بقلم: د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي الأستاذ ربّاح رحمه الله لا يمر بى موقف فى الحياة أتجاوزه تجاوز العابر المسرع بل أقف أسأل نفسي و أتفكر فيه وكثير من تلك المواقف أجدها في بعض الأحيان تذكرنى بأحدٍ من أساتذتى القدامى والذين لهم الفضل الكبير فى التوجيه السليم أو إضافة لمسات سلوكية وأخلاقية هامة كلها قد أثَّرت إيجاباً فى بلورة مستقبل شخصية تلاميذهم وأنا واحد منهم. أحمد الله أننى حظيت بالتعليم على أيدى معلمين أجلاَّء أكْفٓاء لا أنسى فضلهم ما حييت وأخصهم دوماً بالدعاء. أذكر منهم علي سبيل المثال أستاذنا الموقر حسب الرسول خير السيد خريج دار العلوم القاهرية الذى كان يدرسنا اللغة العربية هو ورصيفه الأستاذ محي الدين فارس ونحن فى الصف الثالث بمدرسة بربر الثانوية العليا (له التحية والإجلال سواءً كان على قيد الحياة أو فى عليين ولإبنه موسى وإخوته ألف سلام). كان يدرسنا البلاغة بلسان سلس جذاب غلبت عليه اللكنة المصرية وأعتقد ذلك يعود أيضاً إلى أن زوجته مصرية الجنسية. كان يقول "إن من بعض البلاغة تكرار الكلمة أو اللفظ ولكن بقدر لأن التكرار الكثير الرتيب ربما يكون على العكس سمجاً ومملاً فيفسد القالب والمضمون".أتذكر في هذه اللحظة من ضمن كلامه شعراً قدمه لنا كمثال جاء فيه قالوا أتبكى لكل قبر ثوى بين اللوى فالدكادك قلت إن الأسى يبعث الأسى دعونى فهذا كله قبر مالك بهذه الإفتتاحية أقول قد أثارنى قلم بليغ للأستاذ الوقور التشكيلى والأديب حسين جمعان وجدته صدفة في نسخة قديمة من الصحف بعنوان "إلى أستاذى مجذوب حاج أحمد أبو رباح فى عليائه". أستبيحكم أعزائي القراء الكرام والأستاذ جمعان عذراً لأعبر بقلمى الضعيف المتواضع بقليل من ما جاش فى صدرى من إثارة كلمات د. جمعان لشخصي تجاه حبيبنا الراحل المقيم الأستاذ مجذوب حاجأحمد أبو رباح "أو مجدوب ربّاح"كما كان يحلو له أن ينادى يا أيها المجذوب تحية وسلاماً وأنت تنعم في عليائك. إنها اليوم قد إكتملت عدة سنوات عجاف نعيشها قد مضت على فقدك والفراغ الذى تركته يا مجذوب لأكبر من مساحات حياتنا العريضة التي كنت تملؤها بهجة وكرماً ومجاملة وفناً وحباً وتقديراً واحتراماً. اليوم تجدنى أمثِّل "وجودك ذاك" يقظة وفى الكرى والذكريات صدى السنين الحاكى فيهيج الحنين من سباته فيثير الشجون والأشواق عارمة إلى شخصكم الكريم يا إبن الشهامة والكرم الأصيل وأنت تنعم اليوم بإذن الله فى علاك برحمة من عنده إن شاء الله في جنة من جنان الفردوس ولد مجذوب ربَّاح "الولد الوحيد" لأسرة من العبابدة في ثلاثينيات القرن الماضي وترعرع حيث ولد فى مرقد الفن والجمال والطرب والإبداع "نقزو"ببربر. جاء للدنيا فناناً موهوباً بالفطرة ثم إكتمل إختصاصياً فى مجاله الفنى بعد أن تسلح بالعلم والمعرفة فى كل من السودان ولندن في الكلية الملكية سليد مع الأستاذ الصلحي ببريطانيا وعاد يُدِّرس في كلية الفنون الجميلة مع زملائه أحمد محمد شبرين وإبراهيم الصلحي وجمال عبدالقادر وأحمد الطيب زين العابدين وآخرين فصار رئيساً لقسم طباعة المنسوجات ثم بروفيسوراً وعميداً إلي أن تقاعد. عرفناه منذ صغرنا في بربر حيث كان دائم العودة إلى أهله فى وطنه الصغير "نقزو" ولكأننى الآن أعيش تلك الزيارات الجميلة في تلك الأيام الجميلة حيث كانت تعجبنا قامته الفارعة وجسم نحيل عليه ثياب ناصعة البياض "العرَّاقى والصديرى والسروال الطويل"وعصاة بيمناه ما هى إلا تحفة نادرة إكتملت بها تلك الهيئة البهية بل أقول"اللوحة التشكيلية" الأخَّاذة تعبيراً للوطن الكبير أبو جلابية وثوب .... سروال وعراقي ومركوب التى كنا نتذوق جمالها في هيئة مجدوب رباح برغمنا حيث وقتها لا نعى الكثير فى الحياة سوى اللعب واللهو البريء. كان أيضاً يجيد بجدارة فن العرضة بالسيف مشاركاً في إحتفالات الأسرة الممتدة بكل صدق وأريحية وتواضع جم ما أعظمك يا مجذوب رباح من رجل أنعم الله عليك بجمال الخلق والأخلاق وأريحية الكرماء الأسخياء والتهذيب وشجاعة الفرسان على مر الدهور والأزمان. عرفتك الصادق الصدوق، تكره الكذب والغيبة والغلو والمغالاة والسلوك المعوج. عرفتك مجاملاً تحترم الفقير والمسكين وتتصدق عليهم، تفرح الصغير وتوقر الكبير. عرفتك تقرى الضيف وتحمل الكَلَّ وكنت دوماً الصامد الشجاع مهما كانت عظمة نوائب الدهر وأكبرها كان ذاك المرض الذي صبرت عليه بجلد الفرسان. عرفتك كريماً ... مجاملاً واصلاً رحمك ومعارفك ..... زاهداً متواضعاً وكنت أضعاف قامتك الفارعة عزيز النفس غنيها بالسلوك القويم ... بالعلم وفلسفتك المتفردة النوع ... والرضا بما قسمه الله لك سموت يا رباح وبحسن أعمالك ونواياك حسنت خاتمتك فسمت روحك الطاهرة فى سماحة إلى بارئها صعوداً سهلاً ميسوراً فى سماء الوحى الطاهرة وأكرمك الله مرقداً أبدياً فى أطهر بقعة على هذه الأرض أرض الحرمين التى لا يحظى بمثل تلك الفرصة إلا السعداء المختارون من عند رب كريم جاءنى وقتها نعيك وأنا فى بلاد الصقيع ... فبكيتك فى السويد وبريطانيا وذرفت دموعى الحرَّى . اليوم وأنا هنا فى المملكة المتحدة دوماً تجول بخاطرى تلك الصور الفوتوغرفية القديمة "أسود وأبيض"التى جمعتكم أنت والكثير من السودانيين فى لندن في بيت السودان وغيره أذكر من بينهم شبرين وعبدالمنعم محمد صالح، تلوح أمامى وأنا أتجوّل فى أرجاء لندن العريقة حتى أخال نفسى كأنني أتحسس خطاكم فى بعض الأحيان التى أكاد أسمع وقعهاهنا وهناك فى هذا الشارع أو ذاك أو عند تلك المحطة مثل محطة فيكتوريا أو أوكسفورد سيركس أو مكتبة "فويلز"العريقة في جيرنغكروس أو ميدان الطرف الأغر وغالريات لندن الشهيرة مثل غالاري الرويال أكاديمي فتجدنى ساعتها أشتاق إليك ومن معكمن أهيل كثر طيبين رحلوا عنا مع الخالدين. أقف أحياناً هنا وهناك أمام شجرة من أشجار هايدبارك أو مداخل لندن ناشونال غاليرى أتحسسها جداراً جداراً وما حب الجدار أو الديار شغفن قلبى ولكن حب أولئك الذين قد زاروا آنفاً تلك الديارا فكأنها من بعدهم وربعهم صارت قفارا.! ألا رحمك الله يا مجذوب ربَّاح رحمة واسعة في هذا الشهر الكريم وبارك الله فى تلميذك وزميلك المخلص البار بأساتذته الوفى الدكتور والبروفيسور حسين جمعان على حسن قلمه المعطاء وكلمات وفاء وعرفان قالها بصدق فى حقك فلك دعائى الذى لا ينقطع راجياً من الله الإجابة ولتنعم أنت بإذنه تعالى بخلود فى الفردوس، آمين ولأسرتك الكريمة في حي الرياض بالخرطوم ولإبنيك الدكتور أبو رباح بمكة المكرمة ومحمد وشقيقاتهما ووالدتهم الحاجة فاطمة دوام الصحة والعافية عبدالمنعم عبدالمحمود العربي