اللُّجوء إلى المنهج النفسي في تحليل الأحداث و الوقائع له ما يُبرره ، لكنَّه مدعاةٌ للعسف والتحكم بلا شك ، هنا.. يصدُق وصفُه بأنَّه منهجٌ شريرٌ لا بُدَّ من شرِّه ، ولعلَّ الذي يبرره ألَّا يجد المُحلِّل تفسيرا عقلانيا للأحداث التي تُنتجها الجماعات و الافراد على حدٍّ سواء ، ونحن في السودان لنا قدرٌ كثيف من هكذ احداث وسلوكيات , خصوصا في المجال السياسي ، ودونكم مبادرة (السائحون) و موقفها من إقصاء الدكتور غازي صلاح الدين من منظومة المؤتمر الوطني ، وحتى لا نتجنَّى على المبادرة بإطلاق الأحكام جُزافاً فإننا هنا لسنا بصدد تحليل الموقف الرسمي للمجموعة ، والذي تُعبر عنه مِنصَّتُها إنما نحلل الضمير العام للمجموعة وذلك عبر قراءات ما كتبه اعضاءٌ اصلاءٌ في المجموعة على صفحتها في فيس بوك. وبما أنَّ الفرد ليس بمنفصلٍ عن تاريخه و مجتمعه فإن المُعلِّقين على إقصاء غازي لا زالوا مرتبطين إرتباطا وثيقا بتاريخهم الجهادي في مستنقعات الجنوب ،:/، ويبدو انه لا سبيل لهم للإفلات من منطقه القاصر الغشَّاش حتى في محاولتهم تحليل الإجراءات التي تبدو ساسية صرفة و لا علاقة لها بالإقتتال ، فإنهم يستدعون ذات المنطق الذي عهدوه ، أعني هنا "منطق المستنقعات". ويقيني أن إندفاع (السائحون) للخوض في شأنِ غازي إنما ينبع من إختطافِه موقفهم من الإصلاح ، فقد تحول الطبيبُ في رمشة عين من عمق المؤتمر الوطني إلى خارجه واصبحت دعوته للإصلاح تنزع نزوعا بيِّنا نحو المعارضة الصريحة لسياسة الحزب الذي إنفضَّ من تحت سُرادقه ، بينما لا يزال (السائحون) يبارحون أمكنتهم ومقاعدهم الرمادية ، فلا هي بسواد المؤتمر الوطني ولا هي ببياض مشروع الإصلاح ، هذا إن لم يبدءوا فعلا بالترنح كما يبدو خصوصا بعد تلاطم الأمواج وانتشار حالة "دوار البحر" التي غشيت كثيراً من الإسلاميين المنزوين إلى الرصيف فاصبحوا ك"المعلقين في الهواء" . طفِق المعلَّقون في الهواء يتحدثون عن غازي و جدوى خروجه أو قل إخراجه من المؤتمر الوطني عبر حادثة دار الهاتف الشهيرة والتي كان له فيها دور هام إبَّان الجبهة الوطنية التي غزت الخرطوم على عهد النُّميري ، وكان الخلاف بيِّنا بين المعلقين .. هل ثبت الرجل مع إخوته وصابر وما استكان ؟؟ أم أنه ولَّى دُبُرَه عسكرَ النُّميري وأبَق إلى منجاةٍ منهم ؟؟ هذا لعمري منطق المستنقعات بعينه !! ما علاقة الثبات أو الضعضعة في معركة سابقة في تاريخ الرجل و ما يدعو له الان من سعي في الإصلاح ولو إختلفنا مع أدواته و أغراضه ؟؟ ماذا لو كان الرجل جبانا وفرَّ بجلدته من الموت ؟؟ فالجُبن و الشجاعة ليستا من الصفات التي تلازم المرء منذ ولادته حتى وفاته ، فهما تُكتسبان فحسب ، ولا اصالة لهما في خويصة الفرد أبداً ، لكن ليس هنالك من عتب على اللذين يمارسون السياسة ب "مكانس التَّهاوُش" لا بأدوات المعرفة الرصينة ، فتقييمهم للأحداث دوما ما تُصيبه البلادة والعُوار ويأتي أعرَجا في مسيره يتنكَّبُ الصَّواب . عبر مواقفه السياسية والفكرية ينبغي أن يُطرح موقفُ غازي للتمحيص وإذا اردنا ان نتنبأ بمستقبل الرجل فعلينا إدراكُ تاريخِه جيدا ، ومن الإبتذال ان يُحصر تاريخه في حادثة دار الهاتف بل من التحكم ومطاردة الظنون ، لكن عبر حدث هام ذكره د. منصور خالد في كتابه (السودان اهوال الحرب وطموحات السلام .. قصة بلدين) نستطيع ان ننفذ إلى عقل الرجل ونستنبط كُنه ميولِه وتحيزاته ، حينما تولى الدكتور غازي صلاح الدين ملف التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بديلا للدكتور علي الحاج ومحمد الأمين خليفة ، و قِصة الاستبدال هذه وراءها كارثة .. كارثة بحق ، دعونا هنا نَنْكأ الجراح قليلاً ، فلا شفاء يُكتب لجرح رُمَّ على فسادٍ وقَيْح . لما بدا لأصحاب الوساوس في الحركة الإسلامية أنه ثمَّة مؤامرة تُحاك على المشروع العروبي الإسلامي بين الأفارقة من الحركة الإسلامية (د.علي الحاج و محمد الامين خليفة) وبين رصفائهم من الحركة الشعبية بقيادة د.جون قرنق ، لمَّا بدا لهم ذلك تهامزوا فيما بينهم لضخ دماءٍ أكثر عروبة ونقاء من زنوجة الرجلين في وفد التفاوض ، كانت تلك الدماء تجري في عروق د. غازي العتباني و د. نافع علي نافع وهكذا وقع الإختيار عليهما لقيادة الوفد المُفاوِض و تم إقصاء (سلالة الأماتونج) المتآمرة .. أيُّ حركة للإسلام تلك؟؟ وأيُّ إسلامي يرتضي لنفسه هكذا مكان ؟؟ ، ألآن د. علي الحاج و محمد الأمين خليفة من المؤسسين للمؤتمر الشعبي وهو الفصيل الأعرض من المنشقين عن الحركة الإسلامية.. هنا دعونا نلتمسُ عذرا ,, عذرا للعَمَايا و الجُهلاء الذين لا يحسنون قراءة ما بين سُطورِ التَّاريخ . تلك ليست الكارثة .. إنما المقولة التي اطلقها غازي إبان المفاوضات المحمومة حول ملف تطبيق الشريعة هي التي تبين حجم الكارثة ، المقولة التي فضحت زيف تخفيه ب(شال) وعُمامة ولحية بيضاء ، أوضحت أنَّه رجل ضعيف الفقه وضئيل الحكمة حينما قال : إن إستثناء الجنوب من تطبيق الشريعة ليس حقا لأهل الجنوب ، إنما هو تنازل من حكومة الحركة الإسلامية !!! اما قرأ الرجل للحسن البصري ابن الحجاز و وادي القُرى ، الذي ولد قبل الف و اربعمائة وعشرين عاما ؟؟ ، ذلك الإمام الذي عاش في كهف التاريخ يفوق طبيبنا الاريب المعاصر بآلاف السنين الضوئية حينما افتى والي مصر بأنه لا يجوز إقامة حد الخمر و ايقاع العقوبة على اكلة لحم الخنزير من غير المسلمين ؟؟؟ صدق مالك بن نبي حينما كتب في شروط النهضة ( إن جهل العوام بين واضح ويسهل تداركه لكن الأخطر ذاك الجهل الذي يتخفى في غرور المتعلمين فلا يسهل علاجه بتاتا) . هكذا يمكن للإنسان ان يتبين كنه اخاه ويبحث في خصوص مآربِه ، رجل مُزوَرٌّ عن جادة الحكمة كغازي ويكثر صحبُه من العَواوير من سعاة الإنقلاب الأخير الذين لا يحسنون امراً سوى العُواء .. لا سبيل له ولا خلاق في إصلاح ، هو رجل عرف بالتوجُّس و التمحُّل في كافة افكاره ورؤاه ، وهو الذي يَعتبِر في قراءته لتاريخ الحركة الإسلامية أنَّ إنقلاب يونيو 89 والذي جاء بالإسلاميين هو الإنجاز الأهم في تاريخ الحركة الإسلامية !! كيف يبدأ مشروع الإصلاح عبر إطلاق العسكر الذين يستلبون إرادة الناس ويحكمون القيود ويُتقِنون شدَّ العُصابات على افواه وأعين الابرياء؟؟ . وكيف يكون الإسلام مُسوِّغا لسلب حرية الذين قال فيهم ابن الخطاب (وقد ولدتهم امهاتهم احرار) ؟؟ الإصلاح لا يأتي من صحبِك أشباه الانقلابيين الّلذين يُحسنون نسج الأحابيل وحياكة التآمر ، من أيِّ عهد غابر جئت ايها الغازي؟؟ ومن اي بركة آسنةٍ برزت؟؟ ، وأيُّ إصلاح ذلك الذي تدعونا إليه ؟؟ وما الفساد الذي لفظك وضيَّق عليك المواعين إلَّا بفعل اولئك الانقلابيين الذين يملئون جُيوبهم ذات الزرائر بالعناكب ؟؟ مالك كيف تحكم ؟؟ . كثيرا ما تنتهي مصنفات الفسلفة الكبرى بأسئلة دون إجابات ، وتفتح الباب واسعا لأجيال خالفة من الفلاسفة المحدثين للتكهُّن والتبصر ، ونختتم المقال بالسؤال سيرا على سنتهم ، ولندع الإجابة على هذا السؤال للأقدار وحوادث الدهر وهي كفيلة بأن تجيب .. إلى اين ستنتهي يا غازي؟؟ . [email protected]