نادي الصفا يكسب خدمات نجم مريخ الابيض كلول    الأحمر يجري مرانه للقاء التعاون    الوادي يبدع ويمتع ويكتسح الوطن بعطبرة    لاخيار غير استعادة زخم المقاومة الشعبية غير المكبلة بقيود المحاذير والمخاوف    الفاشر الصمود والمأساة    أحد ضباط المليشيا يتبجح بأنه إذا رجعوا إلى الخرطوم فسيحرقونها عن بكرة أبيها    مسؤول أممي: التدّخل في شؤون السودان يقوّض آفاق السلام    انقلب السحر على الساحر.. لامين جمال يعيش كابوسا في البرنابيو    مجزرة مروّعة ترتكبها قوات الدعم السريع في بارا    بالصورة.. "داراً بلا ولد ام يسكنها طير البوم".. الفنانة هدى عربي تنعي الشاعرة والمراسل الحربي آسيا الخليفة: (استحقت لقب "نحلة دارفور" وكتبت لي أغنيتين تغنيت بهما)    الدوري الممتاز 7 يناير بدون استثناء    تفاصيل استشهاد المراسل الحربي آسيا الخليفة.. لجأت لمبنى مفوضية العون الإنساني بعد أن اشتد بهم الخناق والمليشيا طالبت بتسليمها لكن زملائها رفضوا ودافعوا عن شرفها حتى استشهدوا جميعا    وزارة الثقافة والإعلام تدين اعتقال الصحفي معمر إبراهيم من قبل الميليشيا المتمردة وتطالب بالإفراج الفوري عنه    شاهد بالصورة والفيديو.. الأولى في عهد الخليفة التعايشي.. "الجنجاويد" يغتالون "الطيرة" للمرة الثانية في التاريخ    سيطرة عربية.. الفرق المتأهلة إلى مجموعات دوري أبطال إفريقيا    خالد الإعيسر: الرحلة في خواتيمها    تدوينة لوزير الإعلام السوداني بشأن الفاشر    شاهد بالفيديو.. الممثلة المصرية رانيا فريد شوقي تغني الأغنية السودانية الشهيرة (الليلة بالليل نمشي شارع النيل) وتعلق باللهجة السودانية: (أها يا زول.. المزاج رايق شديد والقهوة سِمحه عديل كده)    شاهد بالصور.. الفنان صديق عمر ينشر محادثات بينه وبين مطرب شهير: (زمان كان بخش لي في الخاص وراقد زي الشافع للحقنة وهسا لمن احتجت ليهو حلف ما يرد.. فرفور أصلو ما غلطان عليكم)    جود بيلينغهام يمنح ريال مدريد فوزاً مستحقاً على برشلونة    ترامب: أحب إيقاف الحروب    هل يطبق صلاح ما يعظ به الآخرين؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تربط جميع مكاتبها داخل السودان بشبكة الألياف الضوئية لتسهيل إستخراج الفيش    تطوّرات بشأن"مدينة الإنتاج الحيواني" في السودان    ستيلا قايتانو.. تجربة قصصية تعيد تركيب الحرب في السودان    الديوان الملكي: وفاة الأميرة نوف بنت سعود بن عبدالعزيز    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    أمين تجار محاصيل القضارف : طالبنا الدولة بضرورة التدخل لمعالجة "كساد" الذرة    والي النيل الأبيض يدشن كهرباء مشروع الفاشوشية الزراعي بمحلية قلي    شاهد بالفيديو.. الفنانة عشة الجبل توجه رسالة للفنانين والفنانات وتصفهم بالمنافقين والمنافقات: (كلام سيادتو ياسر العطا صاح وما قصده حاجة.. نانسي عجاج كاهنة كبيرة والبسمع لفدوى الأبنوسية تاني ما يسمع فنان)    متى تسمح لطفلك بالحصول على جهاز ذكي؟ خبير أميركي يجيب    السودان يعلن عن اتّفاق مع روسيا    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    «انتصار» تعلن عن طرح جزء جديد من مسلسل «راجل وست ستات»    علي الخضر يكتب: نظرة الى اتفاق الصخيرات .. لماذا تسعى الإمارات لتخريب مبادرة الرباعية ؟    معلومات مهمّة لمسؤول سكك حديد السودان    قوات الدفاع المدنى تنجح فى إنتشال رفاة جثتين قامت المليشيا المتمردة بإعدامهما والقت بهما داخل بئر بمنزل    ترامب: نهاية حماس ستكون وحشية إن لم تفعل الصواب    وفاة الكاتب السوداني صاحب رواية "بيضة النعامة" رؤوف مسعد    إحباط تهريب مواد كيميائية وبضائع متنوعة بولاية نهر النيل    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    إيران تلغي "اتفاق القاهرة" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    بدء عمليات حصاد السمسم بالقضارف وسط تفاؤل كبير من المزارعين    ترامب يتوعد: سنقضي على حماس إن انتهكت اتفاق غزة    القضارف.. توجيه رئاسي بفك صادر الذرة    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط عدد( 74) جوال نحاس بعطبرة وتوقف المتورطين    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    تطوّرات مثيرة في جوبا بشأن"رياك مشار"    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطبيعة الطيّبة: كَسَل أهل الجنة .. بقلم: مأمون التلب
نشر في سودانيل يوم 18 - 05 - 2014


[email protected]
[أريد أن أقول، في جديَّةٍ تامَّة، أن العالم الحديث يصيبه الكثير من الأذى نتيجة الاعتقاد في فضيلة العمل، وأن السبيل إلى السعادة والرفاهيَّة ينحصر في الإقلال المنظم للعمل]. (برتراند راسل – في مدح الكسل).
(1)
لا تحدث صدفةٌ كهذه إلا وفقدت معناها كصدفة؛ فبعد عامٍ وأكثر قليلاً من افتراقنا في نايروبي، في العام 2011م، رأيته واقفاً في صفّ المسافرين المتّجهين إلى الخرطوم بمطار أبوظبي، والذي كان محطّةً بالنسبة لي في الطريق من برلين إلى الخرطوم، نهايات 2012م، بدعوةٍ كريمةٍ من معهد جوتة الثقافي لحضور سمنار حول (الإدارة الثقافيَّة)، نحكي عنه لاحقاً. المهم أنّه كان هناك، في الصف المتّجه إلى طائرتي، بردائه القصير وتي شيرت خفيف الأكمام كعادته، أنيقاً رياضيَّاً لا تقهره علامات الزمن، فوجدت نفسي وقد خَرَجت عن الطابور، متخطياً الناس بصورةٍ غير حضاريَّةٍ أبداً، غُفرت وعُبِّر عن الغفران بابتساماتٍ ضاحكة، وهم يشاهدونني أقفز على ظَهر الرجل معانقاً، وينخلع هو بدوره ويحاول الالتفات بذعر، وعندما يدرك هُويّتي (مع العلم أنه لم يسمع بقصة سفري هذه) يصرخ ويكرر بالإنجليزيَّة: (OH MY GOD!! إنت بتسوّي هنا شنو؟ لا حولا، يعني لازم تكون بتعمل في حاجات غريبة إنتَ؟). عانقت خالي الفنان هاشم حبيب الله وضحكنا ضحكاً شديداً استمرَّ بكل ذلك الفرح والسرور طوال رحلتنا إلى الخرطوم، وتنقّلنا في مواضيع مختلفة في السياسة والأدب والفنون، وناقشنا بعض المقالات المهمّة، راجعنا آراءنا واختلفنا بمحبّةٍ كما يحدث عادةً، لقد كان حواراً فاتناً، وهاشم لخير صديقٍ وجليس.
أمام مقاعدنا في الطيّارة تنتصبُ شاشةٌ تُبيّن خط مسار الطائرة، بجغرافيةٍ بَحتة، أي بلا حدود سياسيّة، ألوان تبيّن المياه واليابسة؛ بإمكانك أن تستخدمها لأغراضٍ أخرى: تشاهد فلماً أو أي حاجة. لكن، لسببٍ متعلّق بالحوار الدائر، أُقحِمت هذه الشاشة وأصبحت تمثّل الخلفيّة الديكوريّة لحديثنا: كان هاشم يُدير سبابته حول منطقة التقاء النيلين بعشوائيّةٍ كمَن يُشَخبِط، ولكن داخل غلاف خريطة السودان، وهو يقول: (شفتا الحتّة دي؟) أو (شفتَ الفِجَّة دي) ويلحقها ب(بالجد والله، قصّتها بايظة، وما عندها حل) وندخل في نقاش حول ما إذا كان من الأفضل الذهاب إلى مكانٍ يقلّ قهره غير هذا المكان. وتتعدد الحوارات والمواضيع، ويظل هاشم يشير، من حينٍ لآخر، للخريطة الجغرافيّة. في واحدة من قَفَشاته وهو يشير (للحتة ديك) قائلاً: شفتَ أصلاً الناس، البشر عموماً، بدو في الحتة دي (يدير إصبعه) أها قاموا الناس النشيطين فَرتقوا وانتشروا في العالم بهجرات عظيمة، أها الكسلانين الفضلوا قاعدين وين؟ قاعدين في الحتة دي (يشير بيده)!.
(2)
طبعاً كسلانين، فالسيّد الكسل ليس كتلة صماء خاوية فكرياً، وهو ليس سلوكاً دخيلاً على الطبيعة البشريَّة، هو من صلبها، بل هو ما تسعى إليه الطبيعة بكل قواها: أن تبني وتخلق وتبتكر إلى أن يرتاح الجميع ليُمارسوا الكسل، بل إن الاختراعات وسرعتها في قرننا هذا أوضحت لنا، بجلاء، كيف أن مشروع الثورة التكنولوجية إن أُطلق لهذا المارد العنان يتّجه، وبسرعةٍ فائقة، إلى إعفائنا من مهماتٍ كانت تُهاجم كَسل الجنّة، أحبّ أن أسمّي الفاييروس القديم جداً، والذي أُصيبَ به السودانيّون، ب(بكسل أهل الجنَّة)!.
(3)
لقد عانى السودانيون من هذه (الوصمة؟) لدهورٍ طويلة، وتراهم يغضبون وهم يَدْفَعون عنهم هذا (الاتهام؟) أمام تريَقة "العرب" الشهيرة حول الموضوع! ولقد مضى بي عهدٌ سَمِعتُ فيه الكثير من النكات الطريفة في هذا الخصوص، وكنت أغضب منها في الماضي، خلال سنوات دراستي الأولى، لحداثة التجربة والجهل الشهير الملازم لتلك الفترة العِنَاديَّة، للدرجة التي نسيتُ بها هذه النكات، ولكم وددت لو تذكرت واحدةً الآن، ولكن، الغيرة العميقة والمحبّة التي يكنّها الشخص للذين تربّى وعاش بينهم ل(مسَّاحةٌ) كبيرةٌ للذاكرة.
(4)
ما هي جرثومة هذا الكسل الجِنَاني؟ إنّها، حسب ما أرى، الزهد والنفور من التراكض لأجل الرزق والتلهّف إليه، الإصرار الغريب على تفكيك جميع القيود التي يفرضها العمل، قدر الإمكان، باتباع أسلوب (سمحة المَهَلة) الشهير للدرجة التي يُستَلَفُ للترويج الإعلاني، لأجل الاستمتاع، براحة، وبكل قوَّة عين، بالحياة.
[أشعر الآن، وقد كتبت هذه السطور أعلاه، أنني أتحدث عن إنسانٍ لم يعد أغلبيّةً في الخرطوم، وأصبَحَ، رغم كثافة وجوده في بقيّة بقاع السودان، ذليلاً فقيراً محطّم المشاريع، خائضاً أهوال الحروب والنزوح].
إن جرثومتها هي جرثومة كَسَل الإنسان الأول المرسومة في اللوحات، المكتوبة في الكتب، المُغنّاة وفي الأحلام بكثافة. متعة الاختلاء بالنفس، وتنفّس الطبيعة والنوم في أحضان ظلالها، باطمئنان وسلام!. القدرة على رؤية المعجزات كما استطاع سيّدنا الشاعر والت ويتمان أن يراها:
[لِمَ هذه الضجة عن معجزة؟
أمّا أنا فلا أعرفُ سوى المعجزات؛
سواء أكنتُ ماشياً في شوارع مانهاتن،
أو مُصَعِّداً بَصري عبرَ سقوف المنازل، صوبَ السماء،
أو متسكّعاً، حافياً على الشاطئ عند حافّة الماء،
أو مستظلاً تحت شجرةِ الغابات،
أو متحدّثاً في النهار مع مَن أحب،
أو مضجعاً في الليل مع من أحب،
أو جالساً على مائدة الطعام مع الآخرين،
أو ناظراً إلى الغرباء، قبالتي، وهم يركبونَ العَرَبة،
أو مراقباً نحل العسل دواراً حول القفير في ضحىً صيفي،
أو السائمة التي تَرعى
أو الطيور،
أو غرابة الحشرات في الهواء،
أو روعة الغروب،
أو النجوم وهي تُشعُّ هادئةً متألّقةً،
أو الانحناءة المرهفة لهلال الربيع،
هذه، مع سواها،
الواحد، والكل، أراها معجزات،
أرى مل ساعةٍ من النور والظلمة، مُعجزةً
كل بوصةٍ مربّعةٍ من الفضاء، معجزةً
وكل ياردة مربَّعة من سطح الأرض، مليئةً بالمعجزات
أرى البحر معجزةً مُستمرَّة:
الأسماك الصخور حركة الأمواج،
والسفن ذات الرجال!.
تُرى، كم من المعجزات هناك؟].
(في لحظات الكسل العظيمة، بالنسبة لي على الأقل، فديوان أوراق العشب بتاع الراجل ده المفروض يكون أساسي في الشنطة).
(5)
(لَعَنَ الله العَمَل المأجور وأرباب العَمَل)، جملة ساخرة كان يطلقها صديقنا الرسّام ميسرة محمد صالح وهو يشاهد رفاقه يتكرفتون ويتبدبلون في طريقهم إلى وظائفهم، وقد كان، حسب ما أعلم، عاطلاً عن العمل في ذلك الوقت. ذلك كان في هولندا، إبّان إقامته هناك، وقد تفهّمتُ هذه الجملة لارتباطها بأوربا المنضبطة انضباطاً مُريعاً ما بينفَع معانا أبداً أبداً. يا زول نحن ناس زراعة وحيوانات وغابات وموية وحاجات زي دي، وهي جنّة الأرض، يتصرَّف الناس فيها بأريحيَّة، يغفون تحت الظلال، ينامون على ظهور الماشية، وهم، عندما يَترعرعون في المدن، يرفضون التسلّط، يتعَبقرون في العلوم والفنون والآداب وغيرها، مثلهم مثل كلّ طبقةٍ وسطى تجد فراغاً واسعاً، وينجزون أعمالهم بأمانةٍ وإخلاصٍ نادرين ذاع صيتهما في إفريقيا والشرق الأوسط لأزمنةٍ طويلة، نسبةً لمساهمتهم المنظورة في مسيرة التعليم والترجمة والإدارة والترجمة وغيرها في بلدانٍ كثيرة في ما يُسمَّى ب"الوطن العربي".
إن التّعب والإرهاق والضغط الذي تُعانيه كسوداني حامل لجرثومة كَسَل أهل الجنّة في أوربا لا يمكن أن يُوصف إلا بالمريع؛ وللسوداني بالذات يُمكِن أن يشعر بها كشكلٍ من أشكال الإرهاب، وهو كذلك، فإن أنتَ ارتضيت أن تذهب إلى الناس وتدخل سيستمهم عليك بالتنازل أمام هذا السيستم والالتزام بقواعده المافيشة في آخر راس السوداني، الذي هو مثلي على الأقل، وأقول ذلك عن تجربةٍ شخصيةٍ مريرةٍ عشتها للتكيّف مع هذا الوضع الجديد في ألمانيا: النظّام الذي إن لم تتنظمه لفاتكَ كل شيء، ولأصبحت، مثلي، تتراكض، طوال شهرين، وفي ذلك البرد، لأنك فوتَّ الباص المعيَّن الذي يجب عليك أن تستقله في تلك اللحظة المعيَّنة. إنتو السودانيين العايشين في أوربا ديل قدرتو عليها كيف؟ شخصيَّاً فقد تجرَّست، خصوصاً وأننا ترعرعنا في زمنٍ لم يكتفِ بجرثومة الكسل فقط وإنما أدخلها معملاً فوضويَّاً في محاولةٍ ل(إعادة صياغة الإنسان السوداني)!.
(6)
لم يكن السودان معروفاً بالنسبة للعالم قبل احتدام الأزمات في نهايات القرن العشرين وخلال قرننا الحالي، دارفور وحرب الجنوب إلى آخره، تماماً كما لم تكن هنالك الكثير من الدول، المشهورة بأزماتها، معروفةً ومذكورةً لدى العالم بهذه الصورة الإعلاميَّة السخيفة والسمجة، ببساطة فإن دخولنا إلى الجحيم العالمي كان متأخراً مقارنةً بالجحيم الذي تمرمغت فيه دول العالم "المتحضّر" أو "الأول" خلال الحربين العالميتين في بدايات القرن الماضي. (الوثبة) التي حدثت لتلك الدول في مجالات الحريّة والديموقراطية وحقوق الإنسان.. بْلاَ بلاَ بلاَ، ازدهرت العلوم وبَرَز ما يُسمَّى بالثورة التكنولوجيَّة، وذلك سيتطور لاحقاً إن توفّر المزيد من أوقات الفراغ بالنسبة للبشر. أشير هنا إلى ما دعى إليه الفيلسوف وعالم الرياضيَّات البريطاني برتراند راسل في مقالٍ له بعنوان (في مدح الكسل)، وأتّفق معه أن الاستعباد الذي حدث في القرون الماضية كان ضروريَّاً لتنال الطبقة الأرستقراطيَّة أوقات فراغٍ لبناء الحضارة، يقول: [كانت هناك طبقة صغيرة مترفة، وطبقة كبيرة كادحة، وكانت الطبقة المترفة تتمتع بامتيازات لا أساس لها من ناحية العدل الاجتماعي. وقد أدى هذا بالضرورة إلى تحويل هذه الطبقة إلى طبقة ظالمة، محدودة في إشفاقها وعطفها، كما أدى إلى اختراع نظريات تُبرّر بها هذه الطبقة الامتيازات التي تستمتع بها. هذه الحقائق أساءت إساءة بالغة إلى أصالة هذه الطبقة وامتيازها، ولكننا، على الرغم من هذا العيب، مدينون إلى هذه الطبقة بكل ما اصطلحنا على تسميته بالحضارة؛ فقد احتضنت هذه الطبقة الفنون واكتشفت العلوم، وكتبت الكتب واخترعت الفلسفات وأقامت علاقات اجتماعية مهذّبة. وحتى تحرير المظلومين من ربقة الظلم كانت شرارته في العادة تنبعث من فوق عن هذه الطبقة، ولولا هذه الطبقة المنعّمة التي يدين لها (الفراغ) لما خرجت الإنسانية أبداً من غياهب البربريَّة].
ويطرح راسل لاحقاً في مقاله اقتراحاً بتخفيض ساعات العمل إلى 4 ساعات فقط: [دعنا نفكر برهةً في أخلاقيات العمل بصراحة دون التجاءٍ إلى الخزعبلات؛ كل إنسان يستهلك بالضرورة خلال حياته مقداراً معيناً من نتاج الجهد البشري. وبفرض أن العمل شيء كريه، فمن الظلم أن يستهلك إنسان أكثر مما يُنتِج، وقد يقوم، بطبيعة الحال، بأداء خدمات بدلاً من إنتاج السلع، ولكنه ملزم بتقديم شيء مقابل مأكله ومسكنه وفي هذه الحدود، وفي هذه الحدود فقط، يجب علينا الاعتراف بواجب العمل.
لن أتحدث طويلاً عن الحقيقة التي تتلخص في أن عدداً كبيراً من الناس في المجتمعات الحديثة، باستثناء الاتحاد السوفيتي، يعمد إلى التهرب حتى من الحد الأدنى للعمل، وأعني بالذات كل الذين يرثون المال أو يتزوجون طمعاً فيه. وأنا لا أعتقد أن السماح لهؤلاء الناس بالكسل يكاد يصل في ضرره ما تصل إليه مطالبة الكادحين في سبيل الرزق أن يكدوا أو يتضوروا جوعاً. ولو أن الكادح في سبيل الرزق عمل مدة أربع ساعات يومياً لكان هناك ما يكفي كل انسان، ولما كانت هناك بطالة، هذا لو افترضنا وجود جانب من التنظيم المعقول المعتدل للغاية. هذه الفكرة تذهل الأغنياء لأنهم مقتنعون بأن الفقراء لن يعرفوا كيف يستغلون كل هذا الفراغ].
طبعاً لم يحضر معانا راسل ما أحدثته التكنولوجيا اليوم من تطوّر، فلو عرفَ أن استخدام الطاقة النظيفة ممكن وسهل التطبيق اليوم، وبالصورة التي نتابع بها ما استجد في صناعة وسائل النقل والاتصال والأوتوماتيك، لانضم إلى دعوة حركة (زايجست) التي تسعى إلى إعفاء الناس، وفي العالم أجمع، من العمل تماماً، بل وإلى إلغاء العملات النقدية، وهم يتحدثون أن حلماً كهذا يُذهل العقول، ولكننا إن علمنا أنهم يتحدثون عن عالمٍ يعمل بالطاقة النظيفة (الرياح، الشمس، حركة البحار وطاقة الأرض الحراريَّة) بصورةٍ كاملةٍ بحيث لا يدفع أي فردٍ فلساً مقابل الطاقة أو المواصلات، بلا بنزين وحرق إلى آخر منغصات قلب أمنا الأرض. ذلك لن يحدث، بالتأكيد، إلا بانتهاء ثنائية الحرب والفقر التي يعالج بها النظام العالمي الحالي (والذي تُماسِكُه مجموعة الحكومات الوهميَّة الحاكمة للدول، بما فيهم دولتنا طبعاً) أعطابه الاقتصاديَّة للتزاوغ من تنفيذ هذه الاجراءات الصعبة. طبعاً في النهاية كان عملوها عملوها، ما عملوها يانَا الانقرضنا!.
إن ذهب القارئ وبحث عن مرتكزات حركة العلماء هذه، لوجد أن تحقيقها أسهل بكثير من بناء الجيوش وتمزيق الأجساد وغلي الأرض وتبديدها المخيف الذي يذهب بنا إلى فناءٍ تام كنوع من أنواع الحيوانات الفتَّاكة، بل أشدّها بطشاً. أتذكّر الآن هذه الجملة التي وجدتها مطبوعة على صورةٍ يضربُ فيها أحدهم (فقمةً) بعصاةٍ حتَّى الموت ليستخرج زيتاً: (الإنسان هو الكائن الوحيد في الأرض الذي قال بوجود الله، وهو الكائن الوحيد الذي يتصرَّف وكأنه ليس موجوداً).
(7)
أقول، دخل السودان الجحيم العالمي في اللحظة التي حُشرت فيها جميع دول العالم، بلا استثناء، في انهيار السيستم الرأسمالي الذي فاق في بشاعته ما ذهب إليه سوء ظن كارل ماركس. ولكن الإنسان السوداني لا زال محتفظاً بجرثومة (كسل أهل الجنَّة)، ولربما، بعد أن ينتهي كل هذا العبث العجيب، يكون الأكثر تأهيلاً لتقبّل فكرة التفرّغ للإبداع والمشاركة بإيجابيَّة في الحياة. نحن لا نعلم ما هي الإمكانيات التي يمكن أن تتفجّر في هذا العقل البشري الذي لا نستخدم منه إلا القليل القليل، وهذا القليل القليل مُستمرٌّ في قلقلته هذه مع تباشع السوق الاخطبوطي الذي يُخرج لنا يداً في كل مكان: في الصحن الذي نأكل فيه، ومن خلال الأجهزة المتحوّلة إلى منوّمات مغناطيسيَّة (تلفزيون، إذاعة، إلخ)، تخرج يدٌ بشعةٌ لتخترق علاقاتنا الاجتماعية، كما واحدة داميةٌ تعمل في تجارة السلاح!.
(8)
ليست نظرية الخال هاشم حبيب الله ببعيدة عن الحقيقة؛ فالإنسان الأوّل قد ظهر في مناطق شرق إفريقيا إلى غرب السودان وإلى الأسفل: القرن الإفريقي وجنوب إفريقيا، ونعم قد هاجر البشر إلى قارات العالم التي انفصلت عن بعضها البعض خلال قرونٍ مديدة.
أميل إلى التعامل مع الأمر بصيغةٍ شِعريَّة نوعاً ما؛ فإن كان الإنسان الذي خَرَج إلى الحياة ورأى الأرض والطبيعة الكريمة، انطبعت داخله هذه الصورة البديعة لجنان الأرض، وربما أرخى جسمه وتَكَلَ في هذه المناطق ولم يتحرَّك إلى أن عادت إليه مجموعات من إخوانه المهاجرين يُعاملونه كحيوان بدائي لم يتجاوز حياة الكسل والدعّة والرخاء، ثم بدأ مسلسل الحاضرة المعروف.
لكن، بأي حالٍ من الأحوال، فإن الدولة الحديثة بشكلها الموروث من الاستعمار، لم تصب في مجرى دم الحياة السودانية، ولم تستطع أن تدير دولة بهذا الحجم وبهذا الاختلاف. لماذا لا نطرح إذاً السؤال التالي: إن لم تناسبنا الدولة الحديثة وهي التي تؤول إلى الإنهيار عالمياً بما أنها فقدت كل محمولاتها الآيديولوجيَّة وتوحّدت في الانصياع لحركة السوق العالمي لماذا لا تسعى مجموعة من المفكرات والمفكرين لابتكار نموذج آخر لنظام الحكم واقتصاد يقوم على (الموارد) و(الطاقة النظيفة)، نظّام يبطّل تعالي وترفّع على المجتمعات السودانية الزراعية والرعويّة ويُدرك أنهما لا يمثلان فقط مورداً اقتصاديَّاً وإنما أساليب حياة وثقافات وطرق حُكم. لماذا لا نملك شجاعة الابتكار ومُخالفة العالم؟ لن نستطيع الفكاك من السيتستم العالمي بالتأكيد ولكن بإمكاننا ابتكار صيغة جديدة ما دامت الدولة الحديثة ما عايزة تقع لينا كلو كلو زي ما نحن شايفين.
(9)
أختتم هذا التنقيب بتفاصيل الحلم، سهل التحقيق، في أن نعمل لأربع ساعات في ختام مقالة (في مدح الكسل)، والتي يستخدم فيها تعبيراً مُغايراً لما وصفته بجرثومة (كسل أهل الجنَّة) فأطلق عليها اسم (الطبيعة الطيبة). وشكراً يا تمسو على تنبيهي للكتاب وعلى المناولة: [ستعم السعادة وفرحة الحياة بدلاً من الأعصاب المتوترة، والإرهاق وعسر الهضم، ولن يقف الجهد المبذول عائقاً في سبيل جعل الفراغ شيئاً بهيجاً دون أن يكون سبباً في الإرهاق. وبما أن التعب لن يُصيب الناس في وقت فراغهم، فلن يتطلعوا إلى النوع السلبي من التسلية التي لا طعم لها إطلاقاً. ومن المحتمل أن يكرس 1% من الناس الوقت الذي يقضونه في وظائفهم في أوجه لها بعض الأهميَّة العامة. وحيث أنهم لن يعتمدوا في هذه الأوجه في كسب الرزق فلن يقف أمام تجديدهم حائل. كما أنه لن يكون هنالك داعٍ للالتزام بقيم ومقاييس قد وضعها المسنون القدامى من أهل العلم. ولن تقتصر مزايا الفراغ على هذه الحالات الاستثنائية فحسب، إذ سيصبح الرجال والنساء العاديّون عندما تتوفر لهم فرصة الحياة السعيدة أكثر رفقاً وأقل ظلما واضطاهداً وأقل ميلاً إلى النظر إلى الآخرين بعين الريبة والشك. وسيندثر تذوّق الحرب لهذا السبب لأن الحرب ستكلف الجميع العمل الطويل المضني. و(الطبيعة الطيبة) من سائر الصفات الأخلاقيَّة هي الصفة التي يحتاج إليها العالم أكثر من احتياجه إلى أي شيءٍ آخر. و(الطبيعة الطيبة) إن هي إلا نتاج اليسر والطمأنينة لا نتاج حياة الكفاح الشاق. وقد مهّدت وسائل الانتاج الحديثة إمكانية توفير اليسر والطمأنينة للجميع. غير أننا اخترنا لأنفسنا الإرهاق للبعض والتضور جوعاً للبعض الآخر، واستمررنا نبذل الجهد كما كان الحال قبل استخدام الآلات. لقد كنا أغبياء في ذلك، وليس هناك داعٍ للإصرار على غباوتنا إلى الأبد].
(في مدح الكسل، ومقالات أخرى)، برتراند راسل. ترجمة: رمسيس عوض، المشروع القومي للترجمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.