وضع الساعي البنغالي "دلوار التومية" صاحب الابتسامة المنطفئة فنجان القهوة أمامه، هرش الرجل رأسه المنكوش، واستوى على مكتبه، واستفتح يومه بالقهوة المرة جرياً على العادة، رشفة أولى، ثانية وثالثة حتى آخر الفنجان.. يضحك حينما يستعيد من تلافيف مخه أن أصحاب الكيف في القهوة يرتشفونها بلا سكر، يضحك لأنه ليس له مزاج في القهوة أياً كان نوعها، وإنما يتناولها على سبيل العادة وأنها أصحبت طقساً صباحياً يستفتح به إيقاع يومه في العمل. هذا الصباح لا يشبه أي صباح آخر.. شمس الشتاء الناعمة يبدو انها بلا مزاج.. شعاعها الناعم يتسلل إليه من نافذة علوية في المبنى الزجاجي الفاره.. يحط عصفور نزق مشاغب في شجرة تتسلق بعض أغصانها النافذة.. يصدر الطائر (صوصوة) كنواح امرأة ثكلى في ليلة عاصفة، في تلك اللحظة يرن (الهاتف الجوال) بشدة، يشعر أنه غير متحمس للرد، لأنه يخاف من طوارئ الصباح ومكالمات آخر الليل، دوماً يستعيذ بالله حينما يصدر (الجوال) صهيله المحموم في أطراف الليل أو في أول الصبح.. يتجاهل المكالمة ويمضي في كتابة تفاصيل محضر اجتماع التحرير الصباحي، مرة أخرى يصهل (الجوال) بصورة محمومة.. يشعر كأنما الرنين المتواصل ينزلق من قاطرة نعس سائقها في آخر الليل.. ينظر إلى شاشة الموبايل، أووووووووه.. رقم غريب.. يخامره شعور مبهم أن المتصل من الطرف الآخر لديه ما يود أن يقوله، مرة أخرى يتواصل الرنين.. يتوكل على الله ويضغط على زر استقبال المكالمة، يأتيه صوت أحد أصدقائه من آخر أصقاع الدنيا وهو يوجه له سيلاً من الشتائم الناعمة ويصفه بالأحمق وقليل الإحساس و(الزول التمبل).. يا الله.. يكركر الرجل بضحكة مشروخة ومنطفئة مثل أسطوانة منسية منذ الحرب العالمية الثانية.. وقبل أن يبتلع ريقه يعاجله الصوت ويبدأ في الحديث عن "محمود عبد العزيز" ومدى حب الناس لهذا الفنان الجميل الكاريزما.. الرجل سألني لماذا لم أسافر إلى الأردن.. يطلق صاحبكم آهة منطفئة.. آهة تتجاوز حدود المكان بأن ظروف عمله لا تسمح له بالسفر، وأنه تحدث مع "مأمون" الشقيق الأصغر ل"محمود" ومع والدته، التي قالت بصوت مؤثر إنها تتمنى أن يعود "محمود" الحبيب إلى جمهوره ومحبيه.. (جوال) "مأمون" مشغول على مدار الساعة ما يؤكد مدى الحب المترسخ من قبل الذائقة السودانية ل"محمود عبد العزيز" الإنسان.. يتذكر آخر مرة سمع فيها صوت "محمود" حينما هاتفة آخر الليل، وأبلغه أنه بصدد أداء أنشودة عن القبة الخضراء في المسجد النبوي الشريف.. قلبي عليك يا "محمود"!!