جعرين، يبدو، أنك قد جئت إلى الدنيا، وأنت مختلف عنا. ( من يومو، براهو، ما بيشبهم ) كما تقول السرف، وهي تقصد أنك لا تشبهنا، نحن الذين حضرت هي قدومنا إلى الدنيا، بملازمتها لأمهاتنا عند الولادة، واستقبالنا فوق يديها. منذ البداية تباينت بعض تفاصيلك وطبعك عنا، وظللت كذلك. ففيما حكت عنك السرف ، بعد إلحاح وزمن طويل، ( أنك حين نزلت من بطن أمك بين يديها، أزالت ماعلق بك من سوائل، وظللت أنت ساكنا صامتا، مفتر الثغر، وصريت عينك اليسرى)، فزعت، فتعوذت وبسملت. ولم تصرخ أنت، يا جعرين، تلك الصرخة التي تعودت عليها السرف من المواليد، و في كل الولادات الجديدة). فاستعانت على أمرك بما صعد إلى لسانها من تحصين. أهلنا ، يحرصون أن تحضر وتشرف السرف على كل الولادات، في ديارنا الممتدة من الساقية التاسعة وحتى الساقية الثالثة والأربعون، أو كما يقولون من ساقية ود طه إلى ساقية ود السهوة. منطقة قد يزيد عرضها علي التسعة كيلومترات، مجمعة علي التفاؤل بالسرف والقبول بالاعتماد على بصارتها وصبرها، حين يداهم الطلق نسائنا، وتتسارع الخطى ، وتعلو الأصوات، وتكثر الدخلة والمرقة. هي المبروكة بيننا. تأتي السرف فتهدأ الخواطر، وترفرف طمأنينة فوق المكان . ( وترقد شعرة الأمات) كما قالت بتول بت شيخنا. سمت السرف أسم الله، لتقاوم موجة إشفاق وخوف إنتابتها خشية منك وعليك ياجعرين. زاد ثغرك إفترارا ياجعرين، فحمدت وشكرت ربها، أطمأنت عليك، وحضنت أمك وجدتك مهنئة بقدومك، و وقائلة لأمك، ( يا بنيتي بركة ،الأتحليتي بالسلامة، ولد ..ربنا يغطي عليه ويحفظه، لاصرخ لا رفس! ) وألحت على الأم والجدة ، أن تكثرا من الرقي والتمائم، خائفة عليك من مما رأته فيك ومنك ومن العين . سكنت ياجعرين خاطرها، بخوف منك وعليك، شِفقة وتمني بالفال الحسن، فآثرت السرف الصمت. وكتمت ما رأته اثناء ولادتك زمانا. كلنا نحكي للسرف، وكلنا نستجيب ، أو نسعى للاستجابة عندما تطلب منا شيئا أو أمرا. تأخذ هي من هذا وتعطي ذاك، وتصلح ذات البين بيننا. فالسرف، هي محض محبة مشت بيننا، مودة فاضت منها، فباتت نورا يشع في ديارنا وهي رحمة، ونبع الإلفة بيننا. لا أظن أن واحدا منا، لا يسرى فيه ذلك الشعور بالأمان العميق، ويحس أن السكون قد أحاط بروحه، جمة وشم عافية، حين تحضنه السرف في سلامها وسؤالها عن الحال. يمتز سلامها منا المخاوف والسام، كالغوص في النهر بعد يوم عمل مضني شاق، كما قال سليمان ود الحاجي، ( سلام زي البرود في البحر، بعد مقيل النوريق) السرف تعرف ياجعرين أن أباك، ود فضل الساتر، يلد، وأمه فضل الساتر تربي، فصارت قريبة منها، لا تأتيها إلا وهي تحمل شيئا تخبئه تحت ثوبها. أسمتك جدتك وهي ، فضل الله، أتت السرف من شيخها بتمائم علقتها بعنقك، وأخذت ممن أخذت ملابسا، جديدة وبالية، ألبستك إياها. ظلت السرف ترقبك وفى داخلها يمور حب وتمنى لك وخوف من الاختلاف عن الآخرين، الذي ولد معك. سكونك وإفترار ثغرك الذي نما الى إبتسام مشرق يضئ الجبين. مهدك المتواضع يظل نظيفا ومرتبا، حال فريد، لم يره من قبل أهلنا من ساقية ود طه الى ساقية ود السهوة. يرون عنك، أنت ياجعرين منذ ان زحفت على صلبك، ثم حبوت على أربع، و مشيت على إثنين، مشغول بنظافة المكان الذي حولك، تنظيمه و إماطة الأذى من حولك. يلعب أترابك راتعين و، وأنت في همة تزيل الأشواك وقطع الزجاج من دروب المارة ومن حول أترابك، خشية عليهم من طعن الشوك وجروح يسببها حطام الزجاج وفتاته. مرتديا سروالك أحيانا.وبدونه أحيانا كثيرة، حين غسله وعرضه للشمس حتى يجف، ومثلك كثيرين ، كما ولدتكم أمهاتكم. وتظل أنت وحدك لابسا ، همك بنظافة ماحولك وسلامته . فقالت بقورة، ( الشويفع دا مما قام ، بس شايل هم نظافة المحل ولم الشوك والساسو، تقول جعران) فذهب أسم فضل الله، والتصق بك لقب الجعران. وبقورة، إمرأة تزوجت، ظلت عقيمة وترملت، دائما تردد ( أنا يقراني، أي بقراني ) وتعلن أمانيها في كل مكان وحين .أن يكون لها من البنين مثل فلانة وعلانة ، أن تسكن وتأكل وتلبس مثل بنت ناس فلان، فصار التمني لمثل حال الأخريات لقبا لها. قد تكون هزتها رقة حالها، فغدا في طبعها شئ من سذاجة ورعونة،وضعف استحياء. يعطف ويتعاطف معها بعضهم، وآخرون يقولون أن فيها حسدا لا تخفيه ( وكمان عينها حارة) فتوجست السرف خيفة،مما قالت و نعتتك به بقورة يا جعرين وتحول الجعران بين الناس الي جعرين ، مسقطين أسمك تحمل هما بالآخرين ، ترجموا دهشتهم بك لقبا لك وعنك ، تشبيها، فكنت لا زلت صبيا حين ألتصق بك لقب(جعرين).و وبات جلهم لا يعرف لك إسما غيره. ذاك تصغيرا من الجعران، تلك الحشرة السوداء التي هي في حالة جمع دائم للروث والبقايا وتكويرها ، ثم دفعها للتخزين بجحرها كغذاء حين يندر ويعز الغذاء. مؤؤنة وتامينا لصغارها من خوف وجوع. لقد قسى عليك أهلنا، حتى اسم الجعران كاملا ضنوا به عليك ، ( وشافوا كتير عليك فصيروك، جعرين) الجعران مثلك ظلموه، قالوا أن جده وإجتهاده في جمع القوت، ما هو إلا شرط أو جزاء علي حماقة أقدم عليها ، بطلبه الزواج من القمرا، والقمرا ناتج تأنيثهم للقمر، كمقدمة لأشعار حول حب مكبوت وأماني جلها مات في طي الكتمان. أحلام تصعد منهم، وتظل معلقة مثل الغبار ، وحين تهبط، تضطرب الرؤيا، فاذا بالقوم يتقهقرون. ( والحال يبقي مايل.) إشترطت القمرا أن يقوم الجعران بنظافة الأرض ثم يأتي لتتزوجه، ونظافة الدنيا ، إن لم تكن مستحيلة، كما تري يا جعرين، فطبيعتها سرمدية وزواج الجعران بالقمرا لازال مرهون بها، وسيظل مؤجلا للإستحالة. فلا الجعران ولا الجعرين نالا عدلا او إنصافا. فيما يذكر أهلنا، ان الأنجليز حين بدأوا في زراعة القطن بالشمالية و أرادوا التوسع في زراعته قبل إنشائهم لمشروع الجزيرة، أسسوا مشروعات حكومية في عدة قرى بالشمالية، ومن بينها قريتنا، إعاشة وإنتاجا لمصانعهم في بلدهم البعيد، تحدثوا لأهلنا عن المحاصيل ثم البساتين وبعد البحث والمسح قرروا أين يمكن أن تشيد وتنصب الماكينات ورافعات المياه وتبدأ القنوات. بدأ تشييد الموقع فتنبه أو صدق أهلنا، بعد المعايشة ورأي العين، ما قد يأتي به الأمر من عوائد وفوائد، فبدأت أراء تطفو ، أن كل أهل ساقية يريدون أن تكون الإنشاءات لديهم وبساقيتهم بعد أن ضعف خوف كان بينهم، من نزع ارض منهم ووجود موظف حكومي بينهم قد يكثر من الأمر والنهي، ويجر لأمور أخري يأتي بها الغريب. حين تأكد الناس أن الذي رجح اختيار ذاك الموقع، وتفضيله على سواه، هو نظافة تلك السافية التي كان يسكنها جعرين، إذ تعجب كبير الخواجات وقال، (هذه ساقية مؤهلة أن تقود، وقد يسهل العمل فيها ويطيب العيش) ولم يقل كبير منا أو صغير أن ذاك حال اصبغه عليهم روح جعرين، وحمل كل واحد منهم زهوا داخل نفسه، بساقيته التي تميزت، وصعد بعضا منهم بفضلك وظللت أنت يا جعرين في دأبك نظافة وسلامة المكان وساكنيه. تبع قيام المشروع ظهور وظائف أخرى ، خفراء على القنوات يرافبونها تنظيما للري بين الناس. أناس من بيننا صارت لهم أجور شهرية لأعمال تأخذ نهارهم مكوثا في مباني المشروع. وآخرين قالوا أنهم عمال صحة البيئة،ومزارعين ببستان الحكومة للإرشاد الزراعي وتوفير الشتول .كلهم صاروا فئة جديدة ، أبيضت ملابسها وخصصت لها الأماكن في مناسبات الأهل. أنت يا جعرين لم تطلب، ولم يدعك أحد لتكون واحدا من بين الجالسين، علي مائدة المشروع،. لم تحفل ولم يتغير همك بنظافة وترتيب وسلامة ماحولك. غطيت ثغراتهم و سترت تقصيرهم، ولم تقل أو تطلب شيئا لكن الآخرين ، لهم طبع آخر، خوفا وطمعا، فقالوا ، (أنك تتدخل وتفسد عليهم أعمالهم!) حين أدركوا أن الخواجة عند قدومه من مروي في زيارته الشهرية للمشروع، ولأكثر من مرة، قد لاحظ ما تقوم به ياجعرين. أستغرقك الاستغراب، ثم استحال حزنا عميقا، أن شعرت أنهم أخذوا منك روحك! ضاقت بك البلد، ثم الدنيا فاعتزلت، ولزمت دارك. لم تعد السرف قادرة على حضن خوفها منك وعليك، فذهب صوتها وانطفأ نور بصرها. ( هضلم) البرسيم، ولم يعد مفرهدا يضحك، ولا حبة البلح بذات حجم الدعول، وغلب على حصادنا الصيص والكرموش. أفقنا ورثينا الحال، نغني، ( يا جعرين البابور يطير وين سرفنا، ومالا موية المترة والبير شن لقينا، غير حالنا الكل يوم يميل)