نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    بالفيديو.. شاهد أول ظهور لنجم السوشيال ميديا الراحل جوان الخطيب على مواقع التواصل قبل 10 سنوات.. كان من عشاق الفنان أحمد الصادق وظهر وهو يغني بصوت جميل    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    هل انتهت المسألة الشرقية؟    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    لأهلي في الجزيرة    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول يوميات نيفاشا وشكوك البراءة .. بقلم: د. علي الحاج محمد
نشر في سودانيل يوم 05 - 06 - 2015

أرفق التعليق الذي وردني من قبل الدكتور علي الحاج محمد وحواره بصحيفة الإنتباهة في فترة سابقة والذي أشار فيه إلى غياب محاضر لمفاوضات نيفاشا، كما أبدى الدكتور علي الحاج تقديره لمجهودات السفيرين عبدالرحمن ضرار وخالد موسى دفع الله في الإسهام في هذا الموضوع، ونضم صوتنا إلى صوته كما أكدنا في مقالنا السابق خاصة في ظل غياب المعلومة الرسمية وصيام أعضاء فريق المفاوضات عن الكتابة أو التعليق أو الكتابة الصحفية ونكرر رجاءنا وأمنياتنا أن يتمكن فريق البحث الأكاديمي التابع لجامعة الخرطوم والذي يضطلع بمهمة توثيق المفاوضات أن يتمكن من مهمته بحيث يصبح هناك مراجع مهمة للأجيال القادمة فلا زلنا نطمع أن نعود يوما بلدا واحدا في فيدرالية أو كونفيدرالية او كيفما يتفق
ونشكر للدكتور علي الحاج استجابته الكريمة لمناشدتنا له بالإدلاء رأئه حول الموضوع المهم
صديق محمد عثمان
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

بسم الله الرحمن الرحيم

حول يوميات نيفاشا وشكوك البراءة .. بقلم: د. علي الحاج محمد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الاخ صديق تحية طيبة
تابعت ملاحظاتكم علي ما كتبه الاخوة الدبلوماسيان في سياق رد خجول عن موضوع أساسي ومنهجي يتعلق بما سمي باتفاقية السلام الشامل اذ ذكرت في لقاء صحفي عابر ضمن قضايا وأسئلة طرحها الاستاذ الصادق الرزيقي مدير تحرير الانتباهة الذي زارني بمقر إقامتي بمدينة بون مشكورا مع اخرين معزيا في وفاة أختي الكبرى ( أمي ) ام النعيم رحمها الله
علي هامش العزاء كانت أسئلة الاستاذ وربما كانت هي المرة الاولي التي أتاحت لي الانتباهة او انتبهت لبعض القضايا وكنت أشك في نشر ما قلت واشترطت علي الاستاذ كامل النشر او لا نشر ورغم انه أكد علي كامل النشر الا ان الشك ذهب عندما تم النشر وفي اربع حلقات وهو مشكور
القضية التي اشرت اليها " عدم وجود وقائع مكتوبة لنيفاشا بالنسبة لي كانت مفاجأة " خاصة وان امر الجنوب ومنذ مؤتمر جوبا يونيو 1947 مرورا بقرار البرلمان في 19 ديسمبر1955 ومؤتمر المائدة المستديرة..... كان كل ذلك موثقا
بل ان لقاءات أبوجا الاولي مايو 1992 ويونيو 1993 كلها كانت موثقة ووقع عليها جميع الأطراف بشهادة الدولة الراعية ( جمهورية نيجيرية الاتحادية ) للعلم أبوجا الاولي كانت في 19 مجلد و الثانية في 21مجلدا وسلمت لكل فرد من أفراد الوفدين
لم اطرح هذا الامر من فراغ فهناك أسئلة كنت احاول وجود الإجابة عليها من خلال حيثيات ووقائع الاجتماعات مثلا ماذا تعني المشورة الشعبية؟وكيف وردت هذه العبارة وفي اي سياق؟؟ معادلة قسمة البترول كيف تم التوصل اليها؟؟ بل كيف تم التوصل. الي انه في حالة الانفصال تذهب الخمسين ٪ كلها الي الجنوب وبدون تدابير اقتصادية؟؟ ماذا تعني الوحدة الجاذبة من الذي يصنع هذه الوحدة الجاذبة وما هي ممسكاتها بل أين موقف الطرفين الحكومة والحركة من الوحدة الجاذبة
المهم هذه الأسئلة وغيرها هي التي جعلتني ابحث عن الوقائع فلم اجدها
وعندما اثرت هذه المسائل وكانت بجريدة الانتباهة في 3 يونيو 2012 كنت أتوقع ردا من احد "صناع الاتفاق" وقد انتظرت طويلا وحتي اليوم لم يفتح الله لأحد بالرد؟؟
أراك الاخ صديق اشرت الي لا دلي بدلوي في ما طرحه الاخوة الدبلوماسيون ولا احسب ان لي دلوا لأدلي به دون ما ذكرت في لقاء الانتباهة وإنني اذ اقدر دور الاخوة الدبلوماسيين واجتهادهم في تحسين الصورة مهما كان الامر وهذه مهنية عالية اثمنها في إطارها ولكن أسئلتي كانت موجهة لصناع القرار وليس لمنفذيه
واعترف أني لم اقرأ ما كتبه الاستاذ ضرار ولكن بحسب ما ذكر تم فانه قد أشار الي اللقاءات الداخلية للوفد المفاوض ....الخ وأكيد هذه ليست المحاضر او الوقائع التي قصدتها
الاستاذ خالد التقيته عدة مرات وبعيدا عن الدبلوماسية وهو علي علم بكثير مما ذكرت
أصدقك القول الاخ صديق كل الذي كتبت وذكرت كانت في فترة سابقة لقراءة مذكرات "هيلداجونسون "
بعد قراءة النصين الانجليزي والعربي وجدت نفسي ممتنا لها أيما امتنان -مهما كان رأيي فيها - لانه في غياب الوقائع وسكوت الذين صنعوا القرار يصبح ما تقوله او تكتبه هو المرجع شينا ام أبينا
الاخ صديق
بعد قراءة متعجلة لتقرير ابوسانجو -الريس النيجيري الأسبق - الخاص بما جري في جنوب السودان والإشارة الي نيفاشا وما جري ودور الترويكا ...الخ وحتي الان وما كتبته هيلداجونسون نفسها عن الجنوب وهي كانت ممثلة للأمم المتحدة عندما اندلعت الأحداث فلم تفعل شيا بل تركت النار مشتعلة بعد قراءة هاتين الوثيقتين كتبت لاحد الذين وقعوا علي اتفاقية الخرطوم للسلام ابريل 1997 مشيدا بموقفهم وتوقيعهم للاتفاق من الداخل ولسوء الحظ هزمنا اهل الداخل.......الخ
ورسالتي اليوم الاخ صديق وفي اطار الحوار وما ادراك ما الحوار فان قناعتي بحوار الداخل ( مع الضمانات التي يطلبها حملة السلاح ) ربما كان هو الخيار الذي علي الجميع التنادي له
حضور وشهادة ومراقبة الآخرين لابد من لا من اجل الشفافية وحسب وانما للتوافق علي القرار وآليات تنفيذه ومتابعته. ...الخ
مرة اخري يأتي هذا بناء علي طلبكم
مرفق لكم ما نشره الاستاذ الصادق الرزيقي بجريدة الانتباه في 3يونيو 2012
د علي الحاج
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


مع علي الحاج في مهجره... «الحلقة الأولى»


التفاصيل
نشر بتاريخ الأحد, 03 حزيران/يونيو 2012 07:14

حاوره في ألمانيا : رئيس التحرير
في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته، الدكتور علي الحاج محمد، نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والقيادي الإسلامي المعروف، الذي هاجر لألمانيا عقب الانشقاق الكبير للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني قبل اثنتي عشرة سنة واختارها منفاه لخريف عمره السياسي ...
استقبلنا د. علي الحاج بحرارة عند مدخل العمارة في هذه الضاحية الهادئة التي كانت مقر سكن الدبلوماسيين الأجانب أيام ألمانيا الغربية قبل عودة العاصمة لبرلين عقب توحيد الألمانيتين.
كان الرجل بشوشاً للغاية، مرت سنوات طويلة لم أره فيها ، كان يرتدي بنطالاً أزرق اللون، وقميصاً بخطوط طولية بيضاء على زرقاء، غزا الشيب مفرقيه، كأنه غبار الحياة ... لكن ابتسامته لم تفارقه رغم أنه كان يتلقى منّا العزاء في وفاة شقيقته...
دلفنا داخل الشقة البسيطة الأثاث، في صالون الاستقبال الرئيس، توجد مكتبة ضخمة على اليسار، فيها أمهات الكتب الدينية وعدة مصاحف، وكتب وأوراق خاصة وملفات كثيرة، وضعت على الأرفف بعناية فائقة، إلى اليمين ونحن نتجه نحو مقاعد الصالة، يوجد شبه ممر جانبي صغير يستخدمه مكتباً للكتابة والقراءة ومراجعة أوراقه، وعلى طاولة صغيرة أيضاً توجد نظارة قراءة وبعض متعلقات خاصة.. أمام مقاعد الجلوس طاولة كبيرة عليها أواني وأباريق الشاي والقهوة وسلة فاكهة، وامتلأ المكان بضحكات الرجل المعروفة وتعليقاته الفورية وأسئلته الملحاحة عن الأوضاع في البلاد والأهل والمعارف والأصدقاء.. وهو حاضر الذهن والبديهة متقد الذاكرة.. رغم أن بريقاً غامضاً في عينيه يمعن في التأكيد أنه يشعر بحنين جارف لبلده وناسه.
كل مداخل الحديث كانت سهلة للغاية.. وكل شيء يفتح ألف باب للحوار، تركت الأمور تسير بتلقائيتها وتداعيها الطبيعي قبل أن نشرع في الحوار... تناولنا معه مختلف قضايا السياسة ما سبق منها وراهنها الحالي من العلاقة بين السودان وجنوب السودان ودارفور ومستقبل الأوضاع في البلاد وأسباب غيابه الطويل وموانع عودته...
ثمة ملاحظات سريعة على علي الحاج في مهجره... حفظ القرآن الكريم، وتعمق في دراساته حدثنا طويلاً عن القراءات والروايات المختلفة ومقارناتها من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر وغرب السودان وحفظه لأجزاء من القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الربيع بنيالا رحمه الله، وأبدى ملاحظات على القراءات في دارفور وكيف حفظ الناس القرآن في الصدور، وعرفوا رسم المصحف وهم لم يروا مصحفاً مطبوعاً إلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي في طبعة الملك فاروق، وقال آراء كثيرة في هذا الجانب ويحتفظ بكتب ومصاحف بالروايات والقراءات المعروفة والمخطوطات النادرة.
زادت قناعاته لدرجة لا يوصف حدها، بأهمية الحريات العامة والثقافة الليبرالية والديمقراطية، ويبدو أن تجربته الطويلة في الغرب، جعلته ينظر وفق مراجعات فكرية وسياسية للسودان منذ عهد الحكم الوطني حتى اليوم عبر منظار نقدي صارم، أفاده في استخلاصات ختامية مفادها أن الحرية لا غنىً عنها في التطور السياسي والحكم الراشد.
من منصة خارجية ينظر للأوضاع في السودان ويجمع معلومات من مصادر شتى، مما أتاح له تقييم ما يجري بأدوات تحليله الخاصة ويصل لما يراه صواباً حين يبدي رأياً.
يكتب في هذه الفترة مذكراته الشخصية عن أحداث عاصرها، وأخرى شارك فيها وتفاعل بها، وأوضاع كان في لبِّ صناعتها، وتحولات وتطورات كانت له يد فيها ورموز وشخوص عامة عاش معها ورافقها وعمل معها وراقبها عن كثب.. لذلك تجده حاضر المعلومة لا يتحدث إلا بتواريخ وتوثيقات دقيقة يذكر فيها الساعة واليوم والشهر والسنة، وكأن ما عاشه وهو يتخطى عتبات السبعين.. كتاب مفتوح أمامه.
قلت له ونحن نشرع في الحوار معه:
من أين نبدأ؟ القضايا بعدد الرمل، والمشهد المفتوح من أوله لآخره، بكل أستاره وغيومه وسطوعه ونجومه وتعرُّجاته، يجعل من فسيفساء الحديث تتناثر في كل اتجاه..
رد عليّ رداً مفاجئاً بسؤال:
قبل الحديث عن كل شيء لابد لي من الحديث عن صحيفتكم التي ساهمت كما أرى في ما حلّ بالسودان وكثير من الناس يرون أنها قادت خطاً عنصرياً.. فهل كنتم ضد الجنوبيين كعنصر؟
قلت له:
نحن لم نقدِّم طرحاً عنصرياً قط، نحن ضد المشروع السياسي للحركة الشعبية وقلنا آراءً حول نيفاشا وطالبنا بسلام عادل وإعطاء الشماليين حق تقرير المصير مثل الجنوبيين ودعونا لفصل الشمال عن الجنوب، وليس الجنوب عن الشمال.
«قال بجدية»:
في تاريخ الشعوب والأمم هناك قضايا حساسة وخطيرة في مقدمتها أن أي طرح من هذا النوع يفسّر على أنه عرق ضد عرق أو جنس لا يؤخذ إلا بالصورة التي رآها الناس له، ولدي معرفة كاملة بالصحيفة ومؤسسيها مثل صلاح أبو النجا وعبد الوهاب عثمان والطيب مصطفى وغيرهم لكنني أنظر لما أحدثته في واقع ومستقبل السودان... هي ومنبر السلام العادل...
قلت له:
لندع الصحيفة والمنبر فقد قارب الحديث عنهما من نقاط رئيسة في مفتتح حوارنا، وهي قضية السلام في السودان التي كانت تبدأ بالجنوب وتنتهي عنده، وأنت مخزن أسرار في هذا الملف، ولنعطِ صورة عامة ما هي قصة ومشروع السلام في السودان في عهد الإنقاذ ومراحلها وقبلها ومآلاته؟؟
« اعتدل في جلسته... ونظر أمامه كأنه يحدق في أفق بعيد...»
هذه قصة طويلة... طويلة، ومن العسير أن يكون هناك تقييم شامل، ومن المفارقة الكبيرة أن مشروع السلام كانت توجد فيه أدبيات ومرجعيات للحركة الإسلامية، كانت هناك خطة مكتوبة للحركة الإسلامية منذ العام 1982م قبل تكوين الحركة الشعبية، وكُتبت هذه الخطة...
من كتب هذه الخطة؟
كتبها عدد من مفكري الحركة الإسلامية ونُوقشت في منزل علي خضر كمبال في مدينة النيل في هيئة الشورى في زمن نميري وحضرها عدد من قيادات الحركة الإسلامية العالمية مثل مصطفى مشهور وعدنان سعد الدين وقيادات التنظيم العالمي...
ماذا تحمل الخطة من محاور آنذاك؟
فيها كل شيء عن الجنوب وماذا نريد منه وكيفية كسبه لصالح الإسلام وتنميته وعلاقاتنا به بإنسانه، ووضعنا فيها جملة من مستهدفات إستراتيجية حول الجنوب؟ ما واجبنا وكيف نحل قضيته ونكسبه؟... وسرنا على هدي هذه الخطة قبل الإنقاذ... كانت لدينا خطة ومنهج للتعامل مع قضية الجنوب فيها مرتكزات أساسية، وأي شخص يعتقد أنه لم تكن هناك خطة فهو لا يعرف شيئاً.
وبعد الإنقاذ؟
في بدايات الإنقاذ كنت أنا مسؤولاً عن هذا الملف قبل الإنقاذ وبعدها، كنا نمضي في ذات الخطة وصممنا مشروع السلام على هدي مرجعيات الحركة الإسلامية وأدبياتها وسرنا في هذا الدرب وبدأنا بالفعل مفاوضاتنا مع الطرف الآخر في أديس وكينيا وأوغندا وأبوجا، وكانت هناك أبوجا الأولى والثانية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكل شيء موجود وموثق رغم وجود خلافات في وجهات النظر من هنا وهناك داخل التنظيم، حتى جاء العام 1994 الذي حدثت فيه تحولات ومسارات أخرى غيّرت كل شيء حتى في مسار الإنقاذ نفسها بالنسبة إليّ.
ماذا حدث في هذا العام بالتحديد؟
حدث خلاف كبير في هذا العام حول السلام نفسه، كان هناك من لا يرغب في السلام ويعتقد أن قضية الجنوب تحل عبر الحل العسكري فقط... والغريب أن المجموعة التي صنعت نيفاشا لاحقاً هي ذات المجموعة التي كانت لا ترغب في السلام آنذاك.
ما الدليل على هذا القول؟
أقول لك.. في يوم الأحد 31يوليو 1994، بعد الانتهاء من اجتماع لمجلس الوزراء وكنت عائداً من نيروبي بعد مشاركة في اجتماعات للإيقاد، بعد الجلسة استوقفني الأخ علي عثمان وهو وقتها نائب الأمين العام للحركة الإسلامية ووزير التخطيط الاجتماعي آنئذ، وقال لي «يا علي.. الجماعة منتظرنك في مكتب عوض الجاز..» وفهمت منه أن إخواننا التنفيذيين المسؤول عنهم الأخ عوض الجاز وهو مسؤول الأجهزة العسكرية والأمنية في التنظيم ووزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء، يريدون تنويراً عن مسار السلام والمفاوضات وكنّا في تلك الأثناء نتفاوض عن وقف لإطلاق النار بمبادرة من قرنق، والقوات المسلحة كانت متقدمة ومنتصرة ولم يتبقَ لها إلا نمولي فقط.
وذهبت للاجتماع وكنت أتوقع أن يكون الأخ علي عثمان حاضرا هو أيضاً الاجتماع.. لكنه لم يكن موجوداً بل وجدت كل قيادات الدولة الأمنية والعسكرية والشرطة والقيادات التنظيمية والسياسية في هذا الاجتماع ولم يغب عن قيادة الدولة سوى الرئيس والشهيد الزبير رحمه الله وعلي عثمان ومحمد الأمين خليفة وشيخ حسن، المنظر كان فيه حشد للناس وكثير منهم جلوساً على الأرض لعدم سعة المكتب وعوض الجاز كان مترئساً الاجتماع.
مقاطعة: ما الغرض من هذا الاجتماع؟
كنت أعتقد أنه تنوير عادي.. لكن وجدت نفسي أدافع عن مقترح وقف إطلاق النار الذي طُرح مرتين، مرة بعد اللقاء مع قرنق في عنتبي فبراير 1993 وكان معي الشهيدان أبو قصيصة وموسى علي سليمان وقدم قرنق مقترحاً لوقف إطلاق النار، وجيشنا كان في «أشوا..» يقترب من نمولي، والمرة الثانية التي نحن بصددها في هذا الاجتماع، مقترح من الرئيس البشير نفسه، طرحه أمام مليسا ويلز مندوبة الرئيس الأمريكي لشؤون السودان، التي زارت السودان قبل أن تذهب لحضور قمة الإيقاد في ذلك الوقت واجتمعت بالرئيس وطرح لها في اللقاء المقترح باستعداد الحكومة لوقف إطلاق النار.
وكانت الفكرة التي تحدث بها في الاجتماع بمكتب عوض الجاز بمجلس الوزراء، أننا بعد الموافقة على وقف إطلاق النار يجب أن ندخل في اتفاقيات سلام مع الفصائل الجنوبية الأخرى لأن قرنق لن يأتي بسرعة ويجب أن نحقق الأمن والاستقرار في الجنوب مع التفوق العسكري الذي كان لصالحنا.. وقلت لهم الحرب انتهت... لم يبقَ لنا غير نمولي.. لكن فوجئت في الاجتماع أن إخواننا وبينهم عوض الجاز والقيادات العسكرية والشهيد إبراهيم شمس الدين رحمه الله رفضوا الفكرة وقالوا إن الحرب يجب أن تستمر ولا جدوى من السلام.
ماذا فعلت خلال وبعد الاجتماع؟
شعرت أنني تحولت لمدافع عن فكرة وتوجه وسياسة كان متقفاً عليها.. وأن الإخوة في الاجتماع ضد ما نقوم به من جهد من أجل السلام، أنا ومن معي ومن ذهب شهيداً في تلك الفترة.. وقالوا لي في الاجتماع: كيف تطرح وقف إطلاق النار؟ ولماذا؟ وأثاروا قضايا مختلفة كل مؤداها أن خطة السلام غير مقبولة بالرغم من أنها كانت خطة وسياسة متفقاً عليها..
متفق عليها مع من؟
بالطبع كل قيادة الدولة والتنظيم، فمشروع وقف إطلاق النار في ذلك الوقت والتمهيد للسلام كنا متفقين عليه الرئيس وشيخ حسن وعلي عثمان وغازي وبقية الإخوة ذوي الصلة بهذا الملف.
ماذا حدث بعد ذلك؟
خرجت من الاجتماع بأن هذه المجموعة التي تشكل مركز قوى ترفض توجهات السلام، وسألت بعدها الرئيس لأنه كان متفقاً معي حول خطوات وترتيبات إدارة ملف السلام ومسألة وقف إطلاق النار.. لكنه قال لي «هؤلاء إخوانك الأفضل أن تقنعهم أنت لأنني لو تدخلت وهم عسكريون سينصاعون دون قناعة وأنا رئيسهم، فالأفضل هو كسبهم لصالح الموقف الراهن بالإقناع والحوار» وسألت علي عثمان أيضاً بعد ذلك، لكني وجدت أن هناك صورة بدأت تتضح لفريقين داخل الإنقاذ، فريق مع السلام وفريق ضده، أو على الأقل ضد الصورة التي كنّا نديره بها، وبدت لي المجموعة التي فيها العسكريون أكثر قوة وتأثيراً ولها فيتو على مجمل القضية.
على ماذا كنت تبني رؤيتك وتحركاتك في ملف السلام ألم تكن هناك موجهات مجمع عليها؟
توجد موجهات ومرجعيات منها خطة الحركة الإسلامية وما استجد من وقائع وتكيتيكات جديدة وفق الظرف المتطور ومراحل القضية، وكانت لدينا رؤية.. و كنت مقتنعاً شخصياً بأن وقف إطلاق النار في ذلك الوقت يمهد سلام يقوم على أسس صحيحة وتسوية عادلة، لأن الحرب في ذلك الوقت عملياً قد وضعت أوزارها، وكانت حركة التمرد محاصرة في الحدود مع يوغندا في جيب محدود عند نمولي، ولم تكن لنمولي أية أهمية إستراتيجية سوى رمزيتها كآخر نقطة حدودية للسودان جنوباً، وكان يصعب دخولها إلا بالهجوم عليها بالالتفاف عبر الأراضي اليوغندية كما قالت الآراء العسكرية المحضة.
لماذا تم رفض المقترح آنذاك الذي يمهد لتسوية من ذلك التاريخ؟
للأسف كان الإخوة معبئين ضد أي مسعى من هذا النوع، وكانوا يريدون فقط مواصلة القتال، وكانت هناك آراء أخرى بعدم ذهاب عدد كبير من الناس من الوفود للإيقاد واجتماعاتها وأشياء من هذا القبيل.
ماذا فعلت بعد ذلك؟
بالنسبة لي كان هذ الاجتماع، أمراً فاصلاً، وشعرت أن كل هؤلاء لا يريدون ما نعمله، وأن قصة السلام لا معنى لها ، والناس تريد الحرب من منطق أننا يجب أن نحقق أهدافاً محددة مثل موضوع نمولي، وبدأت أتساءل مع نفسي: ما الحاجة ليكون هناك مسؤول سلام من الأساس؟.. وحاولت من ذلك اليوم إنهاء علاقتي بملف السلام تماماً لأن ما كنت أقوم به كان مرفوضاً.
هل انتهت علاقتك بالملف بهذه الطريقة فقط ولهذا السبب؟
تقريباً.. لأنني بعد هذا الاجتماع حضرت في مساء نفس ذلك اليوم اجتماعاً آخر كان فيه الرئيس وشيخ حسن وعلي عثمان، وكنت قد أبلغت شيخ حسن بما تم في اجتماع مكتب عوض الجاز، وسألني عن الصفة التي تحدث بها هؤلاء الإخوة معي، وقلت له إنني لست رجل بروتكولات ورسميات، فقط طلب مني نائب الأمين العام في الحركة الإسلامية أن اجتمع بهم وفعلت.. وأنا مسؤول الملف.. وقلت له إن هؤلاء الإخوة لا يريدون السلام.
بماذا رد شيخ حسن؟
لم يعلق تعليقاً حاسماً وكان واضحاً أن هؤلاء الإخوة قد سيطروا على كل الأمور.
كيف تركت الملف؟
تركت الملف تماماً ولم أتدخل منذ ذلك التاريخ، وخلال هذه الفترة من 31/7/1994م حتى أبريل 1996 تفرغت للحكم الاتحادي، ولم أتدخل إلا بعد التفاوض مع رياك مشار «مجموعة الناصر» وكان محمد الأمين خليفة وغازي صلاح الدين وأحمد إبراهيم الطاهر وبقية الإخوة يواصلون مع الإيقاد في مشروع السلام، وكثيراً ما كان يطلب مني المشاركة والذهاب مع الوفود لكنني أرفض، وكان هناك لقاء تم تحديده مع رياك مشار في الناصر بالجنوب، فطلب مني المرحوم مبارك قسم الله أن أذهب فرفضت، واقترحت عليه أن يذهب الشهيد الزبير رحمه الله وقد تم بالفعل، ولم أشارك في عمل آخر متعلق بالسلام إلا عند زيارة سرية لرياك مشار ومجموعته للخرطوم في أبريل 1996م وطلب مني الأخ علي عثمان أن أحضر اجتماعاً في نادي الضباط مع وفد حركة مشار، وقبلت بشرط أن يحضر هو هذا الاجتماع وقد كان... وقلت له قبل هذا الاجتماع إنني لست معنياً وحدي بملف الجنوب، ولا هو ملكي فإذا كانت كل جهودي مرفوضة، فلماذا أشارك في عمل كنت قدمته من قبل ورفض؟ وبعد ذلك سارت الأمور دون أن أكون طرفاً أصيلاً فيها.
أين خطة الحركة الإسلامية وتدابير الحكومة من أجل السلام؟
في هذه الأثناء كانت ملامح المفاصلة قد بدأت تتضح، مع قضايا أخرى تتعلق بالسلطة وتشابكاتها وظهرت المجموعتان المتجاذبتان.. وحدثت حالة من السيولة ضاعت فيها الالتزامات بخطة الحركة الإسلامية نحو الجنوب.
أنت كنت قريباً من شيخ حسن، أين هو من كل هذا؟
أقول لك بكل صراحة... شيخ حسن في كل ما يحدث تحول لحكم وليس حاكماً... كان يحاول أن يفصل بين منازعات المجموعات المتشاكسة داخل السلطة والحركة الإسلامية.. وأصبح حكماً بين مؤيدي السلام ودعاة الحرب.. وخرج القرار من بين يده للأسف. اما الرئيس البشير فللأمانة كان مع خطة السلام ودعمني بقوة ومقتنعا بجدوها ولكن اراء اخوتنا كانت معيقة .
لكن يا دكتور الموقف من ما كنت تقوم به ورفض إخوانك له سببه إبرامك لاتفاق سري مع لام أكول في فرانكفورت في 25 يناير 1992م وموافقتك على تقرير المصير؟؟
« أجاب بانفعال»: نعم أنا عقدت هذا اللقاء واتفقنا على تقرير المصير، لكن هل هذا هو عمل خاص بعلي الحاج أم كان توجه الإنقاذ وبموافقة كل إخواننا في قيادة الدولة والحركة؟.. ومن يقول ذلك لا يعرف شيئاً ولم يقرأ شيئاً... تقرير المصير لم أوافق عليه أنا علي الحاج ولا يصح أن ينسب لي، ثم أنا من فاوض حوله وأتيت به من لقاء فرانكفورت، لكن هل كنت وحدي؟ وهل أنا متخذ القرار في البلاد؟ كنت أنفذ ما تقرره القيادة وأفاوض بالنيابة عنها، فلو كان هناك خطأ تم ارتكابه في الموافقة على تقرير المصير لماذا لم يصلحوه أو يلغوه بعدي.. وهل علي الحاج «الجن دا» هو من فعل كل هذه الخطايا ولا يتحملها معه الآخرون.. وهل كان اجتهاداً صائباً أم خاطئاً؟؟
هل تتحمل تبعات ذلك؟
أتحملها بكل شجاعة... ولكن لا يصح أن يزوغ الآخرون منها.. «يضحك» في حالات الزنقة يتملص الجميع من ما فعلوه.. لكنني لن أهرب من ما اقتنعت به... وبالله عليكم هل بعد كل سنواتنا وعملنا في الحركة الإسلامية التي أفنينا فيها عمرنا لا يذكر لي إخواني أي حسنة واحدة فقط ينسبون لي تقرير المصير؟؟
مع علي الحاج في مهجره «الجزء الثاني»
نشر بتاريخ الثلاثاء, 05 حزيران/يونيو 2012 07:04

حاوره في ألمانيا : رئيس التحرير
في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته، الدكتور علي الحاج محمد، نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والقيادي الإسلامي المعروف، الذي هاجر لألمانيا عقب الانشقاق الكبير للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني قبل اثنتي عشرة سنة واختارها منفاه لخريف عمره السياسي ...
استقبلنا د. علي الحاج بحرارة عند مدخل العمارة في هذه الضاحية الهادئة التي كانت مقر سكن الدبلوماسيين الأجانب أيام ألمانيا الغربية قبل عودة العاصمة لبرلين عقب توحيد الألمانيتين.
كان الرجل بشوشاً للغاية، مرت سنوات طويلة لم أره فيها ، كان يرتدي بنطالاً أزرق اللون، وقميصاً بخطوط طولية بيضاء على زرقاء، غزا الشيب مفرقيه، كأنه غبار الحياة ... لكن ابتسامته لم تفارقه رغم أنه كان يتلقى منّا العزاء في وفاة شقيقته...
دلفنا داخل الشقة البسيطة الأثاث، في صالون الاستقبال الرئيس، توجد مكتبة ضخمة على اليسار، فيها أمهات الكتب الدينية وعدة مصاحف، وكتب وأوراق خاصة وملفات كثيرة، وضعت على الأرفف بعناية فائقة، إلى اليمين ونحن نتجه نحو مقاعد الصالة، يوجد شبه ممر جانبي صغير يستخدمه مكتباً للكتابة والقراءة ومراجعة أوراقه، وعلى طاولة صغيرة أيضاً توجد نظارة قراءة وبعض متعلقات خاصة.. أمام مقاعد الجلوس طاولة كبيرة عليها أواني وأباريق الشاي والقهوة وسلة فاكهة، وامتلأ المكان بضحكات الرجل المعروفة وتعليقاته الفورية وأسئلته الملحاحة عن الأوضاع في البلاد والأهل والمعارف والأصدقاء.. وهو حاضر الذهن والبديهة متقد الذاكرة.. رغم أن بريقاً غامضاً في عينيه يمعن في التأكيد أنه يشعر بحنين جارف لبلده وناسه.
كل مداخل الحديث كانت سهلة للغاية.. وكل شيء يفتح ألف باب للحوار، تركت الأمور تسير بتلقائيتها وتداعيها الطبيعي قبل أن نشرع في الحوار... تناولنا معه مختلف قضايا السياسة ما سبق منها وراهنها الحالي من العلاقة بين السودان وجنوب السودان ودارفور ومستقبل الأوضاع في البلاد وأسباب غيابه الطويل وموانع عودته...
ثمة ملاحظات سريعة على علي الحاج في مهجره... حفظ القرآن الكريم، وتعمق في دراساته حدثنا طويلاً عن القراءات والروايات المختلفة ومقارناتها من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر وغرب السودان وحفظه لأجزاء من القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الربيع بنيالا رحمه الله، وأبدى ملاحظات على القراءات في دارفور وكيف حفظ الناس القرآن في الصدور، وعرفوا رسم المصحف وهم لم يروا مصحفاً مطبوعاً إلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي في طبعة الملك فاروق، وقال آراء كثيرة في هذا الجانب ويحتفظ بكتب ومصاحف بالروايات والقراءات المعروفة والمخطوطات النادرة.
زادت قناعاته لدرجة لا يوصف حدها، بأهمية الحريات العامة والثقافة الليبرالية والديمقراطية، ويبدو أن تجربته الطويلة في الغرب، جعلته ينظر وفق مراجعات فكرية وسياسية للسودان منذ عهد الحكم الوطني حتى اليوم عبر منظار نقدي صارم، أفاده في استخلاصات ختامية مفادها أن الحرية لا غنىً عنها في التطور السياسي والحكم الراشد.
من منصة خارجية ينظر للأوضاع في السودان ويجمع معلومات من مصادر شتى، مما أتاح له تقييم ما يجري بأدوات تحليله الخاصة ويصل لما يراه صواباً حين يبدي رأياً.
يكتب في هذه الفترة مذكراته الشخصية عن أحداث عاصرها، وأخرى شارك فيها وتفاعل بها، وأوضاع كان في لبِّ صناعتها، وتحولات وتطورات كانت له يد فيها ورموز وشخوص عامة عاش معها ورافقها وعمل معها وراقبها عن كثب.. لذلك تجده حاضر المعلومة لا يتحدث إلا بتواريخ وتوثيقات دقيقة يذكر فيها الساعة واليوم والشهر والسنة، وكأن ما عاشه وهو يتخطى عتبات السبعين.. كتاب مفتوح أمامه.

سارت عملية السلام من بعدكم يا دكتور.. وانتهت محطتها بنيفاشا واعتُبِرت إنجازاً ضخماً، كيف نظرت إليها وأنت كنت ملمًا بتفاصيل ما كان يدور؟
أولاً حتى حدوث وقوع المفاصلة وانشقاق الحركة الإسلامية يؤسفني القول إنه لم يتقرر حتى تلك اللحظة أن يكون هناك سلام حقيقي... والاختلال الذي حدث كان قبل المفاصلة وأدى لعلة كبيرة في نظام الحكم والحركة الإسلامية والتي أقرِّر هنا أنها لم تكن حاكمة بالمعنى الذي أعرفه أنا! صحيح حكم أفراد منها باسمها... كلنا كنا في الحكم، لكنها لم تحكم قط بمنهجها وأدبياتها وأفكارها وتوجهاتها وخططها وبرامجها الكاملة... خاصة في عملية تحقيق السلام وإنهاء الحرب وقضية الجنوب بدليل ما حدث بعد ذلك...
هل كانت تُنسج خيوط أخرى لمشروع السلام في السودان بواسطة قوى خارجية.. هل كنت تتابع هذه الخيوط؟
«رد بسرعة وبسؤال»: ماذا تقصد بخيوط تنسجها القوى الخارجية؟
أقصد أنه حدثت تحركات دولية وإقليمية لإبرام سلام في السودان تحركت الإيقاد وشركاؤها وهناك المبادرة المصرية الليبية وغيرها؟
المجتمع الدولي لم يكن له دخل كبير في الموضوع... والإيقاد تدخلها ليس صنيع المجتمع الدولي كما ذكر د. غازي صلاح الدين قبل أيام في مقال له نشرتموه أنتم في صحيفتكم... دخول الإيقاد في ملف السلام صنعناه نحن.. وتورطنا فيه بأيدينا منذ بداية تأسيس هذه الهيئة مطلع التسعينيات!!
كيف حدث ذلك؟
حدث ذلك في إثيوبيا... ولم تكن الهيئة الحكومية لمكافحة الجفاف والتصحر معنية إطلاقاً بملف وقضية السلام في السودان... لكن في سبتمبر من 1993، كان هناك اجتماع للإيقاد في أديس أبابا كان هناك اجتماع لرؤساء الإيقاد، وتحديداً في «4» سبتمبر حدث اجتماع خاص في مقلي رئاسة إقليم التقراي وموطن الرئيس الإثيوبي ملس زيناوي، وقدم دعوة للرئيسين البشير وأسياس أفورقي واجتمع هؤلاء الرؤساء الثلاثة هناك قبل القمة، وكان الرئيس معه الفاتح عروة والسفير عثمان السيد وعنايات عبد الحميد كان سفيراً آنذاك في كمبالا والدكتور نافع علي نافع وجعفر محمد صالح سفيرنا في أسمرا وكلهم «ناس أمن» وفي هذا الاجتماع تقرر كما حكى لي الرئيس بنفسه إسناد الأمر للإيقاد، بحجة أنه بعد ذهاب الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا من الحكم في بلاده، وكان يرعى مفاوضات السلام في السودان، وحتى لا تتدخل جهة خارجية، علينا أن نأتي بملف السلام للإيقاد ليكون داخل الإطار الإقليمي ولسهولة متابعتنا له وتأثيرنا فيه..
ماذا قلت للرئيس وأنت كنت ممسكًا بالملف في ذلك الوقت؟
أنا لم أكن حاضراً ذلك اللقاء في مقلي بإثيوبيا، لأنني كنت في الضعين لمتابعة موضوع يتعلق بسلام قبلي بعد مشكلة بين الرزيقات والمسيرية، كنا هناك مع الشهيد الزبير، والطيب إبراهيم محمد خير كان والياً لكل دارفور، وعبد الرحيم محمد حسين، واللواء الحسيني كان حاكمًا في كردفان، في ذلك التاريخ تقريباً يوم «3» سبتمبر سقطت طائرة الشهداء أحمد الرضي جابر وأبو قصيصة.. وعندما حكى لي الرئيس عقب عودته من قمة الإيقاد وطلبني لهذا الأمر بأن ملف المفاوضات قررنا أن نسلمه للإيقاد.. ونسبة لوجود الرئيسين ملس وأسياس وهما صديقان للسودان وساهمنا بدور كبير في نجاح ثورتيهما لإسقاط نظام منغستو واستقلال إريتريا، سيكونان معنا في متابعة ملف التفاوض في الإيقاد و«نحن حالة واحدة..» وأضاف لي الرئيس «اتفقنا على أن يكون الرئيس الكيني دانيال أراب موي هو المسؤول في الإيقاد عن هذا الملف»، ربما تم ذلك حتى لا تعطى فرصة للرئيس اليوغندي موسيفني... و...
«قاطعته» ماذا قلت للرئيس عندما أخبرك بذلك؟
سألت: هل عندكم شيء مكتوب لأراب موي وهل عندما كلفتموه حددتم له إطار تحركه وكتبتم له تفويضًا محددًا.. قال لي: «لا... لكننا كلفناه ووافق... وكلفنا وزراء الخارجية في دول الإيقاد لمتابعة تنفيذ الموضوع».. فقلت له: يا السيد الرئيس هل يستطيع وزراء الخارجية متابعة موضوع ليس من اختصاصات العمل الخارجي هو موضوع داخلي له خصوصيته؟
هل اقترحت شيئاً في حديثك هذا مع الرئيس؟
قلت له رأيي في إسناد هذا الأمر لوزراء الخارجية في الإيقاد.. وأشرت أنه من المناسب أن يكون لكل رئيس من رؤساء الإيقاد مندوب خاص أو مبعوث كما فعلنا مع نيجيريا، وقلت له إن وزراء الخارجية مشغولون ولن يتفرغوا لهذا الأمر.. وقلت له من أين سيبدأ هؤلاء؟ وقال لي: ماذا تقول أنت؟ قلت له فليبدأوا من ما توصلنا إليه في أبوجا الأولى والثانية، وتوجد لدينا في أبوجا الأولى «19» مجلدًا من الوقائع والمحاضر وتوجد في أبوجا الثانية «21» مجلدًا كلها «40» مجلدًا تحتوي كل النقاشات في كل قضايا السلام مع حركة التمرد بقيادة قرنق.. خاصة أننا في أبوجا الثانية جلسنا كسودانيين من الجانبين، وفدنا فيه سبعة برئاسة محمد الأمين خليفة، ووفد الحركة فيه سبعة برئاسة سلفا كير، وخلال يومين متتابعين في اجتماعات ثنائية لوحدنا دون وسيط ورئاسة الاجتماعات كانت بالتناوب.. وقلت للرئيس من الأفضل بعد اختيار الإيقاد أن نبدأ من هنا..
هل وافق الرئيس؟
نعم وافق على رأيي... ولذلك اقول إن دخول الإيقاد لم يكن تآمراً من جهة خارجية أو قوى دولية، كان دخولها برغبتنا وتقديراتنا وحساباتنا نحن وليس غيرنا..
لماذ أقدمنا على خطوة مثل هذه في تقديرك في تسليمنا ملف مفاوضات السلام للإيقاد؟
التفكير كان تفكيرًا أمنيًا بحتًا.. بدليل من كانوا مع الرئيس في مقلي ساعة ومكان طرح هذه الفكرة.
ماذا حدث مباشرة بعدها؟ هل باشرت الإيقاد مهامها الجديدة؟
بعد شهرين وبالتحديد في نوفمبر من العام نفسه وفي قمة التجارة التفضيلية لدول وسط وشرق إفريقيا التي عُقدت في العاصمة اليوغندية كمبالا وهي قمة دورية، ذهبنا مع الرئيس وعلى هامش هذه القمة عقد اجتماع لرؤساء الإيقاد، وحضر معنا الاجتماع غازي صلاح الدين، ورأس الإيقاد الرئيس أراب موي، وقدّم فيه الرئيس تصوُّره لكيفية إدارة هذه القضية، متطابقة مع مقترحاتي التي ذكرتها له في الخرطوم، لكن لم يكن هناك شيء مكتوب.. وأهم ما حدث بعد هذا الاجتماع أنه في عشاء في منزل السفير عنايات نفس اليوم وكان هناك بونا ملوال ووقتها كان معارضًا ومع قرنق مقيم في لندن، وكان هناك الدكتور عبد الوهاب الأفندي، وكانت هذه أول مرة يقابل بونا نلوال الرئيس البشير، وقال بونا للرئيس «ناسكم ناس د. علي الحاج ديل ما يتكلموا كتير في موضوع السلام..» وأنا شعرت أن هذا الموضع هو من أفكار الحركة الشعبية التي كانت تريد كل شيء سرياً وخاصاً.. وفهمتُ أنا مباشرة رسالة بونا ملوال، فاقترحتُ على الجلسة أن يكون هناك عمل خاص وقناة خاصة بين بونا ملوال والدكتور غازي صلاح الدين وكان وزير دولة برئاسة الجمهورية لمتابعة الموضوع.. وتمت الموافقة..
هل انتظمت هذه القناة الخاصة للاتصال بين بونا والدكتور غازي؟
لم تنتظم... لأنني قابلت بونا بعد عامين من ذلك اللقاء وسألته فأجاب بأنه من لقاء العشاء على مائدة السفير في كمبالا لم يلتقِ مع غازي ولم تكن هناك قناة خاصة للاتصال بالخرطوم..
ما الذي قامت به الإيقاد؟
حضرنا أول اجتماع للإيقاد في شهر مايو 1994م بمبادرة منا في وزارة الخارجية الكينية بنيروبي، كان الاجتماع في غرفة مكتب صغيرة كان هناك ارتباك حقيقي من الكينيين لأن وزارة الخارجية الكينية لم تكن مستعدة لمتابعة مسألة المفاوضات، وجاء وزير الخارجية الكيني وجلس معنا وصارحنا بأنه ليس لديهم أي تمويل يمكن من خلاله أن يتابعوا هذا العمل.. وليس لديهم مكان ومكاتب تخصص لمن يتابع وينسق من طرفهم وقدم اعتذارات طويلة.. ولذلك لم نعمل شيئًا ولم تفعل الإيقاد شيئًا آخر.. وشعرت وقتها أن هذا الموضوع لن يتقدم للأمام.. كما شعرت لعوامل أخرى خاصة بطبيعة تعاملنا مع هذه القضية أن «ناسنا» في الخرطوم لا يريدون للإيقاد أن تمضي بجدية نحو هدف حقيقي للسلام فهي عندهم مجرد آلية للتمويه أو شيء من هذا القبيل..
لماذا التمويه يا دكتور؟ ألم تكن هناك إرادة وتصميم والسلام خيار لا حياد عنه؟
لأنه في ذلك الوقت بعد أشهر قليلة حدثت الخلافات في وجهات النظر عن جدوى تحركات السلام، وسيطرت مجموعة الحرب والمطالبة باستمرارها على القرار.. كانت هذه المجموعات تريد كسب الوقت لتحقيق نصر حاسم في الميدان العسكري، والدليل بطء العمل وعدم حث الإيقاد على التحرك فالاجتماعات كانت متباعدة ولم يتحقق شيء يذكر.. بالرغم من أنني وعبر طائرة خاصة خصصها لنا الرئيس حملت كل مجلدات ووقائع أبوجا الأولى والثانية وسلمتها لرؤساء الإيقاد ومعي الشهيد موسى سيد أحمد..
كيف دخل أصدقاء وشركاء الإيقاد على الخط..؟
حسب تحليلي أن الإيقاد كانت تريد تمويلاً لتحركاتها وقد صارحنا وزير الخارجية الكيني بعدم وجود بند لتمويل أي تحرك، وربما كانوا يريدون التمويل لأغراض مختلفة، ودخل من هنا أصدقاء الإيقاد، ولا أعرف كيف ظهرت مجموعة أصدقاء الإيقاد، وسألنا عن الموضوع وقالوا لنا إن هؤلاء يريدون فقط المساعدة بالتمويل ولمعرفة ما يحدث.. وطبعاً عندما تقول للأفارقة إن هناك موضوعًا يتعلق بتمويل يهرعون تجاهه بشدة.. وكما أن أصدقاء الإيقاد هم دول بعيدة.. «النرويج، السويد، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا» راغبون في التدخل ولا توجد دول من الجوار العربي أو الإفريقي معهم، ثم ظهر شركاء الإيقاد والولايات المتحدة الأمريكية كطرف ثالث...
كيف تدحرجت الأمور من ذلك التاريخ حتى مشاكوس ونيفاشا؟
تركنا الإيقاد تعمل بطريقتها وعملنا على إنجاز اتفاق داخلي بأيدٍ سودانية وداخل السودان، وللحقيقة كان إنجازًا كبيرً للغاية وهو اتفاقية الخرطوم للسلام، وكنت بعيداً عن الملف وشاركت مشاركات طفيفة وضئيلة فيه، لكنه عمل سوداني خالص لا أجانب فيه، دارت فيه مفاوضات في الغابة بالجنوب وهنا في الخرطوم في فندق قصر الصداقة، وقد طلب مني الأخ الرئيس أن ألحق بتلك المفاوضات في مرحلة من المراحل ولم أكن أعرف بتفاصيل كثيرة لأنني في تلك الفترة تركت ملف السلام... لكنه بلا شك كان إنجازًا حقيقيًا.. وكانت اتفاقية فيها جدية ومقبولة لدى الناس لكننا لم نرعاها بشكل جيد ولم نكن جادين فيها وفشلت..
لماذ فشلت ..؟
بعد توقيع اتفاقية إطارية بالناصر في «1/4/ 1996م» لم يتم التوقيع على الاتفاقية الكاملة إلا بعد عام كامل في «10/4/ 1997م»، ويبدو أنه بعد اللقاء السري مع رياك مشار في الخرطوم في «1996م»، كانت تدور اجتماعات أسبوعية كل إثنين في مكتب الأخ علي عثمان وكان وزيراً للخارجية، عقب ساعات الدوام الرسمي، يحضره الشهيد الزبير النائب الأول للرئيس وعلي عثمان وعبد الرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح ود. نافع ومطرف صديق والهادي عبد الله وعوض الجاز وآخرون..
ما الغرض من الاجتماعات وهل كنت تشارك فيها؟
في البداية لم أكن مشاركاً لأنني لم أكن أعلم وأعرف عنها شيئاً، وكنت بعيداً من الملف... والشهيد الزبير بعد ستة أشهر من هذه الاجتماعات وهو «زول كويس جداً وجاد وحريص» .. أطلعني على هذه الاجتماعات ودعاني لحضورها وبالفعل حضرتها.. والغريب غازي لم يكن موجوداً فيها بالرغم من أنه كان الأمين العام للمؤتمر الوطني... وسبب غيابه كما بدا لي أن الاجتماعات كانت تصوغ الرؤى الأمنية وليست السياسية، كما أنها كانت شمالية لم يكن فيها جنوبي من الجنوبيين في المؤتمر الوطني.. وحدثت لي مشكلات في هذه الإجتماعات..
ما نوع المشكلات التي حدثت لك أو معك؟
أنا لديّ أشياء أقولها من باب الأمانة والحرص، قلت لهم بعد إعطائي الفرصة في أول اجتماع، لماذ لا يكون معنا من إخواننا الجنوبيين الملتزمين؟ لا يمكن أن يكون هناك سلام بدون الجنوبيين وكان الزبير يوافقني.. وقلت لهم إذا كانت مسألة ثقة فكيف نعمل سلام مع الآخر ونحن لا نثق بمن هو معنا.. واختلفنا في هذا الأمر وقلت لهم سأرفع الموضوع لهيئة الشورى ووافق مجلس الشورى على إشراك الجنوبيين وفي الاجتماع التالي حدث خلاف بيننا وخرج د. نافع من الاجتماع معترضاً على مسار السلام بذلك الشكل، وقال إنه ليس في أمر من هذا النوع... والغريب أن نافع عين مستشاراً للرئيس لشؤون السلام ..! وسألت علي عثمان بعد ذلك في 1999م عن تعيين نافع مستشاراً لشؤون السلام وهو يعلم موقفه، وقال لي إن نافع غيّر رأيه ...!ومجمل الأمر أننا لم نلتزم بالسلام وتنقيذ اتفاقية الخرطوم للسلام وكان هناك تململ من رياك ولام أكول وغيرهم وظهرت آراء تتحدث عنهم بانهم انفصاليون ويجب الإتيان بكاربينو وهو وحدوي ليكون رئيس المجموعة بدل رياك وجيء بكاربينو وحدث ما حدث في بحر الغزال وغضب رياك مشار وخرج ومن معه وتبدد السلام من الداخل...
كيف وصلنا لنيفاشا.. وها هي أبرز ملاحظاتك عليها؟
أولاً المجموعة التي كانت تعيق السلام هي التي جاءت بنيفاشا ولا أقصد الأخ علي عثمان هنا، للحقيقة رغم أنني كنت غير موجود وبعيدًا تماماً عن السودان وأجواء مفاوضات نيفاشا، لدي عدة ملاحظات حولها أجملها في الآتي:
1- كانت هناك تقديرات سياسية خاطئة دفعت الحكومة نحو نيفاشا، منها أن الحكومة أعطت مذكرة التفاهم بين المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية قيمة أكبر منها وأهمية لا تستحقها وظنت أن هناك اتفاقًا سريًا بين طرفي المذكرة لإسقاط الحكومة وكان هذا تقدير غير واقعي.. فعمدت لمزايدة سياسية للقفز فوق مذكرة الشعبي والشعبية..
2- جهات غربية ضغطت على الحكومة وطلبت منها الإسراع في عقد اتفاق سلام قبل أن تتبدل الظروف وتأتي مجموعات معارضة أخرى تصل لتفاهمات حول حل قضية الجنوب مع الجنوبيين، وهذا كان دافعًا للتعجل والهرولة..
3- يبدو أن جهات لم تكن راضية عن توجهات غازي صلاح الدين والطريقة التي كان يعمل بها في مشاكوس وإدارته للتفاوض وكان لدى غازي حذر وتدقيق كثير، فطلب النرويجيون وجهات غربية أخرى أن يأتي شخص آخر أكثر تفويضاً ويمثل الحركة الإسلامية... وهناك أشياء كثيرة في هذا الصدد وأسرار كثيرة، لكن المهم أن الدول الغربية لم تكن متحفظة كثيراً على علي عثمان ليقود التفاوض، وكان قرنق وبقية قيادات الحركة الشعبية في البداية غير راضين عن مجيء علي عثمان، وقالوا لي إنهم لم يرغبوا في البداية حتى في لقائه.. وقالوا كلامًا كثيرًا جداً.. حتى جاءت المواجهة الشهيرة في رمبيك التي انصاع فيها قرنق لرأي الاجتماع وذهب للمفاوضات وعندما قابل علي عثمان في كينيا عاد وهو متحمس للمضي في الاجتماع وقال إن وضعهم في المفاوضات سيكون أفضل.. وأفضل من محاوراتهم مع غازي..
لماذ كان هذا الرأي؟
الأخ علي عثمان قيادي وسياسي لكنه ليس مفاوضاً..
هل كانت هناك ضغوط غربية للوصول لاتفاق بأي ثمن في نيفاشا؟
هناك أشياء كثيرة حول نيفاشا وصناعها تحتاج لمعرفة دقيقة وليس تخمينات، وهناك مسائل لا أدري حتى اليوم لماذا وافق المفاوض السوداني عليها ولماذا تمت بهذا الشكل؟
ما هي هذه الأشياء؟
أشياء لا يمكن الموافقة عليها بسهولة وتستغرب عندما تنظر إليها، ولو لاحظت أن الديباجة بالاتفاقية ذات الطريق الواحد، تتحدث عن الوحدة، لكن في الواقع الاتفاقية كانت انفصالية لا جدال حولها فكل تفاصيلها وتطبيقاتها تشجع على الانفصال، جيش منفصل ونافذة بنك مركزي، عملة، وحدود وعلاقات خارجية ، وطبيعة حكومة الجنوب الإقليمية وصلاحياتها وسلطاتها وعلاقاتها بالحكومة الاتحادية... ونيفاشا مصممة كلها على تحقيق شيء مغاير لشعارات وتوجهات حوتها هذه الاتفاقية فهي لم تجلب سلاماً في النهاية ولم توقف الحرب..
هل ذلك بسبب أخطاء تفاوضية من المفاوض الحكومي؟
في تقديري أن المفاوض السوداني لم يكن يدرك الأبعاد الخطيرة في الاتفاقية وكان هناك استعجال للوصول لاتفاق بأي طريقة وأي ثمن كما ذكرت.. وهرولة نحو السلام.. وهي اتفاقية لا توجد فيها أية احتمالات ولا خيارات، هي مثل الزواج الكاثوليكي، تتحدث عن وحدة دون أن تكون هناك ترتيبات وتوقعات لما يمكن أن يحدث في حالة الانفصال، وما يدور اليوم هو نتاج هذه الأخطاء الكبيرة وهذا الزواج الكاثوليكي والطريق ذي الاتجاه الواحد..
ما هي الترتيبات والتوقعات التي تعتبر عدم التحوط لها أخطاء؟
هناك أشياء كبيرة جداً.. فمثلاً في موضوع قسمة الثروة، البترول كان يمكن أن يتم الاتفاق حول نسب قسمته بمدى ومواقيت أطول من سنوات الفترة الانتقالية الست، لم تكن المفاوضات حوله عميقة ولا جادة وكان يمكن أن تستمر هذه القسمة لسنوات طويلة حتى لو حدث انفصال ولم ينتبه المفاوض الحكومي لخيار الانفصال عندما وضعت صيغة قسمة الثروة، والخطأ عند المفاوض كان الاعتقاد بأن الوحدة قادمة لا محالة، فهل يعقل أن تعطي شخصاً قسمة في مائة جنيه أن يأخذ الآن خمسين وهو معك وبعد مدة محددة سيأخذ المائة كاملة فسيختار حتماً خيار المائة بدل الخمسين.. كان هناك إغراء للجنوبي بأنه سيعطى بتروله وسيكون له جيشه وكيانه الخاص... لكن هناك في نيفاشا ما هو أخطر..
ما هو الأخطر؟
الأخطر في نيفاشا أنها اتفاقية بلا وقائع ولا وجود لمحاضر حتى تكون مرجعية ترجع لها... ماذا قال هذا وبماذا رد ذلك.. هذه الوقائع مهمة للغاية لأنه يتم الرجوع إليها في حال الاختلاف حول التأويل والتفسير لنصوص الاتفاقية ...كيف يمكن أن لا تكون هناك وقائع في موضوع مصيري وتاريخي..
مع علي الحاج في مهجره: «الجزء الثالث»
نشر بتاريخ الأحد, 10 حزيران/يونيو 2012 07:31

حاوره في ألمانيا : رئيس التحرير
في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته، الدكتور علي الحاج محمد، نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والقيادي الإسلامي المعروف، الذي هاجر لألمانيا عقب الانشقاق الكبير للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني قبل اثنتي عشرة سنة واختارها منفاه لخريف عمره السياسي ...
استقبلنا د. علي الحاج بحرارة عند مدخل العمارة في هذه الضاحية الهادئة التي كانت مقر سكن الدبلوماسيين الأجانب أيام ألمانيا الغربية قبل عودة العاصمة لبرلين عقب توحيد الألمانيتين.
كان الرجل بشوشاً للغاية، مرت سنوات طويلة لم أره فيها ، كان يرتدي بنطالاً أزرق اللون، وقميصاً بخطوط طولية بيضاء على زرقاء، غزا الشيب مفرقيه، كأنه غبار الحياة ... لكن ابتسامته لم تفارقه رغم أنه كان يتلقى منّا العزاء في وفاة شقيقته...
دلفنا داخل الشقة البسيطة الأثاث، في صالون الاستقبال الرئيس، توجد مكتبة ضخمة على اليسار، فيها أمهات الكتب الدينية وعدة مصاحف، وكتب وأوراق خاصة وملفات كثيرة، وضعت على الأرفف بعناية فائقة، إلى اليمين ونحن نتجه نحو مقاعد الصالة، يوجد شبه ممر جانبي صغير يستخدمه مكتباً للكتابة والقراءة ومراجعة أوراقه، وعلى طاولة صغيرة أيضاً توجد نظارة قراءة وبعض متعلقات خاصة.. أمام مقاعد الجلوس طاولة كبيرة عليها أواني وأباريق الشاي والقهوة وسلة فاكهة، وامتلأ المكان بضحكات الرجل المعروفة وتعليقاته الفورية وأسئلته الملحاحة عن الأوضاع في البلاد والأهل والمعارف والأصدقاء.. وهو حاضر الذهن والبديهة متقد الذاكرة.. رغم أن بريقاً غامضاً في عينيه يمعن في التأكيد أنه يشعر بحنين جارف لبلده وناسه.
كل مداخل الحديث كانت سهلة للغاية.. وكل شيء يفتح ألف باب للحوار، تركت الأمور تسير بتلقائيتها وتداعيها الطبيعي قبل أن نشرع في الحوار... تناولنا معه مختلف قضايا السياسة ما سبق منها وراهنها الحالي من العلاقة بين السودان وجنوب السودان ودارفور ومستقبل الأوضاع في البلاد وأسباب غيابه الطويل وموانع عودته...
ثمة ملاحظات سريعة على علي الحاج في مهجره... حفظ القرآن الكريم، وتعمق في دراساته حدثنا طويلاً عن القراءات والروايات المختلفة ومقارناتها من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر وغرب السودان وحفظه لأجزاء من القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الربيع بنيالا رحمه الله، وأبدى ملاحظات على القراءات في دارفور وكيف حفظ الناس القرآن في الصدور، وعرفوا رسم المصحف وهم لم يروا مصحفاً مطبوعاً إلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي في طبعة الملك فاروق، وقال آراء كثيرة في هذا الجانب ويحتفظ بكتب ومصاحف بالروايات والقراءات المعروفة والمخطوطات النادرة.
زادت قناعاته لدرجة لا يوصف حدها، بأهمية الحريات العامة والثقافة الليبرالية والديمقراطية، ويبدو أن تجربته الطويلة في الغرب، جعلته ينظر وفق مراجعات فكرية وسياسية للسودان منذ عهد الحكم الوطني حتى اليوم عبر منظار نقدي صارم، أفاده في استخلاصات ختامية مفادها أن الحرية لا غنىً عنها في التطور السياسي والحكم الراشد.
من منصة خارجية ينظر للأوضاع في السودان ويجمع معلومات من مصادر شتى، مما أتاح له تقييم ما يجري بأدوات تحليله الخاصة ويصل لما يراه صواباً حين يبدي رأياً.
يكتب في هذه الفترة مذكراته الشخصية عن أحداث عاصرها، وأخرى شارك فيها وتفاعل بها، وأوضاع كان في لبِّ صناعتها، وتحولات وتطورات كانت له يد فيها ورموز وشخوص عامة عاش معها ورافقها وعمل معها وراقبها عن كثب.. لذلك تجده حاضر المعلومة لا يتحدث إلا بتواريخ وتوثيقات دقيقة يذكر فيها الساعة واليوم والشهر والسنة، وكأن ما عاشه وهو يتخطى عتبات السبعين.. كتاب مفتوح أمامه.
قبل أن نغادر محطة نيفاشا... ما الذي يدعوك للقول إنها اتفاقية بلا وقائع ولا محاضر؟ ربما هناك وقائع ومحاضر لم تطّلع عليها... وما دليلك على ذلك؟
أولاً أنا لا أتهم نيفاشا ومن صنعوها بالسهو، لكن هناك قصر نظر في تقدير الموقف كله، بالفعل لا توجد وثائق ومحاضر ووقائع الاجتماعات، وقد طلبت ذلك ولم أجد، وبُنيت كل المفاوضات خلال تسعة أشهر من لقاءات علي عثمان وقرنق، على جلسات مغلقة بينهما، وهي لقاءات تناجي بالقول، سمّيتها أنا «اجتماعات مناجاة»، ولا يمكن لقضايا مصيرية أن تناقَش بهذه الطريقة... وعندما سمّيتها بهذا الاسم غضب مني بعضُ قيادات الحركة الشعبية وقالوا لي هذه اللقاءات المغلقة كانت لمناقشة قضايا أبيي وجبال النوبة وغيرها.. وقلت لهم هذه قضايا عامة فيها مصير قطاع كبير من الشعب لا يمكن مناقشتها إلا تحت الضوء وبالوضوح الكامل تختلف حولها الآراء وتتفق... وطوال مسؤوليتي عن المفاوضات وملف السلام لم يحدث قط أن عقدنا إجتماعًا لشخصين فقط، وأنا ضد أي تسوية يتم حسمها عبر شخص واحد من هنا وشخص واحد من هناك...
«مقاطعة» لكن يا دكتور علي هناك قضايا كانت تحتاج لمثل هذا النوع من اللقاءات بين قيادتي الوفدين... لماذا يذهب الظن إلى غير ذلك..
لا اعتراض... على مستوى منهج التفاوض العام، لكن القضايا الكبيرة يجب التحاور فيها بطريقة مختلفة.. وليس لديّ ظن ولا لديّ شيء مؤكد لكني حسب تحليلي لأجواء المفاوضات أنئذٍ وشخصيتي المتفاوضَين اللذين انفردا باللقاء فإنني أعتقد أنهما كانا يناقشان كيف يُحكم السودان في شراكة سياسية بين الطرفين..
هل تقصد طرفي التفاوض «المؤتمر الوطني والحركة الشعبية»؟؟
في اعتقادي أن الطرفين علي وقرنق وهما يفضلان العمل بعيداً عن العلن.. وهذا اعتقاد قد يخطئ وقد يصيب.. والله أعلم.. وحسب تجربتي الحركة الشعبية دائماً تفضل العمل السري تحت الطاولة... ولا تريد الأشياء تُعلَن وتُطرَح للناس...
هل جاءت لحظة حاجة بالفعل لوقائع نيفاشا؟
نعم، بالفعل الآن يوجد ثابو مبيكي ولجنته للتوسط في القضايا الخلافية بين الدولتين، وهو ولجنته لا توجد لديهم خلفية كبيرة، لم يجدوا شيئاً من الوقائع و( minutes) لنيفاشا والالتزامات المكتوبة بين المفاوضين.. ويوجد فقط تفسير ذاتي لما حدث..
وهناك رأي أن الاتفاقية التي أعطت الجنوبيين كل ما يريدون لم تحقق أي مقصد من مقاصد السلام؟
أنا لست ضد إعطاء الجنوبيين أي حق لهم إذا طالبوا به واثبتوه ، لكن يجب أن يكون ذلك وفق أسس واضحة... مثل البترول كما قلت وفي خلافات الحدود وغيرها ولا أدري لماذا تم ما جرى هناك..
لو كنت مكان المفاوض السوداني، أو مكان علي عثمان، ماذا ستفعل؟
لو كنت مكان المفاوض أو شيخ علي، لما قبلت بكل شيء كما جاء في نيفاشا في موضوع قسمة البترول والسلطة والحدود، ففي موضوع البترول هذه مسألة اقتصاد حياة أو موت، لم أكن لأقبل أن يكون مناصفة ولمدة قصيرة وحتى لا أظلم أحداً أعود وأقول لا أدري ما الذي كان يجري وماذا كان يقال في الاجتماعات لأنه لا توجد لدينا وقائع ومحاضر حتى نرجع إليها في التقييم وهذه مشكلة حقيقية...
لماذا في تقديرك أهمية وجود هذه المحاضر والوقائع؟
لأنه ببساطة عندما تغيب المرجعيات والمحاضر فإن الحلول التي تأتي لمعالجة الخلافات والتأويلات والتفسيرات المتعارضة تكون حلولاً سياسية محضة... والمحاولات الجارية الآن لتسوية الخلافات مع دولة الجنوب هي محاولات لحلول سياسية لا صلة لها بنيفاشا التي غابت حقائقها وخلفياتها النقاشية تماماً.. ولا يمكن حل هذه الخلافات عبر نيفاشا وبروتكولاتها...
لكن كلنا كنا نعتقد أن الاتفاقية في صياغاتها وتفاصيلها كان هناك شهود وشركاء وخبراء من المجتمع الدولي فيها؟
يا أخي الرؤساء وناس كولون باول وهيلدا جونسون وغيرهم من حضور التوقيع كانوا حضورًا في مراسم الزواج والزفاف لا يعلمون شيئًا عن تفاصيل العقد والمهر وغيرها «يضحك»..
هل بالفعل تم توريط البلاد في قبول ضم المناطق الثلاث التي أعادت الحرب الآن من جديد؟
لم أعثر على شيء اختلف فيه المفاوض السوداني، كانوا موافقين على كل شيء قُدم لهم بخصوص المناطق الثلاث... وهو ما يؤكد قولي إنهم كانوا يبحثون عن سلام بأي ثمن... قرنق هو الذي طرح هذه القضايا للمناطق الثلاث وساعده دانفورث والأمريكان على ذلك وناسنا قبلوا بسرعة، حتى أنا أستغرب لماذا حلوا ولاية غرب كردفان مثلاً ولا أفهم المبرِّرات حولها ولا أفهم ما المقصود من المشورة الشعبية...
هل صحيح أن قرنق كان يريد بالفعل ضم المناطق الثلاث للجنوب؟
هناك حقيقة أن الحركة الشعبية قاتل لها طيلة حربها الطويلة أبناء النوبة أكثر بكثير من أبناء الجنوب والدينكا أنفسهم، وقلت في مرحلة سابقة للمرحوم يوسف كوة عندما قدم في لحظة واحدة عشرة آلاف شاب وشابة كمقاتلين في صفوف قرنق، إنكم ستقاتلون بالنيابة عن الدينكا الجنوبيين... وقرنق شعر في نيفاشا أنه في موقف لا بد من التهدئة مع النوبة والتلويح لهم ببعض الآمال...
هل كان بالإمكان تلافي هذه الأخطاء الكبيرة؟
نعم كان ذلك ممكناً، بالرجوع للناس بالداخل، ولا أعني بالرجوع أن يأتي وفد التفاوض ويجلس مع الرئيس وبعض القيادات للتنوير والتفاكر، كان يجب الرجوع لمؤسسات الحزب الحاكم وكل الجهات الأخرى التي تستطيع استنباط الرأي بدلاً من حصره في إطار ضيق...
هل فعلت أنت ذلك عندما كنت مسؤول ملف السلام؟
أنا أجزم وأقول واثقاً لم أفعل شيئاً لم يتم التشاور حوله في أجهزة الدولة والحركة الإسلامية ونصف رأيك عند أخيك... وكل الذين عملوا معي يعرفون طريقتي.. كنا نتناقش في كل شيء يقومون علينا ونهاجم وننتقد لكن في النهاية نصل لرأي جماعي نمضي عليه..
هل كان يمكن تفادي نيفاشا كلها كاتفاقية بالصيغة التي جاءت بها؟
طبعاً كان يمكن تفاديها...
كيف؟
لو أُشرك فيها الجميع ولا أقصد بالجميع القوى السياسية والأحزاب الأخرى المعارضة كالمؤتمر الشعبي أو غيره.. أنسى المؤتمر الشعبي.. كل العاملين في المجال السياسي، كان ذلك سيعطي الاتفاقية قوة لكن الغربيين كانوا يريدون المؤتمر الوطني منفرداً حتى يضغط عليه ليقبل التسوية التي تصورها الغربيون وقالوها لقرنق إن هذه الحكومة ضعيفة ومعزولة من القوى السياسية، عليك بطرح السقف الأعلى من مطالبك واضغطوا عليهم ولا تنتظروا أي قوة سياسية أخرى.. في مسألة أبيي كان يمكن الحل أن يكون عبر أهل أبيي أنفسهم لو أُشرك المسيرية كقبيلة بكل زعاماتهم كعنصر أساس للتفاوض وليس عبر أفراد، بجانب دينكا نقوك ،المسيرية والدينكا نقوك لو جلسوا وحدهم بعيداً عن تأثيرات المؤتمر الوطني والحركة لتم حل المشكلة بتراضٍ.. وبالمناسبة أبيي كانت أهم من الجنوب نفسه في فترة من الفترات بالنسبة لقرنق لأن أولاد أبيي أخطر عناصر في الحركة وكان قرنق يحسب لهم ألف حساب وهم من يقودون المشكلات مع السودان الآن ومعهم باقان أموم...
لماذ تظن أن مجرد لقاء بين المسيرية ودينكا نقوك سيحل المشكلة؟
لأن المشكلة صورها المتعلمون من أبناء أبيي من دينكا نقوك ومن ذهبت بهم السياسية في اتجاه آخر.. ولديّ قصة حكاها لي فرانسيس دينق، أن أبناء ابيي هم (out spoken) في الحركة الشعبية والقصة تقول إن فرانسيس دينق كان يريد الزواج من زميلته الشمالية وهي من أسرة معروفة وقال لوالده الناظر دينق مجوك إن عقبة الزواج أنني يجب أن أكون مسلماً فقال له والده «وأنت شنو ..» وتدخلت والدته وكانت حاضرة وقالت له «أنتو سبب المشاكل أنحنا جينا للمسيرية وعشنا معاهم عمرنا دا كلو وانحنا معهم حاجة واحدة ..» وقلت مندهشًا لفرنسيس : كلام امك دا شنو ..؟ قال لي «امنا ما عارفة حاجة» قلت له «إنتو الما عارفين حاجة»...
المهم أن نيفاشا كانت فيها قضايا يمكن تفاديها ومعالجتها أفضل مما جاءت به..
هل الموافقة على بقاء جيش الحركة في الشمال وترتيبات تقسيم السلطة في جنوب كردفان والنيل الأزرق هي القنابل الموقوتة في نيفاشا.. ونحصد ما زرعناه الآن؟
اهم ما في نيفاشا في هذه الملفات وأقولها للأسف لم يكن هناك تكافؤ بين المفاوض من جانب الحكومة والحركة... وفد الحركة كان متابعًا لكل جولات التفاوض منذ الثمانينيات مع أحزاب الديمقراطية الثالثة، ومع الإنقاذ، ووفد الحكومة لم يكن متابعًا بل قليل منهم فقط كان متابعا.
مثل مَن في وفد الحكومة؟
نافع كان متابعًا في أبوجا ومطرف..
لنعد للسؤال عن جنوب كردفان والنيل الأزرق؟
صحيح، هذه المناطق فيها قنابل موقوتة، وكانت أمام المفاوض فرصة حتى يتجنب ذلك مستقبلاً بالرجوع للخرطوم والتشاور قبل إبداء رأي نهائي بالموافقة على ما تم في البروتكولين المخصصين لهاتين المنطقتين... وكان يمكن الاستنصار بأهل هذه المناطق من فعالياتها وقواها الشعبية وزعاماتها والمجتمع الدولي الذي كان يتابع ولا يرفض مثل هذه المشاورات..
بعد كل الذي حدث .. جاءت نيفاشا والفترة الانتقالية وذهبت وانفصل الجنوب.. والآن توجد مواجهات وحرب وخلافات عميقة.. ما هي قراءاتك لتمخضات كل هذه الفترة؟
والله شوف.. هذه أكثر من آثار جانبية لنيفاشا، وأي خطأ حصل يتحمله الطرفان بذات النسبة وحصة التي أعطتها لهما الاتفاقية!! وأحمل الطرفين بقدرما لديهما من نسبة ... المؤتمر الوطني لديه 52% من السلطة والقرار والحركة 28%، كان على المؤتمر الوطني فعل أشياء كثيرة بما يملكه من نسبة، وكان لديه كل أسباب إنجاح الشراكة، وأنا أعرف المشكلات في الحركة الشعبية وعيوبها ومشكلات الجنوب بتفاصيلها، وأعرف ما كان ينبغي أن يكون، لكن أداء المؤتمر الوطني في الحكم لم يتحل بالمسؤولية الكبيرة التي كنت أتوقعها، ليس من أجله هو لكن من أجل تجنيب البلاد ما نراه اليوم.. وليس لدي معيار آخر غير نسب المشاركة لتقييم الموقف.
ما هي تداعيات ما بعد نيفاشا وانفصال الجنوب؟
ما يهمني الآن بصدق بعد أن صارت نيفاشا والجنوب جزءاً من التاريخ .. هو ما تبقي من السودان والحفاظ عليه، وألا يكون مصيره هو مصير الجنوب.. وموجة الذي حدث في الجنوب يمكن أن تتكرر في مناطق أخرى، حتى لا يتكرر ما حدث في الجنوب.لا بد من الحذز واليقظة والصدق..
«مقاطعة» لكن هناك قضايا عالقة؟
القضايا العالقة هذه صعبة.. لا الجنوب وحده ولا السودان وحده يستطيعان حلها، وهناك حلول موجودة ولكن توجد مشكلة تتعلق بالمصداقية من الطرفين، فالجنوب يشعر باهتزاز في القرار في الخرطوم، والسودان يشعر بأن الجنوب لا يرغب في تسوية الأمور، والدليل أن هناك اتفاقاً أبرمه نافع وألغي، واتفاقاً آخر ألغي، والجنوب فيه أيضاً آراء كثيرة وهذه معضلة لا بد من تجاوزها.
لماذا تحدث مثل هذه المواقف التي تجعل الثقة تفقد بين الطرفين؟
هناك أشياء متعلقة بالتفويض الذي يُمنح للمفاوضين وحدوده، وانفراد المفاوضين بالموافقة على أشياء كان يجب الرجوع والتشاور حولها.
ما مستقبل العلاقة بين السودان وجنوب السودان؟
العلاقة مرهونة بحسن التصرف والثقة، والجنوبيون ليس لهم غير التعامل مع السودان، وهو المجال الحيوي لهم في تعاملاتهم، واندماجهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي مرتبط بالسودان وليس كينيا أو يوغندا، ففي فترة الحرب جاءوا إلى هنا، والغريب لا تجد جنوبياً تزوج كينية أو إثيوبية، وإن وجد تعد الحالات على أصابع اليد الواحدة، ولا توجد لديهم علاقات بشرق إفريقيا وهناك من يدفعهم تجاه هذه الدول، لكن الخيار الأفضل لهم هو الاتجاه شمالاً.. وهناك فرص يجب استثمارها بالحوار البناء والجاد للوصول لصيغة تعايش.
لكن يبدو أن الجنوب حدد خياراته الآن واختار طريقه كما يشاء.. فلماذا نلهث وراءه؟
استطيع أن أقول وهذا موجود في الوثائق التاريخية للبريطانيين في فترة الاستعمار وبعدها لا توجد أصلاً في كل الخيارات خيار لاستقلال الجنوب على الإطلاق، وكل ما قرأته وبحثت عنه أني وجدت ثلاثة أفتراضات فقط تحدد مصير الجنوب، وهي إما أن يكون جزءاً تابعاً للسودان، أو جزءاً من شرق إفريقيا ، أو يُقسم الجنوب على أن يكون جزء تابعاً للشمال في السودان وأجزاء تضم ليوغندا وكينيا وإثيوبيا.. هذه هي الخيارات والافتراضات التي وضعت أصلاً للجنوب، ولم يكن من بينها صناعة جنوب مستقل، والوثائق موجودة، والأدبيات متاحة في الوثائق البريطانية والأمريكية ولدى بعض البلدان الأوروبية. يتبع .
مع علي الحاج في مهجره «الجزء الرابع»


التفاصيل
نشر بتاريخ الأربعاء, 13 حزيران/يونيو 2012 07:30

حاوره في ألمانيا : رئيس التحرير
في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته، الدكتور علي الحاج محمد، نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والقيادي الإسلامي المعروف، الذي هاجر لألمانيا عقب الانشقاق الكبير للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني قبل اثنتي عشرة سنة واختارها منفاه لخريف عمره السياسي ...
استقبلنا د. علي الحاج بحرارة عند مدخل العمارة في هذه الضاحية الهادئة التي كانت مقر سكن الدبلوماسيين الأجانب أيام ألمانيا الغربية قبل عودة العاصمة لبرلين عقب توحيد الألمانيتين.
كان الرجل بشوشاً للغاية، مرت سنوات طويلة لم أره فيها ، كان يرتدي بنطالاً أزرق اللون، وقميصاً بخطوط طولية بيضاء على زرقاء، غزا الشيب مفرقيه، كأنه غبار الحياة ... لكن ابتسامته لم تفارقه رغم أنه كان يتلقى منّا العزاء في وفاة شقيقته...
دلفنا داخل الشقة البسيطة الأثاث، في صالون الاستقبال الرئيس، توجد مكتبة ضخمة على اليسار، فيها أمهات الكتب الدينية وعدة مصاحف، وكتب وأوراق خاصة وملفات كثيرة، وضعت على الأرفف بعناية فائقة، إلى اليمين ونحن نتجه نحو مقاعد الصالة، يوجد شبه ممر جانبي صغير يستخدمه مكتباً للكتابة والقراءة ومراجعة أوراقه، وعلى طاولة صغيرة أيضاً توجد نظارة قراءة وبعض متعلقات خاصة.. أمام مقاعد الجلوس طاولة كبيرة عليها أواني وأباريق الشاي والقهوة وسلة فاكهة، وامتلأ المكان بضحكات الرجل المعروفة وتعليقاته الفورية وأسئلته الملحاحة عن الأوضاع في البلاد والأهل والمعارف والأصدقاء.. وهو حاضر الذهن والبديهة متقد الذاكرة.. رغم أن بريقاً غامضاً في عينيه يمعن في التأكيد أنه يشعر بحنين جارف لبلده وناسه.
كل مداخل الحديث كانت سهلة للغاية.. وكل شيء يفتح ألف باب للحوار، تركت الأمور تسير بتلقائيتها وتداعيها الطبيعي قبل أن نشرع في الحوار... تناولنا معه مختلف قضايا السياسة ما سبق منها وراهنها الحالي من العلاقة بين السودان وجنوب السودان ودارفور ومستقبل الأوضاع في البلاد وأسباب غيابه الطويل وموانع عودته...
ثمة ملاحظات سريعة على علي الحاج في مهجره... حفظ القرآن الكريم، وتعمق في دراساته حدثنا طويلاً عن القراءات والروايات المختلفة ومقارناتها من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر وغرب السودان وحفظه لأجزاء من القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الربيع بنيالا رحمه الله، وأبدى ملاحظات على القراءات في دارفور وكيف حفظ الناس القرآن في الصدور، وعرفوا رسم المصحف وهم لم يروا مصحفاً مطبوعاً إلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي في طبعة الملك فاروق، وقال آراء كثيرة في هذا الجانب ويحتفظ بكتب ومصاحف بالروايات والقراءات المعروفة والمخطوطات النادرة.
زادت قناعاته لدرجة لا يوصف حدها، بأهمية الحريات العامة والثقافة الليبرالية والديمقراطية، ويبدو أن تجربته الطويلة في الغرب، جعلته ينظر وفق مراجعات فكرية وسياسية للسودان منذ عهد الحكم الوطني حتى اليوم عبر منظار نقدي صارم، أفاده في استخلاصات ختامية مفادها أن الحرية لا غنىً عنها في التطور السياسي والحكم الراشد.
من منصة خارجية ينظر للأوضاع في السودان ويجمع معلومات من مصادر شتى، مما أتاح له تقييم ما يجري بأدوات تحليله الخاصة ويصل لما يراه صواباً حين يبدي رأياً.
يكتب في هذه الفترة مذكراته الشخصية عن أحداث عاصرها، وأخرى شارك فيها وتفاعل بها، وأوضاع كان في لبِّ صناعتها، وتحولات وتطورات كانت له يد فيها ورموز وشخوص عامة عاش معها ورافقها وعمل معها وراقبها عن كثب.. لذلك تجده حاضر المعلومة لا يتحدث إلا بتواريخ وتوثيقات دقيقة يذكر فيها الساعة واليوم والشهر والسنة، وكأن ما عاشه وهو يتخطى عتبات السبعين.. كتاب مفتوح أمامه.
كيف تتراءى لك الأوضاع في البلاد الآن هناك خلافات مع دولة الجنوب وتطورات في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور؟
الأوضاع واضحة لي، تجسيد افتراض جديد تم في الجنوب بقيام دولته التي لم تكن لتقوم لو أحسنت إدارة عملية السلام، كما أن لديّ إشفاق كبير مما يحدث في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق لأن هناك موجة عاتية بعد انفصال الجنوب قد تصيب هذه المناطق... لكن الأهم من هذا كله أرى ومن على البعد وأحس بقوة أن المشكلات التي بسسببها خرجنا نحن من الإنقاذ تضرب في مراكز القرار أيضاً نفس المشكلات وتكرار الان لها.. أراها من بعيد وبنفس الملامح التي حدثت من قبل وهذا مكمن الأمر ولن تؤدي لنتائج إيجابية..
في العلاقة مع الجنوب وبعد قرار مجلس الأمن الدولي رقم «2046» ودفع الدولتين السودان والجنوب نحو التفاوض هل هذا حل للمشكلة؟
مجلس الأمن الدولي والقوى المسيطرة عليه ليسوا رسلاً ولا أنبياء ولا ملائكة.. لديهم أهداف وأولويات ولديهم مصالح وأغراض.. ومن الأفضل أن لا ننظر لأغراضهم ومصالحهم الكثيرة.. يجب النظر في مصالحنا نحن في السودان: ما هي، وماذا نريد من القرار ومن المفاوضات التي تستأنف مع الجنوب...
لماذ يتم إجماع في مجلس الأمن الدولي حول قضايا السودان بينما روسيا والصين تتخذان مواقف تصل لاستخدام حق النقض في مسألة سوريا وزيمبابوي من قبل وماينمار وغيرها..
من يقرأ ما يحدث في العالم يلاحظ أن هناك عودة غير معلنة وبقوة لتكتلات قادمة وهذا ظاهر في المسألة السورية... أما في ما يختص بالسودان فإننا لم نحدد حتى الآن في علاقاتنا الخارجية ماذا نريد وهذا سؤال كبير جداً.. نلجأ للأفارقة أحياناً ونشتكي لمجلس الأمن أحيانًا أخرى.. لا أحسنا علاقاتنا مع الغرب ولا مع الأفارقة ولا حتى مع كل العرب..
هل ترى الاستعجال في القبول بخارطة مجلس السلم والأمن الإفريقي الأخيرة التي مهدت لقرار مجلس الأمن الدولي بشأن الحالة الماثلة مع دولة الجنوب؟
السودان هو الذي استعجل، واستعجاله هو الذي شجع أطرافًا في مجلس الأمن لاتخاذ القرار... مثلما اعتبرنا ناس الإيقاد أصحابنا تورطنا في الموافقة غير المدروسة والمشروطة مع خارطة طريق مجلس السلم والأمن الإفريقي..
ما الطريق الثالث إذن ما بين رفض خارطة الطريق والقبول بها؟
الطريق كانت قناعتي ولا تزال هي الحديث المباشر مع الجنوبيين ونتفاهم معهم في كل شيء ونصل لاتفاق.. إذا كان السودان فقد كل شيء فقدنا الجنوب وبتروله فينبغي أن نتحلى بنفس الكياسة التي تعاملنا بها في قضية تقرير المصير والانفصال في الوصول لحلول بالتراضي دون إدخال أطراف إقليمية ودولية تعقد المشكلات ولا تحلها...
لكن هناك مشكلات في الحوار المباشر.. مع وجود تعقيدات في الملف الأمني وقضايا الحدود والبترول ومروره وذكرت أنت أن هذه القضايا الخلافية صعبة؟
صحيح القضايا الخلافية صعبة... لتعقيد في طريقة الحوار المباشر مع الجنوبيين وهو بالمناسبة الطريق الأفضل... فبالرغم من وجود تيار في الجنوب لا يريد الحوار المباشر ويريد شهودًا دوليين لكن الأفضل للطرفين هو حل خلافاتهما مهما كانت دون كلفة كبيرة... لابد من بناء المصداقية والثقة من جديد... وأنا أرى هناك قرارات تصدر ولا تنفَّذ في الجانبين في الجنوب وهنا في الخرطوم حتى القرارات الرئاسية لا تنفَّذ..
إلي أين يسوقنا المجتمع الدولي الذي انغمس بكلتا يديه ورجليه في قضايانا؟
هذا سؤال أساسي... المجتمع الدولي وجد الحكومة ترضخ لكل شيء وفيها ضعف وليس معها أحد وفيها مشكلات أخرى وملفات مفتوحة مثل المحكمة الجنائية وغيرها من الموضوعات التي يضغط بها ويستخدمها سياسياً.. فلذلك كل طرف في المجتمع الدولي يريد من الحكومة أن تتنازل للحد الأقصى.. يريد أن يأخذ كل شيء.. نعم كل شيء... التعامل الدولي مع السودان أشبه بالتعامل مع الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر... فالقوى الخارجية تريد هذا... وكل ما يقال في الخرطوم من مواقف تبدو قوية ومتحدية في النهاية ترضخ الحكومة وتوافق.. وقد فهم المجتمع الدولي الوضع النفساني للحكومة.. فلا ينزعج المجتمع الدولي والدول الغربية للهجة الحادة المتحدية... وفي النهاية تذعن الحكومة لما يريدون..
هل يسعى الغرب حقيقة لإسقاط النظام في الخرطوم؟
هناك أفكار لدى الغربيين أن هذه الحكومة حكومة تمثل الإسلاميين وأن الإسلام هكذا وتريد من إضعاف النظام والضغط عليه والتلاعب به إثبات أن التجربة الإسلامية تجربة فاشلة ولا قدرة للإسلاميين على إدارة الحكم في أي دولة.. لكن هذا كله كوم... فالسؤال المهم ماذا تريد أن تعمل أنت أقصد ماذا تريد الحكومة أن تعمل؟ وما هي خياراتها وتوقعاتها ووسائلها للخروج من هذا المأزق...
لكن يا دكتور.. المؤامرة الدولية كانت موجودة وأنتم في السلطة أيضاً.. ماذا فعلتم آنذاك؟
كنا موجودين وكانت المؤامرة الخارجية موجودة.. لكننا كنا نلف وندور ونرجئ المواجهة، كلها كانت تدابير وقائية... لكن أنا أقول كلما تنازلت طلبوا منك التنازل أكثر يجب أن تلعب اللعبة الدولية بحذر وذكاء وليس برضوخ وقبول لكل شيء.. وأظن هناك من يعرف هذا جيداً بين إخواننا هؤلاء..
هل تري أن للغربيين رهانًا على بدائل أخرى في السودان؟
أولاً هم لا يرغبون في بدائل مثل حزب الأمة والصادق المهدي والاتحادي ناس الميرغني... هؤلاء بالنسبة إليهم غير مرغوبين، يحاولون الآن العمل ضد النظام بالنفس الطويل والموت البطيء وإضعافه تدريجياً حتى النهاية...
وأين الشعب السوداني من كل الذي يجري أمامه؟
الشعب السوداني يتطلع للسلام والعيش في اطمئنان ولا يريد الحرب، على الحكومة أن تفكر بعمق للحفاظ على ما تبقى من السودان، لقد انتهي عهد القياصرة والأباطرة ونابليون.. لا أحد يريد أن يشيد له قوس النصر.. هناك مطلوبات ضرورية لسلامة البلاد وترابها وتأمينها لابد أن تكون، ولن تتحقق إلا بالجدية والعمل الدؤوب المخلص.. وهذه مسؤولية مركز القرار الأعلى فمثلاً نجت جنوب إفريقيا من احتمالات المواجهة وحمامات الدم المتوقعة ليس بسبب مبادرة من مانديلا بل بقرارات شجاعة من ديكليرك، فصاحب القرار هو الذي يستطيع قيادة شعبه لبر الأمان..
ما الذي تعتقد أن الرئيس البشير يمكن أن يفعله؟
الرئيس البشير إذا توفرت الإرادة يستطيع قيادة هذه البلاد إلى بر آمن ، لكنه ليس وحده.. القرار في الخرطوم تشاركه في صنعه جهات كثيرة وهو ليس وحده.. بإرادة يمكن أن يعبُر بالسودان هذه المرحلة لأنه الوحيد المنتخب... وأرى أن الذين حوله انتهت صلاحيتهم لقيادة مبادرات جديدة.. عليه إجراء تغييرات وجراحات عميقة.. وتوجد لديه فرصة لكن تحتاج لإرادة سياسية قوية لعمل شيء يُحسب له..
إذا مشى خطوة نحو الآخرين هل ستخطن نحوه خطوة..
نحن من؟
القوى السياسية ومنها أنتم المؤتمر الشعبي؟
أنا لا أعتقد أن المؤتمر الشعبي فيه أناس الآن متربصون وينتظرون حدوث شيء ما... ولا يوجد شيء يمكن أن نبني عليه.. أنا مثلاً موجود هنا في ألمانيا والله لا أعلم ما الذي يفعله المؤتمر الشعبي الآن في الخرطوم.. أنا أقول ومن يريد أن يشتمني حتى من المؤتمر الشعبي في قولي هذا فليشتمني...
لندخل في موضوع دارفور... أنت يا دكتور علي متهم لدى كثير من الناس أنك ساهمت بدرجة كبيرة في تعقيد هذه القضية ولعبت دورًا في تدويلها... كما أنه كان بإمكانك المساعدة في حلها؟
أولاً اتهامي بتعقيدها اتهام غير صحيح... أنا صحيح مؤمن بقضية دارفور أنها مظلومة ومتخلفة تنموياً ومهمشة سياسيا.. لكني لم ألعب دوراً مع الحركات المسلحة في تعقيدها.. لا أؤمن بالعمل العسكري على الإطلاق...
لكن أنت متهم وتوجد شواهد على ذلك؟
لا توجد أي شواهد... المحزن أن الحكومة التي يعرفني أصحابها قدمت شكوى ضدي لمجلس الأمن الدولي والإنتربول تتهمني بالتورط وتدبير أحداث ضرب مطار الفاشر.. في 29/12/2003 وأنا المتهم الأول في القضية والشكوى مقدمة لمجلس الأمن ضد «علي الحاج وأخرين»!!.. والتهم ضدي كلها تؤدي للإعدام، والغريب أن من فعلوا هذا الفعل «ناس مني أركو مناوي» الذين فعلوا ذلك كتبوا بعدي ومعهم خليل وغيرهم وهناك شخصيات أخرى لا صلة لها حتى بدارفور وغير موجودين في السودان من سنين طويلة جداً والمضحك أن في الأسماء عمر سليمان الذي صار وزيرًا وواليًا بعد ذلك في جنوب كردفان... وزراني مندوب بعد هذه الشكوى من مجلس الأمن وهو سويسري.. وقال لي أنت موَّلت هذه الحركات.. قلت له أنت تعرف أوروبا وقد زرتني هل تعتقد أن هناك قروشًا لتمويل الحركات.. كل هذا كلام فارغ لا قيمة له... وغير واقعي...
لكن لك اتصالات بالحركات المسلحة؟
لدي اتصالات بجهات كثيرة في السودان وخارجه ... وهم من يتصل بي وبعضهم يسألني ويستشيرني نحن فعلنا كذا وكذا وأنصحهم بما يرضي ضميري في عدم سفك الدماء وإطلاق سراح من يقبضونهم من مواطنين أو أسرى عمليات ومن يتصلون بي لا أعرفهم في كثير من الأحيان.. لكنني لستُ مع الحركات ولا أؤمن بهذا النوع من العمل..
لكنك كما يقال سهلت لهم التعامل بعلاقاتك مع أطراف دولية في أوروبا وأمريكا وفتحت لهم أبوابًا مع أعضاء في الكونغرس وبرلمانات أوروبية؟
هذا كله خطأ وغير صحيح.. والمؤسف أن إخواننا جاءتهم هذه الفكرة من الإشاعات، وأؤكد الآن أن العمل الوحيد الذي شاركت فيه وأيدته هو انقلاب الإنقاذ الذي شاركنا فيه وأيدناه ونفذناه بقرار سياسي من الحركة الإسلامية فهو لم يكن انقلاب عسكريين...
وماذا عن تحالف كاودا الحالي؟
ليس لي به علاقة ولن تكون، أنا ضد هذا الأسلوب من العمل السياسي العسكري، وإذا افترضنا مثل هذا التحالف والحركات حققت شيئاً وأسقطت النظام سيأتي للسلطة هؤلاء أنفسهم، من نفذوا العمل العسكري، ومن يقودون هذه الحركات، ولن يأتوا بسياسي معهم أبداً... لكني في وضع لا أنصح فيه أحداً.. لكني أعرف دارفور شبراً شبراً ولن أصحح أي معلومة لأحد إذا ظن أنني عنصري وجهوي وهذه صفات لم تلتصق بي طيلة حياتي ومن يروِّجون لها لا يعرفون علي الحاج جيداً..
لكنك اتُّهمت اتهامات عديدة في طريق الإنقاذ الغربي وغيره؟
«يضحك ثم يعتدل ويتحدث بنبرة جادة...» اتهموني بأنني أكلت أموال طريق الإنقاذ الغربي، كلها افتراءات كاذبة.. للأسف بعض هؤلاء الذين روجوا لمثل هذا القول يعرفون ما أملك سواء في الخرطوم أو بيتي في لندن من السبعينيات وبعضهم أقام فيه وسكن في هذا البيت... وعندما يعجز الناس يلقون هذه التهم، ومن لديه دليل ضدي فليقاضني به... ولا يصح إلا الصحيح..
ما هي علاقاتك الآن مع من هم في السلطة الآن؟
توجد علاقات على المستوى الإجتماعي ببعضهم أتحدث معهم في مدد متطاولة في مناسبات اجتماعية.. لكني لم أتحدث مع الرئيس البشير منذ خروجي...
تحدثت مع من منهم؟
إتصلت بالأخ شيخ علي مرة عندما وقع حادث مروري لأسرته، وأتحدث مع غازي صلاح الدين وأحمد عبد الرحمن وهناك من يزورني هنا إذا قدم إلى ألمانيا وسنحت الفرصة وألتقي البعض في الحج أو العمرة إذا ذهبت..
هل انتهت أسباب غيابك عن الخرطوم؟
لا.. لا.. لم تنتهِ «يضحك بشدة» القضايا المرفوعة ضدي بضرب مطار الفاشر وغيرها لا تسقط بالتقادم!!
«وأنا أودع الأخ علي الحاج ومعي الأخ صلاح عبد الله علي وهو من قدامى الإسلاميين جنّده للحركة الإسلامية علي الحاج عندما كانا طلبة في مدرسة المؤتمر الثانوية بأم درمان... كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وعلينا اللحاق بقطار آخر الليل في محطة القطارات القريبة من بيته لتقلنا لمحطة أخرى في بون ومنها عبر مدينة كولونيا إلى دوسلدورف... كان بالرجل حنين جارف للسودان وربما حيرة في عينيه يخفيها وراء ابتسامة غامضة... وافترقنا....!!!
انتهى...
///////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.