أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة العسكر الأخيرة... قطفة أولى .. بقلم: طه النعمان
نشر في سودانيل يوم 21 - 07 - 2014


طه النعمان – صحيفة "آخر لحظة" اليومية
من 27 إلى 29 مايو 2014
(1)
فور فراغي من قراءة «رحلة العسكري الأخيرة» اتصلت على كاتبها زميل الدراسة والصديق السفير جمال محمد ابراهيم -منذ عهد الطلب بالمؤتمر الثانوية وجامعة الخرطوم- فرد عليّ كعادته مرحباً ومهللاً، وابلغته أني قد انتهيت فوراً من قراءة روايته البديعة، فكان سروره عظيماً وإن ابدى دهشة من حصولي على نسخة منها بينما هم قد قاموا لتوهم بتدشين الرواية في احتفال مخصوص منذ يومين فقط، فقلت له انها قد وصلتني «طازجة» قبل شهور من ناشريها «هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.
«رحلة العسكري الأخيرة» هي عمل غير مسبوق يقدم عبر السرد والرواية سيرة البطل عبد الفضيل الماظ، الذي يسميه جمال «عبد الفضيل جوهر» وفق مطلوبات الرواية التي تمزج مزجاً مدهشاً بين حقائق الواقع وشطحات الخيال والقراءة البصيرة الناقدة لعلل المجتمع السوداني التي ما فتئت تقعد بسعيه نحو التقدم والاستقرار والوحدة..
ولنيُسّر على القاريء ونختصر عليه الطريق المفضي الى عرصات الرواية ومنحنياتها، نبدأ بتعريف شخصياتها وامكنتها وازمانها، قبل ان ندلف الى الأحداث.
شخوص محورية: عبد الفضيل جوهر (الماظ)، عيسى جوهر (والده) محمد بك جوهر (جده) وسامي جوهر (حفيدهم الباحث في تاريخهم صاحب اليوميات) وصديق (صديق سامي وزميله في المدرسة والكلية الحربية) عبد الفراج بك (زميل عبد الفضيل وصديقه الضابط المتقاعد) عبد الجبار (الشيخ المُعمر ذاكرة الاحداث) احمد الشقيلي (راعي عبد الفضيل وصهره)، سليمان عبد الفراج (حفيد عبد الفراج بك)، حليمة الدينكاوية (زوجة الشقيلي الثانية وخالة عبد الفضيل وحاضنته) العمدة سليمان (عمدة أبو سعد) حاج مجذوب (الحلاق مُخبر العمدة) عطية الشامي (ادوار عطية رجل المخابرات البريطانية) هدلستون باشا (حاكم غرب السودان ونائب الحاكم العام لاحقاً).
أمكنة مهمة: ام درمان (ابو سعد، كرري، حي الضباط «السودانية»، كبري النيل الابيض).. الخرطوم (المستشفى العسكري، شارع فكتوريا، شارع الجامعة) المكسيك، القاهرة، باريس، تلودي (جبال النوبة).
ازمنة الوقائع: اواسط القرن التاسع عشر واواخره.. مطلع القرن العشرين وعشرينياته.. 1956 وما بعدها.
الكاتب -السفير جمال- اتخذ منهجاً مستحدثاً في السرد الروائي، ربما أملته عليه «ضرورات المزج» بين حصيلة البحث المطول والمكثف عن الحقائق والوقائع كما وردت في الكتب والمدونات و«مطلوبات العمل الروائي» وأخيلته المفترض صبها في قوالب ادبية جميلة تنتج متعة القراءة..
تمثل هذا المنهج في استحداث شخصية افتراضية هو صديقه «سامي جوهر» الضابط السوداني الباحث في تاريخ أجداده واخرهم الشهيد البطل (عبد الفضيل)، والذي عكف على تسجيل يومياته وما ينتهي اليه من معلومات كل ما كان ذلك ممكناً، وشخص لسامي صديق ورفيق في رحلة البحث المضنية هو «صدّيق الشقيلي»، الذي ليس هو الا الكاتب نفسه (جمال) المتحدر من «اسرة الشقليني» التي تم تحريف اسمها او تصحيفه في الرواية لتصبح «الشقيلي».. وبهذا يتشارك سامي وصدّيق الجهد في نبش التاريخ والتفتيش في ذواكر المُعمِّرين، وليتصفح صدّيق بين كل فصل وآخر من فصول الرواية ما خطه قلم صديقه سامي في يومياته ليذيعها على العاملين، وبذلك، بهذه الحيلة الذكية، يتحلل جمال من تبعات السرد المباشر عبر الشخص الثالث (The third person) المُخترع الذي هو «سامي» وليلبس هو قناع «صدّيق الشقيلي» كشخص ثالث آخر مفترض اطلع على يوميات سامي وجهوده مع موقع الصداقة والزمالة والجيرة في السكن.
سامي جوهر.. يبدأ من رحلته ومهمته العسكرية الأخيرة كمدخل لإستعادة ماضي أجداده بل وماضي بلاده كلها، إن لم يكن مستقبلها، عندما تقرر نقله إلى الجنوب للإشتراك في «الحرب الأهلية» الدائرة هناك.. تلك الرحلة التي كتبتها له «أقدار التاريخ» كما قال في يومياته.. ليتساءل في حرقه: هذه المرة: لا أعرف هل تعمد أحد القادة العسكريين في الخرطوم الزج باسمي في قائمة المكلفين بمهام قتالية في الجنوب؟ ام أن الأمر رتبته الصدفة المحضة؟ أجل سأعد نفسي للمهمة، ولن أجفل من قدر جاء إليّ.. من كان حفيداً لبطل مات ممسكاً مدفعه في الخرطوم في «الشمال» لهدف نبيل، يتأهب الآن لقتال بين الشمال والجنوب نبله مشكوك فيه، كتب عليه ان يحمل مدفعه ويصوبه، ليس على معتد غريب أو مستعمر غاشم، بل الى صدر بعض أهله وبني وطنه.. يا لتواطؤ الأقدار.. هل تستقيم هذه الوقائع مع تلك التي جرت في أبعد بلد عن بلدي «السودان».. في المكسيك وقائع بطلها جدي الأكبر الكولنيل «محمد جوهر بك» في وديان «فيرا كروز» بالمكسيك؟
لم يواصل سامي تساؤلاته المنطقية والمُستغرِبة ليقول لنا -كما سنقرأ لاحقاً في فصول الرواية- وهل تستقيم هذه الوقائع أيضاً مع عودة جده «عيسى جوهر» في ركاب حملة كتشنر لاستعادة السودان مُترجماً ومُساعداً للمراسل الحربي المُجنّد وينستون تشيرشل الذي لم يكلف نفسه عناء الاشارة لمترجمه في كتابه الذائع الصيت «حرب النهر» الذي دون وقائع «الإبادة الجماعية» للأنصار في كرري، بالرغم من دور عيسى الأكبر في فك شفرات اللغة والأحداث التي شكلت مادة الكتاب.
اخترنا لهذه «الإضاءة» على رواية جمال «رحلة العسكري الأخيرة» عنوان «قطفة أولى» تيمناً بسلوك أهلنا المزارعين، الذين يسمون أول الحصاد ب«البشاير» أو «القطفة الأولى» قبل الإيغال في جني المحصول بكامل قوامه، الذي هو من عمل «الشغيلة المحترفين» عندهم، والذي هو في عالم الأدب -شعراً وقصة ورواية- عمل «النقاد» أهل الاختصاص واللغويين، الذين لا بد ان يأتي دورهم أوان الحصاد، وإنا لأقلامهم (السنينة) لمنتظرون.
:
(2)
شكلت منطقة جنوب أم درمان، وتحديداً تلك الممتدة بين ديم أبو سعد (الفتيحاب) في أقصى المدينة وحي الضباط (السودانية) في الموردة بؤرة البحث والتنقيب الميدانية الرئيسية لتجميع مادة رواية (رحلة العسكري الأخيرة) تلك الرحلة التي انتهت بالضابط ( عبد الفضيل الماظ) من (قوة دفاع السودان)- نواة الجيش السوداني- شهيداً وبحفيده المفترض (سامي جوهر) الى مهمة القتال في الجنوب أرض أجداده في (حرب أهلية) انتهت بانشطاره عن الوطن في (رحلة أخيرة) قد تكون «نهائية» إذا ما أغرقنا في التشاؤم.
تركز اهتمام الكاتب بهذه المنطقة لسببين: فأبو سعد ضمت دار «أحمد الشقيلي» أو على الأصح«الشقليني»- جد الكاتب أو قرينه في الرواية «صدّيق»، تلك الدار التي كانت مأوىً ومثابةً للناجين المنكوبين في غزوة كرري أو«كسرة أم درمان» (1898) بعد انهزام جيش الخليفة، وكان للمفارقة- أن ضمت بين هؤلاء المشردين الذين استقبلهم ود الشقيلي «عيسى جوهر» وحماته حليمة الدينكاوية حاضنة البطل عبد الفضيل القادمين ضمن حملة الفتح.. حليمة تلك الأبنوسية الممشوقة القوام التي أحبها ود الشقيلي من بين كل اللائي زحمنا عليه داره في أعوام الكسرة تلك ، فبنى بها وتزوجها على قرينته الأولى «حواء» بنت عم العمدة سليمان- عمدة أبو سعد- فنشأ عبد الفضيل في كنف ود الشقيلي وتعلم حتى التحق بسلك الجندية ضابطاً في قوة دفاع السودان، وظل مقيماً هناك، شامة في أرض «الجموعية» لم يغب عنها إلا قليلاً، أوقات التحاقه ب«الكلية»أو عندما تم ندبه الى تلودي ليعمل ضمن الفرقة البريطانية- السودانية المكلفة بقمع التمردات التي بدأت تلوح هناك منذ ذلك الزمان البعيد «عشرينيات القرن العشرين»، ذلكم هو السبب الأول، خصوصاً بعد أن- تناهى اليهم أن هناك مُعمراً يعيش في أبو سعد- ويحفظ كثيراً من السير القديمة يدعى عبد الجبار.
أما السبب الثاني، فهو أن حي الضباط «السودانية».. والسودانية لفظ كان يطلقه عامة اهل البلاد- أو «أولاد البلد» المنحدرين من أصول عربية ونوبية- شمالية على ذوي الأصول الزنجية من الجنوب أو الغرب «حي الضباط» هذا كان مقراً للضباط السودانيين القادمين من مصر بعد أن أمضوا خدمتهم في«جيش الباشا» وفق تلك الخطة التي صممها الباشا الكبير «محمد علي» لغزو السودان من أجل المال «الذهب» والرجال «الرقيق» ليرفد بهم جيشه ويحقق طموحه في تأسيس امبراطورية يتوارثها أحفاده وكان له ما أراد.. بين أولئك الضباط المعاشيين العواجيز أقام «عبد الفراج بك» صديق عبد الفضيل جوهر «الماظ» وعلم كل من سامي جوهر وصدّيق الشقيلي من صديقهما «سليمان عبد الفراج» حفيد البك أن جده كان على علاقة وثيقة بعبد الفضيل وأنه كان يتبادل معه الرسائل وأنه بالتالي يمكن أن يكون مصدراً مهماً للمعلومات المنقبة عن سيرة البطل.
من هذين المصدرين- العجوز عبد الجبار بأبو سعد وعبد الفراج بك بحي الضباط- انفتحت أمام سامي وصديق نوافذ عديدة أطلا من خلالها على الماضي، ماضي عبد الفضيل الماظ وحكاية استشهاده المدوي في قلب الخرطوم بين جدران المستشفى العسكري، على درب رفاقه الميامين علي عبد اللطيف وصحبه الذين قاوموا صلف المستعمرين وعسفهم وغلواءهم دونما هوادة، وعلى ماضي الحركة الوطنية السودانية «المدجنة والكسيحة» بين ولاء للخديوي في مصر وللتاج البريطاني في انجلترا، فقد كان السادة والأعيان ينظرون الى ثوار «اللواء الأبيض» وشيعتهم من المثقفين والأجناد، باعتبارهم كائنات أقل شأناً وأحط قدراً من أن يتصدوا «لقضية البلاد» ومقاومة المستعمر، فهم في نظرهم القاصر أحفاد الأرقاء والسابلة والفقراء، والتحاقهم بسلك الجندية أو تعليمهم وكسبهم الثقافي ليس كافياً لأن يجعل منهم مكافحين ومنافحين و«ناطقين باسم الشعب».. إنها الموروثات الثقافية الغبية لحقب الظلام والتخلف المقيت.
في أكثر من زيارة لحي الضباط- دليلهم فيها حفيده سليمان- التقى سامي وصديق بالبيك «عبد الفراج» الذي يتحدث بلكنة مصرية ويستمع من غرافونه لأغاني الحقيبة يشدو بها كرومة وخليل فرح، وابراهيم عبد الجليل.. ابراهيم الذي عاصرناه- جمال وأنا وزملاؤنا أوان الطلب بمدرسة المؤتمر الثانوية في أواخر سني عمره يتجول شارداً مهدوداً مكدوداً بين سوق الموردة وحدائقها- حكى لهم عبد الفراج تفاصيل كثيرة عن حياة صديقه وخدنه الحميم عبد الفضيل وأطلعهم على رسائله التي كان يبعثها له من تلودي بينما كان هو ضابطاً عاملاً في القيادة الشرقية وحامية كسلا. تلك الرسائل التي عبر فيها «الماظ» عن بالغ ضيقه وشدة حنقه على سلوك الضباط الانجليز تجاه السودانيين وتعاليهم وغلوائهم حتى تجاه الضباط المصريين. وأبلغه عبد الفراج أنه كثيرا ما كان يجنح لتهدئة خاطر عبد الفضيل ويوصيه بالصبر على المكاره.
أما في زيارتهما لأبي سعد و«الفتيحاب» فقد تمكن سامي وصدِّيق بعد جهد ومثابرة من العثور على العجوز «عبد الجبار» في الحي القديم المواجه لشاطئ بحر أبيض حيث كانت دار ود الشقيلي التي درست.. رافقهما الرجل ليقف بهما على الأطلال ويحكي لهما الكثير مما حفظ من وقائع تتصل بثورة عبد الفضيل وصحبه في الخرطوم وردود فعلها الآنية واللاحقة في أبي سعد وما حولها من قرى الفتيحاب، وتصرفات العمدة وود الشقيلي واهل البلد عندما تناهى اليهم خبر الواقعة، وكيف أنه وهو يحكي لهم كل ذلك قد قادهم حتى الغرفة التي كان يقيم بها البطل هناك، والتي لم يعد اليها بعد ذلك اليوم، بل عاد حصانه الأبيض «فضة» وحيداً بعد أن ترجل فارسه الأشم في تلك الرحلة الأخيرة
(3)
عودة (فضة) جواد عبد الفضيل الى (أبو سِعد) وحيداً بعد أن ترجل البطل مرة أخيرة والى الأبد.. عودته خاوي الوفاض يتلفت حائراً في أزقة الحي لعله يعثر على فارسه الذي ربما تركه وسبقه الى الدار لسبب غير مفهوم.. هذه العودة تصلح لأن تصبح أكثر المشاهد تركيزاً وإثارة في عمل درامي- سينمائي أو مسرحي- يقوم على تصويره مخرج مبدع يستقطب به أنظار العالم.. لكن من أسف فليس لدينا سينما أو مسرح يتعهد هكذا إبداع.
من حكايات الجد عبد الجبار، لسامي وصدّيق، أن صبية الحي اعتادوا أن يزفّوا عبد الفضيل كل صباح وهو يعتلي سرج (فضة) متأهباً لعبور جسر النيل الأبيض في طريقه لسكنة (سعيد باشا) في الخرطوم.. كان هؤلاء الصبية أول من إنتبه لعودة فضة بلا فارسها العتيد، فأفضوا بالخبر إلى مسامع (مجذوب الحلاق)، الذي هرع الى دار (ود الشقيلي) ليستوثق، فألفى نساء الحي قد تحلقن حول (حليمة)- خالة عبد الفضيل ومربيته- و(فتحن البكا)، لينطلق من توه لا يلوي على شئ الى بيت العمدة سليمان بينما الشمس تدنو للمغيب.
كان لافتاً صباح ذلك اليوم أن عبد الفضيل قد طاف- على غير العادة- بطرقات الحي ممتطياً جواده الأثير وهو في كامل أناقته العسكرية، وكأنه يسجل في ذاكرة قومه أنه ذاهب ليلقي بقوله الفصل ويقف وقفته الأخيرة.. وقد كان. فعاد (فضة) وحده يدير عنقه الممشوق في كل اتجاه ويمعن النظر ملياً، لكن لا فائدة.. فقد (وقع المقدور).
ينقلنا من ثم- كاتبنا جمال محمد ابراهيم- الى معركة أخرى، معركة كلامية، كان مسرحها (بيت العمدة) طرفاها أحمد (الشقيلي) وبعض حضور مجلس العمدة من (المُسطّحين) الذين توافدوا إثر انتشار الخبر الحزين.. كان موضوع المعركة الكلامية (معنى مقتل عبد الفضيل وصحبه والإجراءات المطلوبة في مواجهة (الموقف)، خصوصاً بعد أن استقبل العمدة سليمان (كبير البصاصين) إدوارد عطية (الشامي) حاملاً رسالة الحاكم العام (هدلستون)، التي يبلغه فيها أن الجنود المتمردين- بما فيهم قائدهم عبد الفضيل- قد لقوا حتفهم جميعاً وقليل منهم تمكن من الفرار، ووعده أن يبذل مساعيه لتسليم الجثامين وطلب المساعدة في القبض على الفارين الذين اتجهوا إلى القرى المحيطة بالفتيحاب، مع تعهد بعدم الحكم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد.
فتح المعركة (مصطفى الجموعي) الذي عبر بطريقة فجة عن عدم اكتراثهم بما جرى وأن (لا دخل لهم بالموضوع ولا دخل للبلدة بالوقوف في وجه الحكومة.. وآذره آخر هو (صالح صاحب البقالة) الذي قال: ما كنت أصدق أن عبد الفضيل يرتكب حماقة كهذه.. هنا ثار الحاج أحمد الشقيلي ورد عليهم بسؤال استنكاري: ما هذا الهراء الذي أسمع؟، وأمسك بأطراف عباءته كأنما يهم بالوقوف، قائلا: ليس لي أن أستمر في الجلوس معكم للإستماع إلى هذا اللغو.. سيدي العمدة.. هل من داع للإساءة لرجال دفعوا حياتهم ثمناً لكرامتنا التي أهدرها الغرباء المستعمرون.. هل نحن هنا لنحاكم أبناءنا ونتراجع للوقوف مع الانجليز.. وكان أكثر من استفز الشقيلي هو قول (الجموعي) هؤلاء الجنود (السودانيون) ليسوا منا.. فالسودانيون في عرف أهل ذلك الزمان كانت (إشارة عنصرية) لذوي البشرة السوداء متحدرة من عصور الرق والسخرة.
ومع ذلك تمكن العمدة سليمان، الذي أبلغ شهود مجلسه بوعود (عطية الشامي)، تمكن بحكمته ودبلوماسيته الحاذقة من احتواء الموقف المتفجر وخاطب الجمع الجالس في ديوانه بقوله: إن الفقيد أبن البلدة .. وتوسل الى الشقيلي لأن يوافقه على إقامة العزاء هنا في بيت العمدة. فكان للدعوة وقعٌ حسن طيّب خاطره، فوافق على اقتراح العمدة لتقدير حكيم هو أن يصبح البطل الشهيد فقيد الجميع وفقيد البلد.
قارئ (رحلة العسكري الأخيرة) لابد سيلحظ، برغم الوقائع والحوادث الكثيفة والمتشابكة التي عالجها الكاتب بسردية- درامية شفيفة، لابد سيلحظ أن الخيط الناظم او موضوع الرواية الرئيسي The Main The هو رؤية الكاتب الناقدة- حد الاستهجان- لواقع الإستعلاء والظلال العنصرية التي طبعت سلوك المجتمع السوداني في تلك اللحظات الفارقة.. ذلك المجتمع الذي كان ما يزال يرزح تحت هجير الهزيمة (الكسرة) في كرري واستعادته عنوة إلى حظيرة الإمبراطورية.
فغير ما دار في ديوان العمدة سليمان، الذي أسلم قياده لتوجيهات (إدوارد عطية) ووعود الحاكم العام، وانهزم أمام نقض تلك العهود بعد إعدام من تم تسليمهم من الجنود الفارين، نجد أن (سامي جوهر) حفيد عبد الفضيل يرد على أعقابه عندما يتقدم ل(الحاجة سارة) طالباً يد محبوبته (نجوى الشقيلي) تحت حجة أنه ليس زوجاً (كفؤاً) لإبنتها قائلة: إن (بينك وبيننا مسافة، بل هوة يصعب ردمها) ولتوجه له نصيحة حارقة في شكل سؤال: لم لا تقترن بواحدة من أسرتكم.. من قبيلتكم؟، فانصرف سامي مقهوراً دون أن يبلغ رفيقه صدِّيق إبن خالتها بما جرى، ولملم عزاله وتوجه جنوباً في (رحلته الأخيرة).
سؤال واحد مهم، لم يسعف الكاتب كل حفره وكدحه المضني في سبيل الحصول على إجابة له، وهو: لماذا حدث ما حدث ووقع ما وقع في ذلك اليوم من نوفمبر 1924، وما هي الوقائع المحددة التي قادت للصدام في ذلك التوقيت تحديداً؟، فلا وثائق ولا تقارير استخبارية ولا شهود تكشف ملابسات الحدث أو مُحفّزاته التي فجرت المواجهة العينية.. فبالرغم من التسليم بأن عبد الفضيل كان عضواً أصيلاً في (جمعية اللواء الأبيض) لكن هذا الانتماء ليس كافياً لتفسير ما جرى.. هل قرر البطل مثلاً أن يقف وقفته الأخيرة تلك كمحاولة (إنقلابية) تطيح بحكم المستعمر أو يستشهد دونها وينحت اسمه في سجل الخالدين؟.. أم كانت الخطوة جزءاً من عمل ومُخطط كبير يشارك فيه آخرون- سودانيون ومصريون- في أكثر من موقع في ذات اللحظة لكنهم خذلوه لحظة التنفيذ؟ ليس هناك إجابة تعبئ هذه (الفجوة) أو الفراغ المعلوماتي.. يبدو أننا سنظل هكذا وعلى هذا الحال حتى إشعار آخر.
تنويه: ورد سهواً في الحلقة الأولى من هذه الإضاءة إسم السفير جمال محمد (ابراهيم) على أنه جمال محمد (أحمد)، وسبب هذا الخلط لا يفوت على فطنة القارئ.. فكلاهما سفير وكلاهما كاتب أديب، ونبهني جمال الى أنه كثيراً ما يقع مثل هذا الارتباك لتشابه الإسمين الأولين، لكنه على كل حال سعيد- كما قال- أن يتم الخلط بينه وبين عميد الدبلوماسية السودانية وشيخ الإبداع أستاذه جمال محمد أحمد، رحمه الله.. وآخر دعوانا اللهم أصرف عنا دهمات "الزهايمر" واحفظ لنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا.. آمين.
نقلا عن صحيفة "آخر لحظة" اليومية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.