بسم الله الرحمن الرحيم 5 أبريل 1994م لن أكتب إليك أبداً يا بلد كنت كثير الوقفات فى محطات الحروف وأرصفة الكلمات الدافئه الوضاءة ، كنت أنوم على صفحات قراطيسك الوارفه من حين الى آخر ، أرى فيها نقوش أنامل أهلى الطيبين وسمات جباههم العالية وسماحتهم العفوية الصادقه. كالعاده أبدأ رسالتى إليك ، من حيث ما إنتهت إلية رسالتك ، لأسطر إليك وللوطن الأرض ملحمة الشوق والشجون ، أبدؤها بإقصوصة شعرية ، مدخلها هموم أهلى الطيبين ونهايتها وحدة الإنسان والتراب ، فتنسال المقاطع والكلمات من الأعماق متقدة وشغوفه لحرارة الرؤيا واللقيا لبلد المليون ميل محروم. كنت دائم الكتابة إليك ، فى الفجر والقيلولة وعند المساء ، أدرك بأن الساحات فى عينيك واسعه ، وأجزم بأن الشمس ترقد فى عينيك ، وفى عينيك الجروف وطنبور الشمال ، وأنغام رميات المردوع ، ونقارة الزاندى ، وفى عينيك أفق قوس قزح ، آمال عريضة بعيدة المدى والمنال منقوش عليها بالنور الأخضر "عازة حلوه وبنت" بلد. عندما أتأمل صفحات بريدك من بعد عناء أنسى همومى وآلامى ، وأتجول فى غابات الضفائر الأبنوسية التى نهلنا منها الشجاعة وزرعنا فيها بذور التضحيات ، وإحتقرنا الموت من أجلها ، وكان شعارنا على الدوام بالدم بالروح نفديك يا بلد. الكتابة إليك يا حبيبتى تتدفق من الأعماق والأوردة سيلاً دموياً زنجياً نوبياً عربيا دافئاً ، يعطر حلاوة التلاقى فتتلاحم الإرادة ، وتقبل عازة خدود الشول ، وتأتى اللحظه الجميلة التى تترقبها السماء سلام ووئام فتنبت ثورة البناء والعطاء والخلود في ترابك البكر ، وتعم زغاريد الفرح البوادى وكل وادى ، وتتجلى على ضفاف النيل الخالد وعلى الرمال أبياتاً من الشعر الحر ، تتغنى بقدوم عصافير الوطن المهاجرة المؤمنه بسودان المشاركة والتباين ، الذين ما برحوا يعشقون فتاة هذا العصر... يعشقون الديمقراطية ، إنه حلم كبير وجميل وقاسى . واذا ما تحقق حينها ستهب نسيمات الخريف من جديد فى ربوع الوطن الحبيب ، وتصحو حوافر الذكرى لترسم لوحات مرتع الصبا التى عشتها فى ربوع كردفان بين أشجار الصباغ والطلح والتبلدى والأبنوس فرحاً مطرباً ، مردداً إبداع الكلمه بين الحين والآخر ، أثير غزال فوق القويز ، ست الفريق ، اللورى هلا بى دلانى فوق الودى ، سادراً دون أن أدرى ناشداً القمر بوبا العليك تقيل ، مرتحلاً يا مسافر جوبا ، واقفاً عند شجرة البن. عند شجرة البن ، وعندها تعاودنى الذكرى ، فأتذكر ميعاد قهوة جدتى الزينة بت عبدالله التى تحضر لها من دغش الرحمن لتلتقى بها بعد صلاة العصر فى ظل راكوبتها الصغيرة ، فهى قهوه لها طقوسها وأعرافها ، وجدتى تتكيف معها وبكل أحاسيسها من مرحلة الإعداد الى مرحلة "التستيف" ، ودائما ما تسمى جدتى الأشياء بأسمائها ، وتبدأ بفنجان البكرى ، وهو فنجان يعرفه رواد القهوه وله مذاق وطعم خاص ، وكذلك الذى يلية وكلاهما محرم على الصغار دون نقاش وبلا توضيح ، وكنا نغضب لذلك ولكنا نتمالك أعصابنا مع توزيع بعض الإبتسامات على الجدة والحاضرين علها تشفع وتجلب الرضا والفوز بفنجان حتى ولو لم يكن ممتلئاً ، ونحن على ذاك الحال حتى نقف على عتبة " التلتاوى " . "التلتاوى" ، نعم التلتاوى إنه إسم متعارف علية لدى رواد القهوه ، ونحن نعرفه جيداً ونتذوق سكره اللذيذ ، عندها يشتد الزحام على الجده المسكنية من قبل أحفادها والشاطر منا هو الذى يستطيع الفوز بفنجان من "التلتاوى" ، وكان علينا إستخدام بعض الحيل والأساليب اللطيفه التى لا تخلو من التمثيل وخفة الدم أحياناً ، للوصول الى الهدف بإستثناء الكذب والغش ، فالجدة دائماً تكون لنا بالمرصاد وتردد : من غشنا ليس منا ، وتواصل الكذب حرام يا وليداتى . ولكن المهم فى الأمر كله هو إرضاء الجدة والفوز بفنجان " التلتاوى العجيب " الذى ما زلت أتذوق طعمه وانا على عتبة العقد الثالث من العمر. ونحن فى حضرة القهوة فجأة ترحل الشمس عنا دون سابق إنذار ودون أن ندرى ، وهكذا رحلت عنا أبريل ، تلك الطفله البريئة اليافعه التى إغتصبها المارقون على إجماعنا وسماحتنا ، نعم لقد رحلت الشمس وما زلنا نواصل مشوارنا مع الجدة ، ونحن فى حضرتها تأخذنا بعيداً معها فى مشاوير الأحاجى ، فكانت تسافر بنا الجدة وتتنقل بنا من محطة الى أخرى بأفقها الخيالى الواسع المتراكم ، وتخاطب عقولنا الصغيرة بحكمة وإقتدار وتشدنا لنستمع اليها بتركيز غريب ، فنستوعب كل ما تروية وتحكية حفظاً وفهماً وبعداً وأكاد أجزم بأنى أسمع كلماتها فى هذه اللحظه. نعم ، تواصل بنا الجدة مشاوير الأحاجى وغالباً ما تقف بنا عند قصة ليلى البنت الجميلة والغول لتكملها غداً ، عن قصد أو بلا قصد لا أدرى وقتها ، الغول ذلك الحيوان الخرافى الذى ما زلت أخاف منه على ليلى بالرغم من خرافته التى إستوعبتها بعد أن كبرت ، وكبرت آلامى. لقد إكتمل خوفى بأثر رجعى عندما أرسلت الى جدتى مرسولاً تخبرنى فية بأنها سمعت ، مجرد سمع بأن الغول ظهر مجدداً فى زمننا هذا ، وظهر بالفعل فى مدينة الخرطوم ، لكنه غير إسمه و سمى نفسه "الإنقاذ" متدثراً بثياب الواعظين حتى لا يعرفه الناس ويكتشفه الغلابه الذين يحلمون بلقمة خبز شريفه تسد رمقهم ، ولمسة شفاء ترد عافيتهم . فلقد وصفته لى جدتى بأنه غول عجيب ، فهو لا يشبه من سبقوه ، فهو غول لا ينام ولا يشبع ولا يفتر ، غول بجينات حوتية ، يأكل الأخضر واليابس ويشرب البحار والدماء ، يكشر أنيابه ليلاً و نهار ، يسعى فى الأرض فسادا ، لقد حذرتنى جدتى فى رسالتها اذا ما رغبت فى العودة اليهم وإلى الديار أن لا أمر بمحطه إسمها الخرطوم إلا اذا كنت جاهزاً لمنازلة الغول ، تحذيرات جدتى مخيفه وقوية والقضية باقية والإيمان بها ثابت وحتماً الحق عائد. وهكذا كنا نواصل مع جدتى أحاجيها الطويلة الغريبة والقريبة ، حتى تكسوا ثياب الظلام مجلس أنسنا فنستسلم دون أن ندرى جميعنا للنوم ، فنحمل على الأكتاف إلى أسرتنا الصغيرة (العنقريب) المصنوعه من خشب الزان وأشجار الحميض ، ونحن مع سكون الليل الهادىء وخيوط الظلام الدامس ، يطل علينا من على البعد القصى "مربوط العجيل" بريق القبله الضوه ست البنات يا حواء هميت بدور أهلى ، ويسمونه أهلنا فى شمال بلادى "بالعبادى الما بخيب" ، وهو برق يتفائل و يتنبأ الناس به فى البوادى بالليالى الممطره كلما شاهدوه أو لاح فى الأفق ، وهو لا يكذب تنبؤاتهم وماهى الا ثوانى من ظهوره ، تهب نسيمات الخريف وتمطر السماء ، وتتراقص أغصان الجروف ، وتتلاعب قناديل الذرة ، وتعلوا أصوات الحيوانات ، وضجيج الضفادع ، وتبدأ السراية ، حتى نصحوا فى الصباح الباكر على أنغام القمرى والبلوم ، وتطل علينا تباشير الضحوى بسحبه الوضاءه المترادفه كأجنحة الطاؤوس ، فتبدأ أصوات الحياة تنادى ، بدءاً بهدير الوديان و إنتهاءاً بصياح ديك الظهيرة ، فيفوح عطر نوار الكداد ذاك الرمز الخالد للخريف الغزير والخير الوفير ، ذلك المشهد يطاردنى كلما رأيت غصن أخضر أو ورقة وارفه ، تذكرت ما مضى ، وتجبرنى الذكرى للكتابة إليك ولكن ؟؟. لسوء حظى لم أرى غصناً أخضر أو ورقة وارفه منذ زمن بعيد ، لذلك أوقفت الكتابة إليك ، ولن أكتب إليك أبداً يا حبيبتى بعد اليوم. لأنى لا أريد أن أكتب إليك حروفاً سوداء ، فتصبح الصفحات الود التى أسطرها إليك مقصوصة أحزان وتعاسه ، تنهك جسدك النحيل الذى كان بالأمس مملوئاً وممشوقا. نعم لقد وصلنى عتابك ، وإنى أعلم بأنى غبت عنك خمسة أعوام ، هى عمر لصبيى تعيس ، وأعلم بأن غيابى عنك وأنت عروس بثوب الزفاف بلغة الشرع فى كتابنا المقدس حرام ، وبلغة النظام العالمى الجديد كما نسمع هى انتهاك لحقوقى قبل حقوقك ، ويسمونها أهل بلاد الفرنجه حقوق الانسان ، وفى الحالتين : يقول الزعماء فى خطبهم السياسية الحمقاء الحقوق لا تعطى ولكنها تنتزع ، وإنى أعلم بإن شعارهم بالى وممزق ، أضحى لا يحرك ساكناً لأنه أفرغ وأسقط ، فالقاعدة أضحت بلا قيادة ، والقيادة رهنت الإرادة ، والغول زاد فى تغوله. آمل أن تعذرينى ، رقم إنى لا أعذر نفسى ، لهذا فانى لن أكتب إليك أبداً يا بلد ، حتى تصبح الحروف مؤثرة وتعود الكلمة حره ومعبره وغير مقيدة ، وحينها يا حبيبتى ستشرق شمسك لتضىء وجهك الضاحك أبدا . مكين حامد تيراب 6 أبريل 1994 makein nidal [[email protected]]