقاطعة...بيد أني شمالي "متلبّط"...مسكون بالجنوب الذى غادر ... ولكنه ترك جزءاً من نفسه فى وجدان أبناء الخؤولة والعمومة الشماليين...أو كما قال الغناي: Every time you go....you leave a piece of you ...with me! ولقد ظللنا نكتب وننافح ونناطح نظام الإخوان المسلمين فى الشمال، دون أن نترك شاردة أو واردة...، وعملنا طوال ربع القرن المنصرم على متابعة سلوكيات حكومة الخرطوم...نحن معشر الكتاب والصحفيين وكل من يداعب فأر الحاسوب متضامناً مع شعبه...فى محاولات مستمرة لكشف ألاعيب الإخوان الممسكين بخناق السودان...ولرفع مستويات الوعي لدي أبناء هذا الوطن الجريح. ولكن ماذا عن الجنوب؟ نعم، كنا نتناوله كجزء من اللعبة السياسية الشاملة...حتى استفتاء يناير 2011...ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ فى أي اتجاه سارت الأمور فى ذلك الجزء من العالم؟..... ولماذا نعاتب المصريين على جهلهم (أو تجاهلهم) للسودان...ونحن نفعل نفس الشيء نحو الجنوب؟... ما هو موقف الخدمات...كالتعليم والصحة والشرطة والنقل والاتصالات؟ كيف حال البنية التحتية؟ ما هو الموقف الاقتصادي؟ هل هنالك نمو أو استثمارات أو تنويع لمصادر الدخل؟ هل هنالك مصادر للدخل أساساً؟ ما حقيقة ما يدور عن الغزو الاقتصادي اليوغندي والهيمنة على أسواق التجزئة بالمدن الجنوبية من قبل بضع سماسرة يوغنديين؟ وما حقيقة الفساد المالي والإداري الذى سارت بأخباره الركبان؟ هل هو حقيقة...أم مجرد دعاية "كيزانية" خرطومية هادفة لإشانة سمعة الطاقم الجنوبي الحاكم فى جوبا...وللتشكيك فى نجاح الإتفاقية التى انفصل الجنوب بموجبها...ولتأكيد مقولة الإسلاميين الحاكمين: "إن الجنوبيين سيعجزون عن حكم أنفسهم... وسينهبون وطنهم حتى يركّعونه علي أرجله...وحتى ينهار تماماً...فيعود للشمال خاضعاً ذليلاً !" مهما يكن، فإن الأمور فيما يبدو غير مبشّرة فى الجنوب......ورغماً عن ضعف الإتصال والتواصل الإعلامي بين الشمال والجنوب...والغياب التام للصحفيين الشماليين ولمراسلي القنوات الشمالية بجوبا...والغياب شبه التام للقنوات العربية والعالمية التى يشغلها حالياً زلزال يهز مناطق أخرى بالشرق الأوسط...تمتد من تونس لمصر لسوريا والعراق وإيران....فقد تواترت أنباء عن تردّي الأوضاع بالجنوب...وعن تدهور صحة البيئة لمستوي كارثي...وعن تفشّي الأوبئة "كالملاريا والإيدز والحميات الخطيرة الأخري"...وعن شبه المجاعة التي لم تفارق الجنوب منذ سنوات...وانحسار الدولة وانكسار هيبتها وانهيار الأمن...وتحول المدن الجنوبية إلي معسكرات للاجئين القادمين من الشمال (معظمهم)...والعائدين من الدول المجاورة – يوغندا وكينيا وإثيوبيا - بعد إقامة بتلك المنافي دامت لحوالي ثلاثين عاماً...وعن عدم جاهزية حكومة الجنوب للتعامل مع هذه الأوضاع المأساوية المعقدة، فى غياب كامل للخبرة وكيفية التأقلم الإداري المدني مع دولة جديدة إسمها جنوب السودان...فجأة تخلت عنها الكوادر المهنية والفنية الشمالية...وتركتها فى العراء...وكذلك، لم يحفل بها الجتمع الدولي كثيراً...وتبخرت الوعود التى كانت الحكومة الأمريكية ودول أصدقاء الإيقاد... بالدعم المالي واللوجستي الضخم...الذى أصبح كالجبل الذى تمخض فولد فأراً...(باستثناء الطريق البري الذى يربط جوبا بنمولي علي الحدود السودانية/الكينية/اليوغندية – 190 كلم – الذى أنجزته الحكومة الأمريكية).....وجفت مصادر النفط منذ اشتعال المشكلة حول رسوم أنانبيب النفط منذ عام ونصف...وتوقفت إيرادات الجنوب من العملة الصعبة، والجنوب يعتمد على ذلك المورد فى 98% من موازنته. كيف استمرت حكومة الجنوب برغم هذه الضغوط الجبارة والأزمات المتلاحقة؟ كيف يستطيع الجنوب أن يلتقط أنفاسه وهو ما انفك يتعرض للمناوشات عبر الحدود ولهجمات المليشيات المدعومة من الشمال طوال العامين النصرمين؟ تقول المصادر الحكومية الجنوبية إنها كانت تتحسّب للأزمة مع الشمال....فراكمت بخزائنها وحساباتها أرصدة كافية لتسيير دفة الحكم لأربع سنوات علي الأقل...,بالإضافة لذلك، فقد رشحت أنباء تسقطناها واستشفيناها من الإصدارات الاقتصادية أن الصين ما فتئت تشترى النفط المخزون فى باطن الأرض (أي الذى لم يستخرج بعد) من الجنوب علي طريقة (البيع تحت الحضور...أو الشيل) ....أو الذى تسميه المصارف الإسلامية (بيع السلم)...تماماً كما كان السماسرة يشترون محصول الذرة والسمسم من مزارعي الدالي والمزموم بجنوب النيل الأزرق... مما قاد المزارعين للإعسار والإفلاس بالجملة...ومما قضي علي تلك العملية الباهرة التى كانت تسمي بالزراعة الآلية المطرية. وهل تدفع الصين نقداً؟ حاشا وكلا...إنها تفعل ما ظلت تفعله بالشمال...وهو النفط مقابل الأسلحة والعتاد لمجابهة سلسلة الحروب التى كان الشمال يشعلها هنا وهناك... والتى ظل الجنوب يتعرض لها بسبب التدخل الشمالي الذى لا يريد للجنوب أن "يرفع رأسه"...عقاباً علي قرار شعبه بالانفصال...ولك أن تتصور دولة ناشئة...ليس لها جيش نظامي بالشكل المعروف...فقط مليشيا انهكتها حرب أهلية دامت لنيف وعشرين عاماً...تحاول أن تتصدى للجيش الشمالي الذى يناوشها بمنطقة أبيي وعلي طول المناطق الحدودية المتنازع عليها؟؟ ....ولكي تستكمل القوات الجنوبية استعدادها فقد تكلفت نفقات مرهقة: دبابات ومجنزرات وطائرات حربية وطائرات عمودية وأسلحة وذخائر...إلخ. ماذا تبقي لتشييد البنية التحتية؟ كما أن شبح الحرب وخطر الغزو الأجنبي (الشمالي) الوشيك...جعل الحكومة الجنوبية فى حل من الإلتزامات السياسية الأخري، كالدستور المدني الديمقراطي الجديد الذى تتشكل الدولة الوليدة حوله...وهو أمر لم يتم الفراغ من حتى الآن، بعد عامين من الإستقلال.... (وذلك بالطبع لا شيء إذا قورن بالشمال الذى لم ينجز دستوره وقد مضي على استقلاله 57 سنة)...كما لم تنشأ بالجنوب حتى الآن البنيات الضرورية للتوازن السياسي فى المجتمع، والتى ترعي وتصون حقوق جميع الفئات كالعمال والمزارعين وكافة أنواع الفنيين والحرفيين والنساء والشباب والطلاب والعجزة والمعاشيين والجنود المسرحين...إلخ، بالإضافة لجمعيات النفع العام كتلك التى تعني بحقوق الأقليات وبالمستهلك وبشؤون البيئة ...وغيرها من الروافد التى تتأسس عليها الأحزاب السياسية، أو التى تسند تلك الأحزاب وتتحاور وتتصارع معها، فى إطار عملية توازن سياسية تتسم بالشفافية وكفالة حرية التعبير والتنظيم....فى حضور إعلام مستقل وقضاء محايد ... وكل ما من شأنه أن يبني دولة مؤسسات ذات شوكة وثقة بالنفس. هل يوجد فى الجنوب شيء من هذا القبيل؟ يبدو أن الإجابة بالنفي...فدولة الجنوب تشبه الأنظمة ذات الحزب الواحد الذى ناضل من أجل الإستقلال، ولما نال هدفه، تربع على دست الحكم، فى دولة أوتوقراطية يحكمها رئيس كاريزمي مؤهلاته الأساسية بلاؤه فى حرب التحرير..كما هو الحال فى زمبابوي وإريتريا...إلخ. وقد يزيّن الحزب الحاكم نفسه ببعض المقاعد فى الجهاز التشريعي (البرلمان) التى يتنازل منها لبعض الأحزاب الضامرة حتي يعطي انطباعاً بوجود ديمقراطية تعددية...مثل تلك الأحزاب الصورية التى استصحبها البعث العراقي، ولا زال يستصحبها البعث السوري، واستصحبتها تسمي بالديمقراطيات الشعبية التى حكمت شرق أروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى انهيار المعسكر الإشتراكي فى أواخر تسعينات القرن العشرين. وفى دولة كهذه، كما فى شمال السودان، تسود القوانين الإستثنائية ويتم الحجر علي الحريات، فالناس فى حالة استعداد مستمر للحرب، وكما قال أحمد فؤاد نجم: "لا شيء يعلو فوق صوت المعركة...كل الجهود كل الجنود للمعركة...والشعب صاع...الشعب ضاع فى معركة... وأكلنا عيش إسود بلون المعركة..." ...وهكذا دواليك....غير أن النتيجة الحتمية لغياب الشفافية والنقابات ومنظمات النفع العام والصحافة الحرة هي تفشي الفساد...فما هو نصيب الجنوب من هذا الداء العالمثالي العضال؟..(و لا نريد أن نقول "الإفريقي" لكي لا نتهم بعدم الموضوعية). بحكم علاقاتي الواسعة بالمثقفين الجنوبيين...حيث أني كنت أعمل فى جامعة جوبا لبضع سنوات...وحيث أني لا زلت أتنطّس أخبار الجنوب وأسأل عنه الحاضر والظاعن...فلقد تناهت إلي سمعي إشاعات لا أول لها و لا آخر عن الفساد وسط المسؤولين بالجنوب...ووسط شركائهم من السياسيين والسماسرة الشماليين الذين كنا معجبين بموقفهم الوطني المساند لشعب يناضل من أجل الحرية والعدالة...فإذا بهم يتقاضون الأجر علي جناح السرعة، فى شكل كمّشنات وصفقات مشبوهة بمئات ملايين الدولارات، وإذا بهم يتحولون إلي أثرياء حرب، وإذا بالنعمة تتجليّ عليهم في شكل عقارات تاج محلية هنا وهناك...وفى شكل صرف بذخي هاروني رشيدي...ولكن، رغم ذلك، فإن الخوض في هذه الإشاعات غير صحيح، قبل أن تتوفر الأدلة الوثائقية من مظانها الأصلية. المهم في الأمر، أن الظروف الماثلة بالجنوب لا بد أن تفرخ ذلك الفساد المالي الذى يتناقله الجنوبيون والشماليون فى جلسات الأنس،... فمثله موجود فى زمبابوي وفى شمال السودان وفى غيرهما من الأنظمة الشمولية. و لا مفر من درء الشبهات إلا بإشاعة الحريات كلها التى تتحدث عنها مواثيق وإعلانات حقوق الإنسان، و لا بد من إشراك الشعب فى إدارة نفسه والإشراف على كافة أوجه وأولويات الصرف ببلده. ومن ناحية أخري، فإن المجتمع الدولي مطالب بالتدخل لحماية الدول الصغري من العمالقة الدوليين، كالصين، الذين يستغلون ظروفك ويملون عليك شروطاً فى المعاملات والشراكات التجارية تجعلك صاحب اليد السفلي، الذى يدفع التزاماته وهو صاغر...لا بد أن تكون هناك ثمة آلية دولية للتقاضى تسمح للدول الصغري بالمطالبة بإعادة النظر فى الإتفاقيات الجائرة التى كانت قد أبرمت تحت ظروف استثنائية. وكذلك، فإن دولة انبلجت من حرب أهلية دارت فى كل شعابها لثلاثة عقود...لا تستطيع أن تشب عن الطوق بمفردها...وتتحمل كل فاتورة إعادة الإعمار بعد دمار الحرب... وترسيخ البنية التحتية التى تليق بدولة عصرية جاءت للوجود فى القرن الحادي والعشرين...لا بد للشمال من أن يتحمل جزءاً من تلك المسؤولية، دعماً سخياً لا يعرف التردد ولا ضيق الصدر...فالجيش الشمالي هو الذى دمر القري والمدن فى الجنوب، وهو الذى تسبب فى وقف الخدمات الحضرية كالتعليم والصحة طوال فترة الحرب...فلا أقل من تقوم حكومة الشمال ولو بالتعويض الجزئي للجنوب... أو على الأقل تكف عن التسبب فى المزيد من الأضرار لذلك البلد الناشئ، حتى لا يقال عنها: (لا خيراً منها...و لا كفاية شرها!). غير أن الدعم الحقيقي كان من المتوقع أن يأتي من الولاياتالمتحدة والغرب عموماً، فالدول الغربية هي صاحبة المصلحة الحقيقية فى إنفصال الجنوب، ولقد كان ذلك هو محور السياسة الاستعمارية البريطانية تجاه الجنوب طوال الحكم الثنائي للسودان 1899-1956، ومحور الإستراتيجية الغربية التى تمخضت فى نهاية الأمر عن إيجاد هذه الدولة الإفريقية المسيحية الجديدة التى سيتم ربطها عضوياً بكينيا ويوغندا (كما تشير لذلك رمزية الطريق البري الوحيد الذى رصفته الحكومة الأمريكية بين جوبا ونمولي)...والتى ستتكسر عندها ألسنة المد العربي في إفريقيا...فلا أقل من أن يتقدم الغرب بمشروع ضخم مثل مشروع الجنرال مارشال الذى انتشل ألمانيا من دمار الحرب العالمية الثانية، وساعدها علي بناء "المعجزة الألمانية" التى جعلت من تلك الجمهورية صاحبة أقوى اقتصاد فى أوروبا فى ظرف عشر سنوات فقط. فالجنوب أيضاً يحتاج لشيئ شبيه بذلك المشروع الإنتشالي الفذ...ولكن هيهات! يبدو أن الولاياتالمتحدة ليست بالقوة الإقتصادية والأخلاقية التى تحلت بها أيام الرئيس روزفلت وخلفه هاري ترومان...ويبدو أن الجنوب قد ترك فى العراء..ما بين سندانة النظام الإخواني الشوفيني فى الخرطوم...والعملاق الإقتصادي المسمي بالصين الشعبية...الذى توغل فى الاستثمار الرأسمالي...ونسي تماماً شيئاً إسمه الشيوعية أو المبادئ الماوية... ونصرة لكادحين فى العالم...ويبدو أننا قد بلغنا يوم القيامة...يوم يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبنه وبنيه. نسأل الله بحق أسمائه أن يدعم الجنوب فى هذه الظروف الحالكة التى يمر بها. أ لا هل بلغت.....اللهم فاشهدّ! والسلام. EL FADIL Mohamed Ali [[email protected]]